ما أشبه اليوم بالأمس: غنى نظام التعددية في لبنان
الكولونيل شربل بركات/10 كانون الأول/2025
كان تميّز لبنان الجغرافي عن المحيط الحافذ الرئيسي منذ بداية التجمعات البشرية لنشوء التعددية الثقافية فيه أي الاختلاف في الرؤية مع استمرار امكانية العيش بجانب الآخر، وهي ما يسمى اليوم حرية الرأي وبالتالي المعتقد. من هنا كان هذا اللبنان بالنسبة لما حوله يختلف بمحافظته على التنوع مهما تبدلت الظروف.
كان البحر حاجة لسكان لبنان لممارسة حريتهم الاقتصادية بعيدا عن تأثير القوى الكبرى الناشئة عن التنظيمات البشرية في الأحواض الكبرى من حولنا، أي وادي النيل وما بين النهرين. وقد حاولت غزوة شعوب البحر، الذين كانوا تتلمذوا على يد الفينيقيين في ركوب الأمواج، أن تقطع الطرق البحرية وتوقف تطور المدن الفينيقية، فسقطت دولة الحثيين على يدهم، ثم سقطت اوغاريت ودمرت، واستهدفت أرواد فتقلص تأثيرها وحمايتها لحماة الغنية، ما دفع ملك آرام الساكن دمشق على احتلالها. ومن ثم، بعدما أوقف المصريون هذه الغزوة وحوّلوا هؤلاء إلى حرس حدود لمداخل مصر من جهة سيناء، عادوا وهاجموا صيدا ودمروها، فكان تحالف الفينيقيين مع عدوهم داوود لتحجيم دورهم والغاء تأثيرهم بشكل كامل، وتحرير حماة من سلطة ملك آرام واستعادة الحركة التجارية من لبنان نحو الغرب بحرا ونحو الجنوب عبر دولة داوود وصحراء العرب والبحر الهادئ (أي البحر الأحمر) باتجاه اليمن السعيد قاعدة التبادل مع أفريقيا والهند.
ثم برزت قوى ممالك ما بين النهرين التوسعية فوصل أشور نصربال إلى فينيقيا وبُهر بالجولة البحرية في بحر أرواد وبصيد الأسود في جبل لبنان وقبل بتقديمات الفنيقيين بدون أن يزور مدنهم ما أعطاهم القدرة على استمرار تجارتهم صوب الشرق. وتتالت السيطرة، من البابليين إلى الفرس، ومن ثم اليونانيين ومن بعدهم الرومان، إلى أن خرج من صحراء العرب فوجا جديدا من المقاتلين انتشر حتى حدود بيزنطية شمالا والصين شرقا واسبانيا في الغرب، وبقي لبنان موطنا حرا يحافظ على علاقاته الأفقية والعامودية بدون الكثير من العقد حتى زمن الفاطميين الذين استدرجوا هجمات الفرنج، ومن بعدهم المماليك الذين حاولوا تهجير السكان لتوحيد المعتقد، ولكنهم فشلوا ورحلوا ليستقر العثمانيون أسيادا على كامل المنطقة ويبقى لبنان مميزا بتنوّع أهله وتعدد معتقداته، يحميه نظام الأمارة الذي كان تعرّض الدروز فيه لنوع من الابادة، ولكنه عاد، بتضافر جهود بقية المركبات مع الأمير الدرزي، لينهض من كبوته ويستعيد ريادته.
وبعد اربع مئة عام (1516 – 1918) على سيطرة العثمانيين على المنطقة هزم هؤلاء وسقطت الامبراطورية العثمانية التي كانت حاولت الاستمرار عبر توظيف منصب خليفة المسلمين الذي نسب إلى السلطان ليفرض سيطرته على كل المسلمين بالولاء الغير مشروط، وهو ما يحاول اردوغان أن يستعيده بواسطة تأثيره على حركة الاخوان المسلمين اليوم. ولكن لبنان، الذي كان ملجأ مهما وحاميا طبيعيا لأهم المجموعات البشرية التي طورت فلسفاتها عبر العصور وتجاورت محترمة حرية الآخر، نال مداه الجغرافي التاريخي الذي جمع المسيحيين بكل طوائفهم، والدروز باختلاف توجهاتهم السياسية، والشيعة بكل فروعهم، والسنة الذين قبلوا التعايش مع الآخرين بدون فوقية أو استعلاء. هذا اللبنان حاربه البعض لقصر نظر أو لعدم تفهّم لقيمته الحضارية فحاول استنساخ النظم الغربية أو تلك التي نادت بالشيوعية وبعض المطالبين باستمرار نظام الخلافة بتعدد أشكاله. وإذا بنا نعيش فترة من التقاتل وهي حركة طبيعية تهدف إلى ابراز التميّز وفرضه على النظام الذي سيعتمد. فكانت حركات 1920 التي تميزت بالقساوة والغباء أحيانا ولم تنتج سوى مزيدا من الانعزال والتقوقع. ثم جاءت حرب عبد الناصر في 1958 الذي نادى بالعروبة وتأثر بها بعض اللبنانيين، بينما لم يكن هو قادر على اشباع الجياع في مصر ففشل في وحدته مع سوريا وهرب نحو اليمن ليعود محملا بعشرين ألف قتيل محاولا أن يغطي فشله هذا بأن استدرج حربا مع اسرائيل دفع بعدها كل رصيده السياسي.
