
ما الذي كشفته زيارة البابا عن اللبنانيين؟ حين يصبح الاحتفال علاجاً جماعياً
د. منى فياض/جنوبية/08 كانون الأول/2025
لقد فتحت زيارة البابا نافذة لتحوّل كبير في السياسة اللبنانية، التي ظلّت حتى الآن غارقة في المراوغة والالتباس، فكسرت الجمود وسمحت بظهور مسار جديد أكثر وضوحاً وجرأة.” فزيارة البابا لاوون الرابع عشر إلى لبنان أثارت موجة واسعة من المشاعر، ربما لم تكن متوقعة بهذا الحجم، ولا بهذه الشحنة الرمزية. فجأة بدا البلد الذي يشكو من الانهيار، الفقر، تفكك المؤسسات، وغياب الثقة، قادراً على إظهار وجهاً آخر: بلد الترحاب والزينة والاحتفال والاستنفار اللوجستي والتنظيمي. برزت الحاجة لإظهار «صورة لبنان الجميلة». هذه المفارقة، سبق ان عرفناها في لحظات الحرب الأخيرة مع إسرائيل. الأمر الذي يستدعي سؤالاً مهماً: كيف يتمكن اللبنانيون ان يتصرفوا بهذه الطريقة عندما يزورهم رمز عالمي، أو عندما يواجهون خطراً؟ وما الذي يكشفه هذا السلوك عن المجتمع والدولة والهوية؟ لتفسير هذه الظاهرة المعقدة، يمكن الاستفادة من ثلاث مقاربات تتكامل فيما بينها: المقاربة الأنتروبولوجية، والنفس- اجتماعية، والرمزية – السياسية. تكشف هذه المقاربات قراءة اعمق للطريقة التي احتفل بها اللبنانيون بزيارة البابا، وكيف تحوّل الحدث الديني إلى مرآة اجتماعية وسياسية ونفسية.
انتروبولوجياً : الاحتفال طقس يعالج الخوف
في لحظات الانهيار أو الأزمات الكبرى، تلجأ المجتمعات إلى الطقوس الجماعية التي تُشبه العيد. وهذا ما حدث تماماً في لبنان. فعلى الرغم من الفقر والمديونية، أنفقت المدن والبلدات مبالغ كبيرة على الزينة، الأعلام، تجهيز الساحات، وتنظيم الاستقبال. قد يبدو الأمر غير عقلاني، لكن هذا “لإنفاق الاحتفالي” هو ما تسميه الأنتروبولوجيا “طقس البذخ”، ويسميه اللبنانيون “عرساً”: إنفاق لا يخضع لمنطق الربح والخسارة، بل لمنطق الهوية واستعادة القدرة على الوجود. في كتابات مارسيل موس، نجد أن الاحتفال هو نوع من الدفاع الجماعي ضد القلق الوجودي. عندما تشعر الجماعة أن حياتها مهددة – اقتصادياً، سياسياً أو اجتماعياً، فهي تخلق مهرجاناً يغطي الانهيار. كأن الطقوس تقول: “نحن ما زلنا شعباً، ما زلنا قادرين على الفرح وعلى تنظيم حدث كبير، مهما كان واقعنا قاسياً”. من هنا يمكن فهم ما حصل في لبنان. فزيارة البابا تحولت إلى مساحة يتجاوز فيها اللبنانيون واقعهم اليومي: انقطاع الكهرباء، التضخم، غياب الدولة. إنها محاولة لإعادة بناء صورة الذات، لا بالمعنى الوهمي، بل بالمعنى العلاجي او الترميمي: الاحتفال بوصفه وسيلة لتخفيف الألم وترميم الكرامة. لهذا بدا اللبنانيون أجمل مما هم عليه في الأيام العادية، وكأنهم يعرضون نسختهم المثالية — النسخة التي يتمنون لو كانت هي الحقيقة.
المقاربة النفس–اجتماعية: البحث عن الأب الرمزي
في لحظة الفراغ السياسي، يبحث الناس عن رمز خارجي يعوّض غياب “الأب” أو “المرجع”. والدولة اللبنانية، المنهارة والمتروكة والمدانة شعبياً، لم تعد تملك سلطة معنوية أو رمزية تؤمّن الطمأنينة. أمام هذا الفراغ، يبرز البابا – بصفته شخصية عالمية، أخلاقية، فوق نزاعات الطوائف – ليملأ هذا الموقع.
