ما فهمته دمشق وتتجاهله بيروت
نديم قطيش/أساس ميديا/24 تشرين الثاني/2025
أن يستقبل الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب الرئيس السوريّ أحمد الشرع في البيت الأبيض، فيما تُلغى زيارة قائد الجيش اللبنانيّ رودولف هيكل إلى واشنطن، مفارقة لا يمكن تجاهلها في مشهد الأسبوع الفائت. وما لم يفهم لبنان منطق هذه المفارقة فلن يفهم شيئاً ممّا جرى منذ زلزال 7 أكتوبر/تشرين الأوّل 2023.
لنترك جانباً التفسيرات التقنيّة والبروتوكوليّة لإلغاء زيارة قائد الجيش، لأنّها في العمق ليست سوى تعبير مباشر عن تحوّلات تعيد رسم خرائط النفوذ والاصطفاف والعلاقات. المعادلة ببساطة شديدة هي أنّ سوريا خرجت من محور إيران، فيما لا يزال لبنان يتصرّف وكأنّه جزء عضويّ منه.
فدمشق أعادت تموضعها خارج دائرة منطقة النفوذ الإيرانيّ الصافي، ما فتح الباب لإعادة دمجها إقليميّاً ودوليّاً، وأعطى للوسطاء، وعلى رأسهم المملكة العربيّة السعوديّة، المبرّرات السياسيّة لفتح الطريق أمام زيارة الشرع إلى العاصمة الأميركيّة، وبدء صفحة جديدة معها.
نقاش لبنانيّ خجول
خلافاً لمقاربة لبنان النوستالجيّة العاطفيّة لعلاقاته مع كلّ من الرياض وواشنطن، يضع الشرع مصالح بلاده على سكّة التناغم التامّ مع مصالح السعوديّة والولايات المتّحدة. يدرك النظام السوريّ الجديد أنّ إعادة تأهيله، ليست مكافأة، بل جزء من استراتيجية “إدارة المخاطر” التي تتبنّاها أميركا في المشرق، أكان ذلك يتعلّق بمواجهة الإرهاب الداعشيّ أو كبح نفوذ إيران. ويفهم أنّ حراك السعوديّة تجاهه يُقدّم الأمن الإقليميّ على الحسابات العاطفيّة أو التاريخيّة، بعد سنوات من السعي إلى إخراج سوريا من الفلك الإيرانيّ.
تغيب هذه الحسابات عن النقاش اللبنانيّ، أو لا تحضر بجرأة كافية، مع أنّها تشكّل حجر الأساس لفهم المشهد الجديد في المنطقة. فلبنان ما يزال يدور في حلقة التأجيل والتحايل نفسها، ويعطي انطباعاً ثابتاً بأنّ إيران، ومن ورائها ميليشيا “الحزب”، لا تزال جزءاً من القرار الوطنيّ والاستراتيجية العليا للدولة، وفق قواعد ما قبل هزيمة 2024.
النقطة الثانية التي لا تقلّ أهمّيّة، هي أنّ سوريا فتحت حواراً مباشراً مع إسرائيل، تُرجِمَت لقاءات علنيّة بين وزير الخارجيّة السوريّة أسعد الشيباني ورون ديرمر، المستشار السابق لرئيس الحكومة الإسرائيليّة بنيامين نتنياهو، بالإضافة إلى لقاءات أخرى أمنيّة خلف الكواليس. فهمت دمشق أنّ الدخول إلى نظام إقليميّ جديد يمرّ عبر تفاهمات واضحة مع تل أبيب، بمعزل عن حجم هذه التفاهمات وطبيعتها، وبصرف النظر عن حجم المظالم المحقّة على الجانب السوريّ، من احتلال وخروقات واعتداءات.
في المقابل، لا يزال لبنان يكرّر اللغة القديمة ذاتها، وموقف السلطة السياسيّة في بيروت ينطلق من أنّ إسرائيل هي المشكلة الوحيدة، متجاهلاً مشكلة أخرى اسمها “الحزب”، وما يفرضه من واقع عسكريّ وأمنيّ واستراتيجيّ على الدولة. وتلهّي لبنان بمسألة التزامن بين خطوات ناقصة تقوم بها الحكومة لحصر السلاح، مقابل انسحابات إسرائيليّة من بعض النقاط المحتلّة، ما عاد يُنظر إليه إلّا بوصفه سلوكاً من قبل مؤسّسات الدولة لانتزاع انتصارات وهميّة لـ”الحزب”. الانطباع العامّ أنّ قرار الدولة اللبنانيّة ما يزال أسير حاجات “الحزب” وسرديّته ومعنويّاته وصورته.
الاتّفاق على قواعد جديدة
صحيح أنّ زيارة الشرع إلى واشنطن لم تمنع زيارة نتنياهو المستفزّة إلى أراضٍ سوريّة تتجاوز حدود المنطقة العازلة وتشمل مواقع احتلّتها إسرائيل بعد سقوط نظام بشّار الأسد، لكنّ هذه المفارقة بدورها تكشف ملمحاً جديداً في ديناميّات المنطقة. فالعلاقة الجيّدة مع واشنطن ليست بديلاً عن التفاهم المباشر مع إسرائيل. أراد نتنياهو إيصال رسالة إلى دمشق مفادها أنّ بوسع الرئيس السوريّ قضاء أفضل الأوقات في البيت الأبيض، لكنّ العامل المقرّر في نهاية المطاف ليس صور الزيارة ولا بيانات الدعم، بل ما تتّفق عليه إسرائيل مع من يشاركها الحدود والميدان.
والحال، فإن تحسّن العلاقات السوريّة–الأميركيّة هو انعكاس لتغيير ديناميّة العلاقات السوريّة–الإسرائيليّة، ولو في الحدّ الأدنى. هذه النقطة التي يجب أن لا تغيب عن أحد، تعني اللبنانيّين أيضاً بقدر ما تعني جيرانهم. لا يستطيع لبنان، ولن يستطيع، أن يكتفي بعلاقة إيجابيّة مع واشنطن وأن يعتبرها بديلاً عن أيّ حوار جدّيّ مع إسرائيل لطيّ الصفحة السابقة والاتّفاق على قواعد جديدة تحكم علاقات ومصالح البلدين.
ففي الزمن الجديد لعلاقات “دول الطوق” مع إسرائيل، بات الكثير من جوانب العلاقة الإيجابيّة مع واشنطن نتيجةً، لا بديلاً، لما يجري على خطّ تل أبيب. هذا ما فهمه السوريّون. وهذا ما لا يريد اللبنانيّون الاعتراف به حتّى الآن.