نديم قطيش/القلعة الجوفاء: بعدما هدأ غبار الهجوم على إيران

2

القلعة الجوفاء: بعدما هدأ غبار الهجوم على إيران
نديم قطيش/أساس ميديا/22 كانون الأول/2025
لم يكن من باب الصدفة، أن تركّز الآلة الدعائيّة للنظام الإيرانيّ على مقولة إنّ الحرب الإسرائيليّة “فشلت في إسقاط النظام”. فحين تتعرّض دولة ما، للمهانة التي تعرّضت لها إيران خلال حرب الأيّام الـ 12، تضيق الخيارات، إلى الحدّ الذي يصبح معه البقاء في حدّ ذاته نصراً. بيد أنّ المفارقة تكمن في أنّ إسقاط النظام لم يكن هدفاً معلناً أو حتى مضمراً لهذه الحرب التي شنّتها إسرائيل. كان النظام خطّاً أحمر أميركيّاً لرئيس يريد أكبر النتائج بأقلّ الأكلاف وأقصر مدد التورّط. مع ذلك فإنّ النتائج الاستراتيجيّة الحقيقيّة لحرب الأيّام الاثني عشر ذهبت بعيداً في إعادة رسم موازين القوّة، وموقع، ومستقبل الجمهوريّة الإسلاميّة على نحو يجعل من عنوان “بقاء النظام” مجرّد قشرة خارجيّة لكيان يتآكل من الداخل.
عراء استراتيجيّ
أوّلاً: صنعت طهران لنفسها، خلال عقود طويلة، صورة الدولة المقتدرة تقنيّاً، والتي نجحت في بناء ترسانتها رغم الحصار، بالاتّكال على قدرات ذاتيّة وقاعدة علميّة وتقنيّة وصناعيّة، وشبكة من الحلفاء الإقليميّين والدوليّين. حطّمت الحرب هذه الصورة تماماً. لم يكن الأمر مجرّد خسارة عسكريّة، بل كان “إهانة تكنولوجيّة” كشفت فجوة هائلة بين ما تدّعيه طهران وبين واقع التفوّق الإسرائيليّ. فالاختراق الاستخباراتيّ التقنيّ الذي سمح بمسح الأهداف، وتحديد مساكن أركان النظام والمواقع الحسّاسة بدقّة متناهية، بعث برسالة واضحة لجهاز الأمن الإيرانيّ: قلعتكم مجوّفة وحصانتكم ليست أكثر من حكاية تصلح للأمسيات الأنيسة. بدّدت الحرب التوازن التقنيّ الإيرانيّ المزعوم وأظهرت للعالم أنّ كلّ ما قيل في هذا المجال لم يكن سوى وهم.
ثانياً: أفقدت الحرب إيران أهمّ أوراقها: البرنامج النوويّ. فمن خلال تدمير الدفاعات الإيرانيّة والبنى التحتيّة المساندة للمشروع النوويّ وجد النظام نفسه في عراء استراتيجيّ.
تلاشت استراتيجية إيران، التي قامت لعقود على “الغموض والردع” ومناورة القوى الكبرى، مع تلاشي المظلّة الدفاعيّة، وبات التهديد بالتصعيد النوويّ عبئاً.
بفقدان الورقة النوويّة وورقة الدفاع الصاروخيّ، وانكشاف الفجوة التكنولوجيّة بينها وبين إسرائيل، سارعت طهران، في ذروة الهجوم الإسرائيليّ، إلى توجيه تركيزها الأكبر نحو الداخل وليس نحو الجبهات، لمنع وقمع أيّ انفجار شعبيّ يواكب الحرب.
كلّ عناصر الانتفاضة متوافرة، وسط أزمة شرعيّة تدلّ عليها معدّلات تضخّم تتجاوز 50%، وانهيار تاريخيّ للعملة، وسقوط أكثر من ثلث الإيرانيّين تحت خطّ الفقر. إلى الانهيار الاقتصاديّ، تُضاف أزمة مياه غير مسبوقة تهدّد نصف السكّان وكامل القطاع الزراعيّ الذي تراجعت إنتاجيّته بأكثر من 7%، بالإضافة الى انقطاعات كهربائيّة يوميّة لـ4-5 ساعات شلّت نصف القطاع الصناعيّ. ليست هذه الأزمات البيئيّة والخدماتيّة عوارض جانبيّة، بل محفّزات مباشرة لانفجار اجتماعيّ وشيك، تزداد احتمالاته في ضوء عودة العقوبات الأمميّة عبر آليّة الـ”snapback”.
على الصعيد الدوليّ، وجدت إيران نفسها معزولة حتّى من حلفائها التقليديّين في اللحظة الأكثر حرجاً منذ 1979. روسيا، المنشغلة بمستنقع أوكرانيا والوثيقة الصلة بإسرائيل، اكتفت بالإدانة الشفهيّة دون أيّ دعم عمليّ. الصين، رغم مصالحها الاقتصاديّة الهائلة في استقرار الشرق الأوسط عامّةً، وحصّتها الرئيسيّة من النفط الإيرانيّ، فضّلت المشاهدة الحذرة وتجنّب المواجهة مع واشنطن.