هذا ما يجعل استقبال اللبنانيين له بهذه الحماسة مفهوماً على المستوى النفسي. فالبذخ والزينة والمشاهد المنظمة ليست فقط للتأثير في الخارج، بل أيضاً لتلبية حاجة داخلية: حاجة للحصول على الاعتراف. يريد اللبنانيون أن يراهم الرمز الكبير، أن يصفّق لهم، أن يخاطبهم، أن يؤكّد لهم أنهم ليسوا منسيين، وأن بلدهم الذي يتداعى ما زال يستحق أن يُزار. لهذا بدا الاحتفال وكأنه محاولة لجذب أبصاره نحوهم، لجعله شاهداً على “لبنان الآخر” – لبنان الذي يُصرّ الشعب على إبرازه في وجه الانهيار. ما حصل يشبه ما وصفه دوركهايم بـ”لحظة الفوران الانفعالي الجماعي”: تلك اللحظات التي يشعر فيها الأفراد أنهم جزء من كلٍّ موحد، وأن وحدتهم أقوى من تشتتهم. في زيارة البابا، اختفت الانقسامات لساعات، وتجمّعت الطوائف حول رمز واحد، لا لأن الخلافات زالت، بل لأن الحاجة إلى الطمأنينة أقوى من الحاجة إلى الجدل.
المقاربة الرمزية – السياسية: صناعة صورة لبنان “الرسالة”
عندما تفشل السلطة مادياً، تلجأ إلى الرمزي. هذا بالضبط ما شرحه بيار بورديو حين تحدث عن «العنف الرمزي»: استخدام الصور، الخطاب، والطقوس لإخفاء العجز الحقيقي. زيارة البابا كانت فرصة ذهبية للسلطة اللبنانية لتقديم «عرض قوة» لا يحتاج إلى دولة فعالة، بل إلى قدرة على تنظيم مشهد جميل.
هنا تُستخدم الزينة والاحتفالات كممارسة سياسية: رسالة للخارج بأن لبنان ما زال “لبنان الرسالة”، و”لبنان التعايش”، و”لبنان التنوّع”، رغم الانهيار المالي والأمني. أما للداخل، فهي محاولة لترميم هيبة الدولة عبر إثبات أنها قادرة – على الأقل – على استقبال شخصية عالمية بحجم البابا. ورغم أن هذا لا يغيّر شيئاً من واقع المستشفيات والمدارس والحدود، إلا أنه يمنح السلطة لحظة إنتاج صورة إيجابية، تعيش عليها أياماً قبل العودة إلى الفشل الروتيني.
أما الناس، فبسبب حاجتهم النفسية العميقة للاعتراف وللكرامة، يتماهَون مع هذه الصورة رغم معرفتهم بأنها تجميلية. إنها لحظة نادرة يشعرون خلالها أن لبنانهم يشبه الخطاب الرسمي، وأنه ليس مجرد بلد مفكّك يتساقط تدريجياً.
لبنان بين صورتين: الحقيقة والمرآة
دمج المقاربات الثلاث يكشف مفارقة لبنانية أساسية: اللبنانيون يعرفون تماماً حجم الانهيار الذي يعيشونه، لكنهم ينجذبون – بوعي أو بدون وعي – إلى لحظات يمكنهم فيها إلغاء هذا الواقع ولو مؤقتاً. الاحتفال بزيارة البابا هو مزيج من:
طقس يعالج الخوف
بحث عن شرعية ورمز يطمئن
صورة سياسية تُسوَّق للداخل والخارج
وفي هذه الطبقات الثلاث، يظهر اللبنانيون أجمل وأسوأ ما فيهم في آن واحد: قدرة مذهلة على الحياة فوق الركام، وعلى تحويل الألم إلى طقس جماعي، لكن أيضاً قدرة على الهروب من مواجهة الأسباب العميقة للأزمة. هذه الازدواجية ليست ضعفاً فحسب، بل هي جزء من التاريخ اللبناني ومن تركيبته النفسية -الثقافية، منذ قيام الدولة وحتى اليوم. لم تكن عابرة زيارة البابا، شكلت حدثاً كاشفاً، مرآة للبنانيين وهم يحاولون التمسك بصورة بلدهم، حتى ولو انه يتهاوى بين أيديهم وربما بسبب ذلك. مرآة تظهر هشاشتهم وقوتهم في الوقت نفسه، وتدلّ على أن لبنان، رغم كل شيء، لا يزال يبحث عن نفسه… وعن من يُعيد إليه المعنى.