اليسار اللبناني لا يزال يحلم بلازمة الاستعمار التي استعملها عبد الناصر، وكان استعارها من الشيوعيين السوفيات، وهو يناضل كما دونكيشوت في طواحين الهواء ضد وهم يتصور بأنه واقع فعلي، ولا يزال يحلم بالشيوعية التي سقطت حتى في موسكو، كما بقي البعض يحلم بالناصرية التي دفنت مع عبد الناصر منذ حرب 1967. وكما الناصرية، بقي عندنا من يحلم بالبعث، وهو في جناحيه السوري والعراقي قد سقط وأسقط الدول والأنظمة معه قبل أن يظهر بقباحته، كونه لم يقدر أن يخفي أحقاد الماضي التي تفجرت بدون رحمة، إن في أحداث العراق ما بعد صدام والتفجيرات والحروب الطائفية، أو في سوريا التي فقدت كل مقوماتها تحت رعاية حزب البعث الحاكم، وشرزمت المجتمع وهجّرت السكان ودمّرت المدن وحولت النظام إلى كارتيل لانتاج وتوزيع المخدرات في دول العرب. أما الشيعة الذين لم يقبلوا بلبنان الدولة التي حمتهم وأعطتهم كيانا شبه مستقل وتأثيرا اساسيا في اللعبة الديمقراطية، فالتجأوا إلى كل حزب عارض الوطن، وبالرغم من مرور مئة عام على النظام فيه، ها هم وقد التصقوا بدولة الملالي وهم كانوا جربوها زمن الشاه اسماعيل وكلفتهم الخضوع المذل للسلطنة العثمانية طيلة أربعة قرون، ولما أحسوا بالعنفوان الذي أعطي لهم من دولة لبنان ونظامه التعددي، قادهم من جعلهم مرتزقة في الحرس الثوري التابع لنظام الولي الفقيه.
يقول البعض بأن الاستعمار الفرنسي هو من قسّم الشرق وخاصة سوريا ولبنان. وقد نادى به مؤخرا أحد جهابزة السياسة الغربية الذي يحاول التقرب من اردوغان ونظام الامتيازات التي يمكنه أن يعتمده في بلاد لا تمت له بصلة، وقد كتبنا عن ذلك في بداية اطلاقه لتلك النظرية، ولكننا نريد أن نفسّر بشكل أوسع ما جرى في سوريا التي تعاني اليوم من مشاكل بين مركباتها، ولو كانت تختلف من حيث العدد ولكنها أساسية من حيث التركيبة الاجتماعية، كالأكراد والدروز والعلويين والمسيحيين وغيرهم مثل التركمان الذين حلت قضيتهم منذ ضم لواء اسكندرون لتركيا. فعند تنظيم الدولة السورية بعد 1925 أعطت فرنسا دولة لكل من العلويين والدروز اضافة إلى السنة الاكراد في دولة حلب وبقية السنة في مدن حمص وحماة ودمشق. وقد بقي هذا النظام معمولا به حتى 1936 حيث تغير الحكم في فرنسا وكانت حكومة ليون بلوم عن الجبهة الشعبية التي ضمت الاشتراكيين والشيوعيين الفرنسيين والتي كانت تركز على الاصلاحات الداخلية، ومن هنا محاولة هذه الحكومة تقليص الانتشار الخارجي للجيش الفرنسي فطلبت من اليسار السوري بقيادة الشيوعيين البدء بمظاهرات تطالب بالاستقلال والوحدة، ما كان يتماشى مع تطلعات الحكومة ومشاريعها لتقليص ميزانية الجيش. ومن هنا وضع المعاهدات بين فرنسا وكل من سوريا ولبنان، وخاصة قبول فرنسا بلوم ( الذي يتركز اهتمامها على الداخل أكثر من الخارج) اعادة توحيد الدول السورية ليتمكن الشيوعيون الذين لم يكن لهم وجود في المناطق البعيدة عن المدن الكبرى خاصة في دولة الدروز ودولة العلويين أن يظهروا بمظهر المحرر ويسيطروا على البلاد ويصادروا القرار الشعبي، وهي مصالح مشتركة تتماشى مع توجهات الكومنتورم في موسكو. ومن الجدير ذكره بأن ليون بلوم كان يهوديا فرنسيا يمثل الحزب الاشتراكي الفرنسي. فما هو راي من يدّعون بأن اليهود ودولة اسرائيل هم خلف التقسيم في سوريا مثلا؟
