ألفرد بارود/مقاومة أنتجت قدّيسين….من وادي قاديشا إلى عنّايا: جذور المقاومة في وجوه القدّيسين الموارنة

5

مقاومة أنتجت قدّيسين….من وادي قاديشا إلى عنّايا: جذور المقاومة في وجوه القدّيسين الموارنة
ألفرد بارود/مارونايت نيوز/13 تشرين الثانى/2025
منذ فجر التاريخ، لم تكن القداسة المارونية انسحابًا من الواقع، بل فعل مقاومة في وجه كلّ محتلٍّ وغاصب.في تاريخ الموارنة، يولد القديس دائمًا في زمن الظلم، وينبت الإيمان من قلب الجراح. فحيث توجد النار، يولد النور. من القديس مارون إلى البطريرك الحويّك، ومن رهبان وادي قاديشا إلى شهداء الحرب اللبنانية، تتجلّى مسيرة شعبٍ حوّل الألم إلى رجاء، والاضطهاد إلى قيامة.

القديس مارون (350 – 410 م)
عاش في أواخر العهد الروماني، زمن الاضطهادات والجدالات اللاهوتية. ترك المدن إلى الجبال ليحوّل الصمت إلى صلاة، والعزلة إلى مقاومة. لم يكتب كتابًا ولم يؤسس جيشًا، لكنه أطلق ثورة روحية ضد الوثنية والانحلال، وجعل من النسك موقفًا حرًا في وجه السلطة الدينية والسياسية. المصدر: البطريرك إسطفان الدويهي، تاريخ الأزمنة، ص. 12-14.

القديس يوحنا مارون (628 – 707 م)
في زمن الصراع بين الإمبراطورية البيزنطية والفتح العربي، رفض الموارنة الخضوع لعقيدة المشيئة الواحدة التي فرضها قسطنطين الرابع. انتخبوا يوحنا مارون بطريركًا مستقلاً، فأعلن استقلال الإيمان عن الإمبراطورية، والاستقلال السياسي عن القيصر. بذلك، وُلدت أول ممارسة سيادية لبني الجبل قبل أي مفهوم للدولة. المصدر: الدويهي، تاريخ الأزمنة، ص. 45-48؛ ميخائيل الغزي، تاريخ أنطاكية.

القديس نعمة الله الحرديني (1818 – 1858)
في أواخر الحكم العثماني، حين كانت الضرائب تثقل الناس، قاوم الجهل والفساد بالتعليم والرهبنة. أقام مدارس رهبانية حرّة رغم مضايقات السلطنة، فكان المعلم الذي أنجب أجيالاً من الرهبان القديسين. قداسته مقاومة فكرية وروحية في وجه الانحلال والاستبداد. المصدر: الأب بطرس ضو، الكنيسة المارونية: جذورها وهويتها ورسالتها.

القديسة رفقا الريّس (1832 – 1914)
عاشت في زمن المجازر التي طالت القرى المارونية عام 1860، فحملت الألم في جسدها وشاركته مع المسيح لأجل خلاص شعبها. تحوّلت جراحها إلى صلاة، وصبرها إلى إعلانٍ صامتٍ عن كرامة لبنان المصلوب. المصدر: البطريرك أنطوان خريش، تاريخ الموارنة الديني والسياسي، ج.2.

القديس شربل مخلوف (1828 – 1898)
في العهد العثماني المظلم، اختار الصمت بدل التذمّر والعزلة بدل المساومة. انسحب إلى قلايته في عنّايا ليحمل لبنان كله في صلاته، فصار وجهًا لقداسةٍ مقاومةٍ لا تعرف التراجع. المصدر: الأب لويس شيخو، النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية.

الطوباوي إسطفان نعمة (1889 – 1938)
عاش في فترة الانتداب الفرنسي، زمن التحوّلات والاضطرابات. رفض الانخراط في صخب السياسة وتمسّك بالبساطة والطاعة، فحوّل الرهبنة إلى شهادة هدوءٍ مقاومٍ لفساد العالم.المصدر: منشورات الرهبانية اللبنانية المارونية – ملف الدعوى الفاتيكانية، 2010.

