الياس بجاني/نص وفيديو/عربي وأنكليزي: تأملات إيمانية في مفاهيم وتاريخ عـيـد ارتفـاع الصـليـب المقدس
الياس بجاني/14 أيلول/2025
«من أراد أن يتبعني فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني» (متى 16: 24)
«إنَّ كَلِمَةَ الصَّلِيبِ عِنْدَ الهَالِكِينَ حَمَاقَة، أَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ المُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُوَّةُ الله» (من رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس 1: 18-25)
خلفية تاريخية لعيد ارتفاع الصليب المقدس
يُحتَفَل في كل عام بتاريخ 14 أيلول/سبتمبر بعيد ارتفاع الصليب المقدس، وهو من أهم الأعياد الليتورجية في الكنيسة الجامعة شرقًا وغربًا. ويرتبط هذا العيد بأحداث مفصلية في التاريخ المسيحي
01- ظهور الصليب للملك قسطنطين الكبير
في بدايات القرن الرابع، كان الإمبراطور قسطنطين الكبير يستعد لمعركة حاسمة ضدّ منافسه مكسنتيوس. وقبل المعركة، صلّى طالبًا معونة إله المسيحيين — إله والدته القديسة هيلانة — فتراءى له في السماء صليب من نور محاط بعبارة: «بهذه العلامة تظفر» (In hoc signo vinces).
اتّكل قسطنطين على إله الصليب وانتصر سنة 312 م في معركة جسر ملفيان. بعد هذا النصر أعلن إيمانه بالمسيح، ورفع راية الصليب على أعلامه، وأصدر مرسوم ميلانو سنة 313 م الذي منح المسيحيين الحرية الدينية بعد ثلاثة قرون من الاضطهاد الدموي. كما بدأ بإحياء الكنيسة من ظلمات الدياميس، وهدم معابد الأصنام وشيد مكانها الكنائس.
02- اكتشاف خشبة الصليب على يد القديسة هيلانة
ظل صليب الرب مدفونًا تحت الردم في أورشليم منذ حادثة الصلب. لكن في سنة 326 م، انطلقت القديسة هيلانة، والدة قسطنطين، في بعثة مقدسة إلى الأرض المقدسة للبحث عنه. رافقها نحو ثلاثة آلاف جندي، واتفقوا على إشعال نار كبيرة على قمم التلال لإعلان خبر العثور عليه، ومن هنا نشأت عادة إشعال “أبّولة الصليب” في العيد حتى اليوم. بعد جهد كبير، أرشدها رجل يهودي مسنّ إلى موضعه، فعثرت على ثلاثة صلبان ولوحة النقش التي كُتب عليها «يسوع الناصري ملك اليهود». وللتأكد من الصليب الحقيقي، وضعتهم على جسد رجل ميت، فعاد إلى الحياة عند لمسه الصليب الثالث. فتهلّل المؤمنون وأخذت هيلانة خشبة الصليب ولفّتها بالحرير ووُضعت في خزانة فضية فاخرة في كنيسة القيامة التي شُيّدت خصيصًا على موضع الصليب وموضع القيامة.
03- سبي الصليب إلى بلاد فارس وعودته المظفّرة
في سنة 614 م، غزا الفُرس بقيادة كسرى الثاني مدينة أورشليم، فقتلوا الآلاف وأسروا البطريرك زكريا وأخذوا ذخيرة عود الصليب الكريم إلى بلادهم كغنيمة حرب، وبقيت هناك 14 سنة. لكن في سنة 628 م، انتصر الإمبراطور البيزنطي هرقل على الفرس، ووقّع معهم صلحًا أعاد بموجبه الصليب المقدس إلى أورشليم باحتفال مهيب. ودخل هرقل المدينة حافي القدمين حاملاً الصليب على كتفيه، ليضعه من جديد في كنيسة القيامة في 14 أيلول سنة 628 م. ومنذ ذلك التاريخ حُدّد هذا اليوم تذكارًا سنويًا لرفع الصليب المقدس أمام الشعب.