نجاة الجريح المُثخَن
تتقاطع هذه الخسارات الاستراتيجيّة مع عامل بيولوجيّ حاسم. المرشد علي خامنئي البالغ من العمر 86 عاماً، والذي تقلّص ظهوره بشكل دراماتيكيّ بعد الحرب، يواجه تحدّيات صحّية موثّقة، فيما يسارع النظام، الذي لم يتعامل سوى مع خلافة واحدة خلال 46 عاماً، إلى ترتيب خلافته وسط صراعات وتجاذبات قاسية. وعليه فإنّ أيّ انتقال للسلطة الآن سيحدث في ظلّ انهيار اقتصاديّ، وعراء أمنيّ استراتيجيّ، وغضب شعبيّ متصاعد، وانقسام حادّ في النخبة. ولئن كانت لحظات الخلافة في الأنظمة الشموليّة هي لحظات الضعف القصوى، تترافق لحظة خامنئي مع عدم امتلاك النظام رفاهية الوقت لإعادة ترتيب صفوفه في ضوء الوقائع الجديدة.
الانقسامات تتصاعد داخل النخبة الحاكمة بشكل غير مسبوق، في مؤشّر على تصدّع البنية التي حافظت على تماسك النظام لعقود. أكثر من 200 خبير اقتصاديّ ومسؤول سابق دعوا علناً لـ”تحوّل في نموذج الحكم”، فيما حذّر الرئيس الأسبق حسن روحاني من أنّ “الأزمة فرصة لإعادة بناء أسس الحكم أو الانهيار”. لكنّ الحرس الثوريّ، الذي يسيطر على أكثر من 40% من الاقتصاد ويمتلك السطوة العسكريّة، يرفض أيّ تنازلات تغامر بهيبة نظام الثورة ويتّهم الإصلاحيّين بـ”الخيانة”.
هذا الصراع داخل النظام بين جناح يراهن على المرونة من أجل البقاء وآخر يريد البقاء عبر المزيد من توظيف القبضة الحديديّة، قد يكون أخطر على النظام من كلّ الضغوط الخارجيّة مجتمعة.
لم يبقَ من عُدّة شغل النظام الإيراني إلّا آلة القمع التي لا تزال أقوى من زخم الشارع حتّى هذه اللحظة، وهو ما منع الضغط الإسرائيليّ الخارجيّ عبر الحرب، من تحفيز التغيير الداخليّ.
مع ذلك فإنّ الوقت يعمل لصالح الإيرانيّين وليس لصالح نظامهم، وهو ما تدركه إسرائيل وتتحيّن فرصه لتكون عاملاً مسرّعاً للتغيير، يُستحسن أن يكون فعلاً إيرانيّاً خالصاً.
ما يُسقط الأنظمة القمعيّة مثل الاتّحاد السوفيتيّ أو فنزويلا، ليس المعاناة وحدها، بل الالتقاء بين الغضب الشعبيّ مع الانقسام الحادّ في أوساط النخبة العسكريّة أو السياسيّة، وعناصر الضغط أو التيسير الخارجيّة، الناعمة أو الخشنة أو الاثنتين معاً.
لم تنجح حرب الأيّام الـ 12 في تفعيل هذه المكوّنات بعد، إلّا أنّها سرّعت من وتائر تآكل قدرات النظام الذاتيّة بالتوازي مع تصفية وإضعاف أدواته الخارجيّة كمثل “الحزب” و”حماس” والميليشيات العراقيّة، وبنسبة أقلّ، ميليشيا الحوثيّ.
نجت إيران إلى الآن، على الرغم من انكشافها العسكريّ والأمنيّ والتكنولوجيّ، وفقدانها لورقة الردع النوويّة. لكنّها نجاة الجريح المُثخَن، الأقرب إلى موت بطيء منه إلى أيّ تعافٍ مضمون.
ضعفها البيِّن يفتح المجال لإعادة رسم كاملة للتوازنات في شرق أوسط لن تعود فيه طهران اللاعب المحوريّ الذي كانته لأربعة عقود. تركيا تتمدّد في سوريا لملء الفراغ، وإسرائيل ترسّخ هيمنتها العسكريّة غير المسبوقة، ودول الخليج تعيد حساباتها الاستراتيجيّة في ظلّ غياب التهديد الإيرانيّ.
إيران، التي لطالما قدّمت نفسها كقوّة إقليميّة لا يمكن تجاهلها، باتت اليوم مجرّد مشكلة قابلة للتجاوز. لعلّ هذه الهامشيّة المتنامية، وليس الهزيمة العسكريّة فقط، هي الإذلال الاستراتيجيّ الأعمق الذي تعاني منه الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران.

Share