الطوباوي الأخ يعقوب الكبوشي (1875 – 1954)
من أواخر العثمانيين إلى ما بعد الاستقلال، أسس المستشفيات والمدارس وجمعيات الإحسان. حمل صليبه في الشوارع لا في الكنائس، فحوّل الإيمان إلى خدمة ومقاومة للفقر واليأس. المصدر: مجمع دعاوى القديسين، Acta Apostolicae Sedis, 2008.

الطوباوي البطريرك الياس الحويّك (1843 – 1931)
خلال الحرب العالمية الأولى، قاوم المجاعة والاضطهاد العثماني بحكمة وجرأة. قاد الوفد اللبناني إلى مؤتمر فرساي سنة 1919، وطالب بقيام لبنان الكبير المستقل. مزج بين الإيمان والسيادة، فكان بطريرك الحرية وراعي الكيان. المصدر: الأرشيف البطريركي في بكركي، أعمال مؤتمر فرساي 1919.

شهداء الموارنة في وادي قنوبين (القرنان 13–17)
خلال الحملات المملوكية والعثمانية، تعرّضت القرى المارونية في بشري وإهدن والبترون للمجازر والحرق، ودمّر عدد من الأديرة في وادي قاديشا. لكنّ الموارنة بقوا في الجبل، وحافظوا على لغتهم وكنيستهم، فكانت دماؤهم الأساس الذي بُني عليه لبنان الحر. المصدر: الدويهي، تاريخ الأزمنة، الفصول 12-14؛ المطران جبرائيل حايك، وادي قاديشا عبر العصور.

القديسون المعاصرون وشهداء الحرب اللبنانية (1975–1990)
اندلعت الحرب اللبنانية سنة 1975 لتفتح فصلًا جديدًا من المقاومة. سقط آلاف المدنيين الموارنة في مجازر الدامور (1976)، الشوف (1977)، زحلة (1981)، والمتن الجنوبي (1985). قُتل الكهنة والرهبان في قراهم لأنهم رفضوا مغادرة الأرض، وخُطف المئات وبقوا مجهولي المصير.هذه الدماء لم تكن خسارة، بل شهادة: فالشعب الذي يموت واقفًا يولد من جديد.

في تلك المرحلة، برز البطريرك نصرالله صفير (1920 – 2019) كضميرٍ وطنيٍّ للمقاومة الروحية. قاوم بالحقّ لا بالسلاح، وأعاد للكنيسة صوتها الحرّ عبر نداء المطارنة الموارنة سنة 2000، الذي مهد لانسحاب الإحتلال السوري سنة 2005. كلماته كانت استمرارًا لخط يوحنا مارون والحويّك: استقلال

الإيمان عن كلّ سلطة أرضية. المصادر:
*أرشيف البطريركية المارونية – نداء المطارنة الموارنة، 20 أيلول 2000.
*لجنة متابعة شهداء الحرب اللبنانية، وثائق الكنيسة المارونية – مجلد الشهداء، بيروت 2005.
*حبيب إفرام، شهادات من الحرب اللبنانية: مسيحيون في زمن النار، دار النهار، بيروت 2010.

الخلاصة
من القديس مارون الذي قاوم الوثنية بالصلاة، إلى يوحنا مارون الذي أعلن استقلال الإيمان، إلى الحويّك وصفير اللذين رسّخا استقلال الوطن، تمتدّ خيوط واحدة من نور: الماروني لا يُخضعه احتلال، ولا تطفئه المجازر. كلّ مرحلة اضطهاد أنجبت قدّيسًا، وكلّ مجزرة زرعت بذرة حياة. فالقداسة المارونية ليست انعزالًا عن العالم، بل مواجهة مقدّسة بين الإنسان والظلم، بين الجبل والإمبراطوريات، بين لبنان والعدم. هكذا كُتبت سيرة الموارنة: مقاومة أنجبت قدّيسين، وقداسة حفظت وطنًا.

Share