04-المعنى اللاهوتي والروحي للعيد
إن عيد ارتفاع الصليب لا يركّز على الصليب كأداة عذاب، بل كأداة خلاص. فالصليب الذي كان علامة عار صار بدم المسيح علامة مجد وقيامة، وصار راية النصرة على الموت والخطيئة. لهذا تعلّمنا الكنيسة أن نحمل صليبنا كل يوم ونتبع المسيح، عالمين أن طريق الجلجلة يمرّ عبر القيامة. فالصليب هو قوة الله للخلاص، وهو العلامة الفارقة بين الهلاك والحياة. من هنا، تحتفل الكنيسة في هذا العيد بارتفاع الصليب وتزيينه بالورود، ويقوم الكهنة برفعه عاليًا في كل الاتجاهات الأربعة مباركين الجهات الأربع للعالم، رمزًا إلى أن خلاص المسيح موجّه لكل الشعوب والأمم.
العيد والموارنة في لبنان
يحمل عيد ارتفاع الصليب المقدّس للكنيسة المارونية في لبنان معاني روحية وتاريخية ووطنية عميقة. فخلال قرونٍ من الاضطهاد، لجأ الموارنة إلى أعالي جبال لبنان، واتّخذوا الصليب شعارًا مقدّسًا ودرعًا لهويّتهم. وقد أصبحت نيران الصليب التي أُشعلت يومًا إعلانًا لاكتشاف القدّيسة هيلانة للصليب، رمزًا حيًّا لثباتهم المسيحي عبر العصور. وحتى يومنا هذا، يشعل الموارنة في قرى جبل لبنان، في مساء 14 أيلول، نيرانًا عظيمة على رؤوس التلال والجبال. فتربط هذه النيران قمم الجبال بعضها ببعض، وتعلن أنّ الموارنة هم شعب الصليب، شهودٌ على انتصار المسيح حتى في أحلك الأزمنة.
ويجسّد هذا التقليد عهدهم الدائم على الحفاظ على الوجود المسيحي في الشرق، وعلى إبقاء لبنان واحةً للإيمان والحرّية.
ما كتبه فؤاد أفرام البستاني عن هذا العيد
وصف المؤرّخ والفيلسوف اللبناني الكبير فؤاد أفرام البستاني (1904–1994) هذا العيد بأنّه حجر الزاوية في الهوية الروحية المارونية والوعي الوطني اللبناني. ففي كتاباته عن التراث اللبناني، قال: «إنّ عيد الصليب ليس مجرّد ذكرى طقسيّة بل هو إعلان قدر. لقد غرس الموارنة الصليب على قمم لبنان رايةً للحرّية ودرعًا للإيمان. إنّ النيران التي تتّقد كلّ عام من قراهم الجبلية ليست مجرّد نيران ذكرى، بل منارات سهرٍ ويقظة، تعلن أنّ هذه الأرض اختيرت لتكون حصنًا للمسيحية في الشرق». وتختصر كلماته المعنى العميق الذي يحمله الصليب للموارنة اللبنانيين: علامة فداء وصمود وتجذّر في أرض الجبال. فالاحتفال لا يمجّد الصليب كأداة موت، بل كعرش لانتصار المسيح. فما كان يومًا رمزًا للعار أصبح رمزًا للخلاص والفداء والقيامة. وفي هذا اليوم، تُزيَّن الكنائس بالصليب المزيَّن بالزهور الحمراء والبخور، ويرفعه الكاهن عاليًا ليبارك الجهات الأربع، في إشارةٍ إلى أنّ خلاص المسيح ممتدّ إلى أقاصي الأرض. إنّ عيد ارتفاع الصليب المقدّس هو تذكار انتصار، وشهادة إيمان، وعهد رجاء. وبالنسبة إلى موارنة لبنان، فهو ليس ذكرى من الماضي، بل إعلان حيّ بأنّهم شعب الصليب، حرّاس الأمانة المقدّسة، وشهود نور المسيح المنطلق من جبال لبنان إلى العالم أجمع.
خلاصة
إن عيد ارتفاع الصليب المقدس ليس مجرد ذكرى تاريخية بل هو تتويج لانتصار المحبة الإلهية على الكراهية، والنور على الظلمة، والحياة على الموت. فكل من يتأمل في سر الصليب ويحتضنه بالإيمان، يختبر في حياته قوة القيامة ويفوز ببركات الفداء والخلاص.
**الكاتب ناشط لبناني اغترابي
عنوان الكاتب الألكتروني
Phoenicia@hotmail.com
رابط موقع الكاتب الألكتروني
https://eliasbejjaninews.com