الكاتب والمخرج يوسف ي. الخوري/الدبكة اللبنانيّة: حين تنتصر الهويّة على السياسة؛

0

الدبكة اللبنانيّة: حين تنتصر الهويّة على السياسة؛
الكاتب والمخرج يوسف ي. الخوري/08 كانون الأول/2025

لا يولد الرقص الشعبي من فراغ. إنّه ابن الطبيعة أوّلًا، ثم ابن المجتمع الذي تُشكّله تلك الطبيعة. فالجغرافيا ليست مجرّد مساحة، بل هي الانعكاس لحياة الناس، لطريقتهم في العمل والفرح والحزن والاحتفال. وفي بلاد الجبال مثل لبنان، حيث القرى متلاصقة والقامات مشدودة إلى سفوح قاسية، تولد حركة الجسد من صلابة الأرض ومن علاقة الإنسان بها. هكذا خرجت الدبكة اللبنانية: خطوةٌ قويّة، قدمٌ تصفع الأرض، وذراعٌ تتشابك مع أخرى، والكتف على الكتف. إنّها رقصة الجماعة التي لا تقوم إلّا بوحدة الصفّ، ولا تزدهر إلّا بالتناغم. ومثلما يتنوّع لبنان، تتنوّع دبكته: جبليّة صلبة في جبل لبنان واهدن وبشري، وساحليّة مرنة في بيروت وبرجا وصور، وبقاعية واسعة في بعلبك وسائر الساحات المفتوحة. لكلّ منطقة ظلّها الخاص، لكن الهوية واحدة: دبكة لبنانيّة صافية، لها مزاج الجبل ونَفَس البحر واتّساع السهل.

ما فعلته محطة mtv بإطلاق برنامج Let’s Dabke ليس مجرّد ترفيه، بل عمل وطني صادق أعاد اللبنانيين إلى نقطة التقاء نادرة في بلدٍ ينهشه الانقسام. شاهدنا الفرق تأتي من كلّ المناطق، من كلّ الطوائف، ومن كلّ الهويّات المحليّة… لكن حين تبدأ الدبكة، تسقط الفوارق، ويرتفع علمٌ واحد: اللبناني.

العمل الفنّي نفسه كان على مستوى رفيع: تنظيمًا، أداءً، وإخراجًا وتقنيةً، شكّل لحظة جامعة خطفت انتباهنا وأخذتنا إلى ما هو أبعد بكثير من صناعة برنامج: إلى صناعة معنى. والـ mtv أمس ذكّرتني بالسيّدة الأولى زلفا شمعون، يوم كانت تجهد في أواسط خمسينيات القرن الماضي، مع الأخوين رحباني، لخلق هويّة لبنانيّة واحدة من الفولكلور اللبناني. فعسى أن تُستعاد هويّتنا من خلال ما بدأته الـ mtv.

ومن بين المشاهد الأكثر دلالة، كان الحضور الشيعي الواسع في البرنامج. صبايا وشباب، من الجنوب والبقاع، يرقصون بثقة وفرح، يؤكّدون بالأقدام قبل الكلمات أنّ الشيعة هم لبنانيون حتى العظم، مهما حاول حزب الله جرّهم إلى هوية مستوردة لا تشبههم. دبكوا غير آبهين بأنّ الجمهورية الإسلامية في إيران، التي يخضع الحزب لوليّها الفقيه، تُحرّم الرقص أصلًا. أي أنّ التأثير الإيراني، رغم كلّ ما فُرض قسرًا، لم ينجح في اختراق نبضهم الثقافي. لا استعارات من طهران، ولا ظلّ للملالي على الإيقاع؛ المسافة بعيدة، والهوية اللبنانيّة أقوى.

ذلك المشهد كان باكورة انتفاضة شيعية هادئة تقول للثنائي: “لسنا جنودكم… نحن لبنانيون”.
وفي السياق الإقليمي، يصبح ضروريًا أن نضع الدبكة في إطارها الأوسع. فالدبكة اللبنانية ليست “الهورا” الإسرائيلية، تلك الرقصة الدائرية التي خرجت من شرق أوروبا وارتبطت بذاكرة المستوطنين الأوائل. وليست العرضة الصحراوية الخليجية ذات الإيقاع القبلي والسيوف. وليست الدبكة السورية التي تشربت من البداوة في الشرق، ومن رهافة حلب، ومن امتداد السهل الكردي. وليست أيضًا الدبكة الفلسطينية الموسومة بذاكرة النزوح والمقاومة وسردية القرى المقتلعة.

الدبكة اللبنانية وُلدت ونمت داخل حدود الـ 10452 كلم²: فوق جبال شاهقة، وسهول ضيّقة، وبحر مفتوح. وهي تستمدّ هويّتها من مجتمع صغير متنوّع، لكنّه متجانس في إيقاعه العميق. وإن دخلها بعض الدمج، الـ fusion كما سُمّي في البرنامج، فذلك دليل انفتاح لبنان على الحضارات، لا علامة على ذوبانه. لبنان يقتبس، نعم، لكنّه لا يقلّد؛ يتفاعل، لكنّه لا يُمحى. ولهذا نقول لمن روّج في الأيام الماضية، ومنهم توم باراك، لفكرة أنّ “نحن والشعب السوري شعب واحد”: الأرض، والمجتمع، والإيقاع، والدبكة نفسها قالت أمس إنّنا لسنا شعبًا واحدًا، بل شعبان لكلٍّ منهما إيقاعه وحكايته وجغرافيته. نحن لبنانيون، لا عرب، لا عجم ولا عبرانيين.

وفي الختام، كلمة إلى الإخوة الشيعة اللبنانيين:
الحروب لا تُعيد لنا دورًا في المنطقة، بل تُضعفنا أمام إسرائيل، وتُهمّشنا أمام العرب والفرس. أمّا السلام، والثقافة، والفنون، والاقتصاد، فهي التي تكسر سلاح إسرائيل الفتّاك؛ وهي صورتنا الحقيقيّة: صورة الحياة. وحين نرقص جميعًا، من برجا إلى الجنوب، من بعلبك إلى قبّ الياس، ومن زغرتا إلى النبطية، ننافس “الهورا” الإسرائيلية ونهزم إسرائيل في المساحة الحضارية؛ ونعود منارةً للشرق.
في الدبكة كلّنا نشبه بعضنا البعض، وكلّنا لبنانيين.

**لقراءة مقالات ومشاهدة مقابلات الكاتب والمخرج يوسف ي. الخوري المنشورة على موقعنا اضغط هنا

**To read articles and watch interviews by writer and director Youssef Y. El Khoury published on this website, click here.

Share