الاحتفال الكنسي والرسالة الروحية
تحتفل اليوم كنيستنا المارونية في لبنان والانتشار كافة بالذكرى السنوية للقديسة مارينا، ومع عطر قداستها نرفع الصلاة من أجل أن يظلّ لبنان أرضًا للقديسين، وملاذًا للحرية، وشاهدًا حيًّا على قداسة أبنائه الموارنة، الذين ما توانوا يومًا عن السير خلف الربّ، ولو كلّفهم ذلك، كما مارينا، التخلّي عن كل شيء وتقديم أنفسهم قرابين على مذبح المحبة والعطاء… فمن هي مارينا، وما هي قصتها المجبولة بالإيمان والتعبّد والقداسة؟
سيرة قداسة وتجرّد
في طيّات تاريخ الموارنة المضيء بالقداسة والتفاني، تبرز سيرة القدّيسة مارينا، التي اختارت أن تُخفي أنوثتها لتُكمل دعوتها الإلهية، فكانت مثالًا نادرًا للبطولة الروحية والتجرّد الكامل من الذات في سبيل الإيمان. وُلدت مارينا عام 715م في بلدة القلمون في شمال لبنان، وتُعدّ هذه البلدة مهدًا ونقطة انطلاق مسيرتها الروحية التي قادتها لاحقًا إلى دير قنوبين، حيث عاشت حياة النسك والتقوى حتى وفاتها. البلدة اليوم تفتخر بأنها أنجبت إحدى أعظم قدّيسات الكنيسة المارونية، وتُعتبر محطة مهمة في مسار الحجّ الروحي إلى مواقع القداسة في وادي قاديشا.
التحوّل إلى الحياة الرهبانية
عند وفاة والدة مارينا، قرّر والدها التفرغ لحياة الرهبنة، لكنّه وجد نفسه ممزقًا بين دعوته وحبّه لابنته الوحيدة. فكانت المفاجأة أن الصبية مارينا رفضت فكرة الزواج، وعبّرت عن رغبتها بأن ترافق والدها إلى الدير، طالبةً منه ألّا يُحرمها من الحياة مع الله. وبقلبٍ مفعم بالإيمان، قصّت شعرها وارتدت زيّ الرجال، وأخذت اسم “مارينوس”، لتلتحق بدير قنوبين في وادي قاديشا، قلب المارونية النابض في لبنان.
حياة نسكية وصمت بطولي
سنوات طويلة قضتها مارينا في الدير، صامتة، متأملة، متفانية في أعمال الطاعة والخدمة. لم يعرف أحد أنها أنثى، فقد عاشت حياة تقشّف وزهد، صامتة عن حقيقتها، ناطقة فقط بإيمانها، وملتزمة بأعمق أشكال النسك.
الاختبار القاسي والانكشاف بعد الوفاة
إلّا أنّ درب قداستها لم يكن خاليًا من التجارب. فقد اتُّهمت ظلمًا بارتكاب الخطيئة بعدما وُلد طفل غير شرعي ونُسب زورًا إليها. قبلت التهمة بصمت، ولم تدافع عن نفسها، بل اعتبرت أنّ ذلك جزء من صليبها الذي تحمله حبًّا بالمسيح. طُردت من الدير، وفُرض عليها أن تعتني بالطفل، فربّته بكل محبة وصبر، دون أن تبوح بسرّها. لم تُكتشف حقيقتها إلا بعد وفاتها، حين كُشف جسدها أثناء تحضيرها للدفن، وتبيّن أنها أنثى. عمّ الذهول والندم وجوه الرهبان، فبكوا قداسة ظلموها وجهلوا جوهرها. ومنذ ذلك الحين، أصبحت مارينا أيقونة للتجرّد والإيمان العميق، ورمزًا لكل من يختار الله فوق كل شيء.
شهادة الأب وتكريم الكنيسة
والدها، الذي ترهّب باسم “أوغسطين”، بقي هو الآخر شاهدًا على دعوة مارينا الاستثنائية، التي وُلدت من الألم والتضحية.
تحتفل الكنيسة المارونية بعيد القديسة مارينا في السابع عشر من تموز من كل عام، وتكرّمها كراهبة قديسة، وشفيعة لدير قنوبين التاريخي، الذي احتضن قداستها وظلّ شاهدًا على سرّها حتى اليوم.
مارينا أيقونة الإيمان الماروني
هذه القديسة ليست فقط مثالًا للقداسة الفردية، بل تجسيدًا حيًّا لهوية الموارنة، الذين عبر التاريخ حافظوا على إيمانهم رغم الاضطهاد، واحتضنوا وطنهم لبنان، فأسسوا كيانه، وجعلوا منه ملاذًا للمضطهدين، تمامًا كما كان وادي قاديشا، وتمامًا كما كانت مارينا: ملجأً للحقّ في وجه الظلم، وصوتًا للصمت المتقدّس في زمن الضجيج.
إيمان لا يتزعزع
إنّ إيمان القديسة مارينا هو إيمان الموارنة في كل الأزمنة: إيمان لا يهاب الاتهام، لا ينكسر تحت الاضطهاد، ولا يبحث عن مجد أرضي، بل يسعى إلى وجه الله وحده. ومن بين هؤلاء الموارنة برز قديسون عظام أمثال مار شربل، والقديسة رفقا، والقديس نعمة الله الحرديني، وغيرهم كثر، ممن جعلوا من لبنان منارة قداسة، وعلامة رجاء لكل من يسير في درب الخلاص.
الخاتمة: لبنان وطن مقدّس لا يُقهر
في الخلاصة، إنّ لبنان القداسة والقديسين، الذي أنجب القديسة مارينا وغيرها كثير من القديسات والقديسين والأبرار، هو وطن “وُقف”، أي ملك لله، أبدي وأزلي. ولهذا، ومهما اشتدت على أهله المؤمنين والأحرار الصعاب والتضحيات، لن ينكسر، وبمعونة الله دائمًا، وكطائر الفينيق، يخرج من الرماد إلى الحياة والنبوغ والعطاءات. ***الكاتب ناشط لبناني اغترابي رابط موقع الكاتب الإلكتروني https://eliasbejjaninews.com عنوان الكاتب الإلكتروني phoenicia@hotmail.com