لبنان لن يقوم إلا بتضافر جهود ابنائه وعندما يقبل الشيعة اليوم بأن حزب الله هو خطيئة بحق ابناء الطائفة أولا وبحق لبنان ثانيا فيطالبوا بحله إلى غير رجعة وباعتقال قادته أو ترحيلهم، كما فعلوا هم عندما سيطروا على الجنوب، فيلتزموا بقرارات الحكومة ويسلّموا السلاح فورا وبدون جميلة أحد لا إيران ولا غيرها وينزعوا عنهم صورة مروج المخدرات، فيوفروا على أنفسهم حربا آتية ودمارا بدون ثمن ويستعيدوا حقهم بالحياة الكريمة بين ابناء الوطن، ويرفضوا الوصاية الإيرانية وغيرها، ويساهموا بفتح صفحة جديدة وعلاقات حسنة مع الجيران إن في الشرق والشمال أو في الجنوب، ويقلصوا مرحلة التباطؤ باستعادة نهضة لبنان والتحاقه بقطار السلام الذي تميّز به طيلة تاريخه. وسوف يتقاطر اللبنانيون المنتشرون في بقاع الأرض ليعيدوا حقهم بالحياة وينظموا استغلال الثروات واستعادة روح المبادرة التي طالما تحلّو بها بقيام لبنان ثابتا على قواعد التعددية والتفاهم والتعاون بين الكل.
السيرة الذاتية للكولونيل شربل بركات
خبير عسكري، كاتب، شاعر، مؤرخ، ومعلق سياسي
*ضابط متقاعد من الجيش اللبناني
*متخرج من المدرسة الحربية ومجاز بالعلوم السياسية والادارية من الجامعة اللبنانية
*كلف كأحد الضباط لتنظيم الدفاع عن القرى الحدودية منذ 1976
*تسلم قيادة تجمعات الجنوب
*تسلم قيادة القطاع الغربي في جيش لبنان الحر وأصبح مساعدا للرائد سعد حداد ثم تسلم قيادة الجيش بالوكالة عندما مرض الرائد حداد واستمر بعد وفاته حتى مجيء اللواء أنطوان لحد فأصبح مساعده ثم قائدا للواء الغربي في جيش لبنان الجنوبي
*ترك العمل العسكري في 1988 وتسلم العلاقات الخارجية
*شهد أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي مرتين
*كاتب سياسي وباحث في التاريخ له الكثير من الكتب والمقالات السياسية التاريخية والانسانية
نشر كتابه الأول “مداميك” (1999) الذي يحكي عن المنطقة الحدودية ومعاناة أهلها، ترجم إلى العبرية ونشرته معاريف (2001) والانكليزية (2012) Madameek – Courses – A struggle for Peace in a zone of war موجود على Amazon Books
*نشر كتابه الثاني “الجنوب جرحنا وشفانا” الذي يشرح الأحداث التي جرت في المنطقة بين 1976 – 1986
*الكتاب الثالث “Our Heritage” كتاب بالانكليزية يلخص التراث اللبناني مع رسومات لزيادة الاستيعاب موجه للشباب المغترب
*كتابه السياسي الثالث “لبنان الذي نهوى” (2022) جاهز للطبع
*كتاب مجزرة عين إبل 1920 وهو بحث تاريخي عن المجزرة التي ساهمت في نشوء وتثبيت لبنان الكبير
*كتاب “المقالات السياسية 2005 – 2013” مئة ومقالة منشور على صفحته
*كتاب “الشرق الأوسط في المخاض العسير” مجموعة مقالات سياسية (2013 – 2025)
*كتاب “العودة إلى عين إبل” بحث تاريخي بشكل قصصي عن تاريخ المنطقة بين 1600 – 1900
*كتاب شعر عن المعاناة خلال الحرب الكبرى 1914 – 1918 من خلال قصيدة زجلية نقدية جاهز للطبع
*كتاب “تاريخ فناء صور الخلفي” بحث تاريخي عن المنطقة الجنوبية – قيد الانجاز
*كتاب المقالات الانسانية وكتاب عينبليات قيد الانجاز