حق المواطن الخاروف بالتمعيق
ادمون الشدياق/فايسبوك/21 تموز/2025
والله العظيم، لا نسمع هذه الأيام سوى التذمّر والتبرير والنق والنعيق، من داخل النظام وخارجه، والكلّ يعمل على تفخيخ الآخر كلامًا واتهامًا خاصة القوى السيادية. فإن لم يكن هذا الواقع يُرضيكم، فثوروا، انتفضوا، أو على الأقل اصمتوا بكرامة، وكونوا خرافًا صادقين مع أنفسكم. في هذا الكيان الممسوخ، الذي تحوّل إلى ساحة صراع بين الملالي والدواعش، وبين الوكلاء والعملاء، أُطلق اليوم حملة عنوانها: “حق المواطن الخاروف بالتمعيق”. حتى الخروف، حين يُساق إلى الذبح، يرفُض، يمنتع، يعاند، ويُصدر صوته الاعتراضي الأخير. أما نحن ّ، فنساق إلى الذبح صامتين، بلا حتى تمعيقة واحدة. بلدنا يُستباح أمام أعيننا، تتغيّر ملامحه وهويته، تُفكّك مؤسساته بخطة مدروسة، يُزوّر تاريخه، وتُشوَّه حضارته، ونحن ما زلنا في سبات عميق. لا مقاومة، لا صرخة، لا حتى تمعيقة واحدة تليق بشعب حرّ يدّعي الكرامة.
ننتظر الخلاص من الله، وكأن السماء ستحارب عنا فيما نحن غارقون في النعاس، نُطلق بين غفوة وأخرى شعاراتٍ مخدّرة، كـ”مقاومة الكلمة والموقف”، ثم نغرق من جديد في نوم ثقيل، نُراهن على أن تأتي دول الخارج لحل أزماتنا وتحريرنا من جلادينا وخاطفي قرارنا وسيادتنا. وتُردَّد مقيت مع تبريرات الخنوع: “دفعنا دمًا كافيًا”، “لا نريد للمقاومة أن تكون دائمًا على حسابنا”. هكذا صارت المقاومة عند البعض مقاومة ظرفية، تتحرّك فقط عندما يُمسّ مجتمعها المباشر، لا عندما يُغتصَب لبنان كلّه. نحن اليوم لسنا مقاومة لبنانية، بل مقاومة فئوية، كنتونية. نقاوم حين يُصاب جزء من الطائفة، لا حين يُجتث الوطن من جذوره. وكأن لبنان لم يعُد لنا، بل صار فسيفساءً من الكنتونات، كلٌ يدافع عن حصّته، ويسكت عن الحصة التي تذهب للبلطجي الأكبر. صرنا نتقبّل أن يُسلَّم جزء من الوطن إلى “بلطجي الجمهورية” – حزب الملالي – ليفرض هيمنته، يطلق حروبه، يقرّر متى نعيش ومتى نموت، وكأن ذلك الجزء طُوّب له رسميًا. رضينا أن نحتمي في حظيرتنا الصغيرة، نعيش في كنتوننا الخاص، متوهمين أن الأمن في العزلة، وأن السيادة يمكن تجزئتها على المقاس الطائفي. ونسينا القسم. نسينا أننا أقسمنا أن نحمي لبنان كلّه، من العريضة إلى الناقورة. نسينا أن هذا الوطن ليس مجموعة أحياء محصّنة، بل وطن كامل، لا يكتمل إلا بكل شبر فيه، جغرافيًا ومعنويًا.
لبنان ليس ملكنا وحدنا، بل هو أمانة في أعناقنا، وقف حضاري وهبه الله لنا، نُسأل عنه أمام التاريخ وأمام الأجيال القادمة. فإن سلمناه ناقصًا، مُستباحًا، ممزقًا، نكون نحن من خان الأمانة. نكون نحن من قطع سلالة شهداء الحرية الذين دافعوا عن وطن السيادة والكرامة في وجه السلاطين والطغاة والغزاة.
نموت من القرف، من الملل، من اليأس، من الذل. ولكن، أليس أشرف أن نموت من أجل قضية؟ من أجل وطن؟ من أجل معنى للحياة؟ العالم لا ينتظرنا. ولا أحد سيأتي لينقذنا. لا فرنسا، لا الفاتيكان، لا الخليج، ولا الغرب. العالم مشغول بمصالحه، ونحن وحدنا نملك القرار بأن ننهض… أو أن ننهار. ما نعيشه اليوم ليس قدَرًا، بل نتيجة تراكم الاستسلام، والأنانية، وغياب المشروع الوطني الجامع. والسكوت لم يعُد حيادًا، بل صار مشاركة بالجريمة. فلا قيامة للبنان إن بقي كلٌّ منّا يحمي كنتونه، ويظن أن الانهيار سيقع على الآخرين فقط.
التغيير مؤلم، نعم. لكنه أقلّ كلفة من الزوال. والمقاومة مكلفة، نعم. لكنها أقلّ ثمنًا من العيش في وطن ميت. نحن لا نحتاج إلى أبطال خارقين، بل إلى وعي جماعي، إلى قرار بالرفض، إلى نَفَس طويل لا ينقطع عند أول تهديد أو أول صفقة. الحرية ليست شعارًا نعلّقه على الجدران، بل مسؤولية نعيشها. والسيادة ليست بيانًا نُصدره، بل موقفًا نلتزم به. فإن كنّا نؤمن فعلًا بهذا الوطن، فلنبدأ باسترداده، لا بالعنف الأهوج، بل بالمقاومة الذكية، بالوعي، بالرفض، بالمحاسبة، برفض التطبيع مع القهر، وبرفض أن نُختصر كأقليات خائفة تبحث عن مأوى. وربما لن نُغيّر كل شيء غدًا. ولكن، إن بدأنا اليوم، نكون قد اخترنا طريق الحياة. وإن تأخرنا، سنترك أبناءنا أمام وطن مهزوم، بلا كرامة، بلا وجه، بلا حلم بلا مستقبل. فلتكن البداية الآن… ولو بتمعيقة واحدة…