ذكرى استشهاد الإخوة المسابكيين الثلاثة في مسيرة الإيمان المسيحي والشهادة المستمرة
الياس بجاني/10 تموز/2025
في صفحات التاريخ المشرقة بالإيمان والتضحية، تبرز قصة الإخوة المسابكيين الثلاثة: فرنسيس، وعبد المعطي، ورافائيل، الذين سطروا بدمائهم أروع ملاحم البطولة الروحية في دمشق عام 1860. هؤلاء الشهداء الموارنة، الذين تجاوزت أعمارهم الستين عامًا، رفضوا التخلي عن إيمانهم المسيحي رغم التهديد بالموت، فكانوا نموذجًا حيًا لمعنى الإيمان في الدين المسيحي، مؤكدين أن من يقتل الجسد يعجز عن قتل الروح المؤمنة. هذه الشهادة البطولية لا تزال تتردد أصداؤها حتى يومنا هذا، متصلة بتضحيات مماثلة شهدتها دمشق مؤخرًا، من خلال جريمة تفجير كنيسة مار إلياس للروم الأرثوذكس.
مجازر 1860 ورفض التخلي عن الإيمان
في ليلة العاشر من تموز (يوليو) عام 1860، شهدت دمشق أحداثًا دامية استهدفت المسيحيين. لجأ الإخوة المسابكيون، برفقة العديد من المسيحيين والآباء الفرنسيسكان، إلى الكنيسة طلبًا للحماية. إلا أن الهائجين والغوغائيين الجهاديين من المسلمين اقتحموا عليهم الكنيسة وطالبوهم بتغيير دينهم. هنا تجلى الإيمان الصلب للإخوة، حيث نطق فرنسيس بكلمات خالدة تعكس شجاعتهم وتصميمهم: “إننا لا نخاف ممن يقتل الجسد… وإن الإكليل معد لنا في السماء وليس لنا إلا نفس واحدة ولن نفقدها، نحن مسيحيون ونريد أن نموت مسيحيين”. كان فرنسيس تاجرًا للحرير، وعُرف بسيرته المسيحية الحميدة، فلم يكن يذهب إلى عمله قبل المرور بالكنيسة. أما عبد المعطي، فكان قد ترك التجارة ليعلّم في مدرسة الفرنسيسكان، بينما كان رافائيل يساعد الأخ المكلف بالسكرستيا. هذه السيرة الطيبة والالتزام المسيحي لم يكونا مجرد مظاهر خارجية، بل كانا متجذرين في أعماق قلوبهم، مما مكنهم من مواجهة الموت بثبات لا يتزعزع. قُتل الإخوة الثلاثة في الكنيسة أمام المذبح، لتتحول دماؤهم إلى شهادة حية على قوة إيمانهم.
معنى الإيمان في المسيحية: “من يعترف بي أمام الناس”
تتجلى قصة الإخوة المسابكيين كنموذج عملي لمفهوم الإيمان في الدين المسيحي. الإيمان في المسيحية ليس مجرد تصديق عقلي بوجود الله، بل هو ثقة كاملة ومطلقة بالله، تشمل التسليم لمشيئته، والطاعة لوصاياه، والاستعداد للتضحية من أجله. هو علاقة حية وشخصية مع الله، تبنى على المحبة والرجاء.
تركز الآية الإنجيلية: “كل من يعترف بي أمام الناس، أعترف أنا أيضًا به أمام أبي الذي في السموات. ومن ينكرني أمام الناس، أنكره أنا أيضًا أمام أبي الذي في السموات” (متى 10: 32-33)، على أهمية الشهادة العلنية للإيمان. الاعتراف بالمسيح ليس مجرد كلمات، بل هو موقف حياة، استعداد لمواجهة التحديات والاضطهادات من أجل الحق. هذه الآية تؤكد على مبدأ أساسي: أن الحياة الأبدية هي ثمرة هذا الإيمان المعترف به، وأن الشهادة للمسيح في هذا العالم هي مفتاح الاعتراف بنا أمام الله في السماء. كما تشير الآية الأخرى: “لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها، بل خافوا بالحري من الذي يقدر أن يهلك النفس والجسد كليهما في جهنم” (متى 10: 28)، إلى حقيقة أن القتل الجسدي لا يمكن أن ينهي الحياة الروحية. فبالنسبة للمؤمن، الموت الجسدي هو بوابة إلى الحياة الأبدية مع المسيح. الإخوة المسابكيون أدركوا هذه الحقيقة بعمق، ولذلك لم يخشوا الموت، بل رأوا فيه طريقًا إلى الإكليل المعد لهم في السماء.
تواصل التضحية: من مجازر 1860 إلى تفجير كنيسة مار إلياس
تُظهر الأحداث الأليمة، مثل تفجير كنيسة مار إلياس للروم الأرثوذكس في دمشقمؤخراً، أن روح الاضطهاد بسبب الإيمان لم تنتهِ مع مرور الزمن. على الرغم من الفارق الزمني الكبير بين استشهاد الإخوة المسابكيين وهذه الجريمة المروعة، إلا أن هناك روابط قوية ومتجذرة بينهما:
المكان المقدس كهدف: استشهد الإخوة المسابكيون داخل الكنيسة، وهو نفس ما حدث في كنيسة مار إلياس حيث اقتحم الإرهابيون المسلمون المكان أثناء وجود المصلين وفجر أحدهم حزامه الناسف، مما أسفر عن مقتل وجرح العشرات، من بينهم أطفال وشيوخ ونساء. في كلا الحادثتين، تحول بيت الله إلى مسرح للعنف الوحشي ضد المؤمنين.
إن الاستهداف على خلفية الإيمان: دُفع الإخوة المسابكيون ثمناً باهظاً لرفضهم التخلي عن إيمانهم. وفي تفجير كنيسة مار إلياس، كان المستهدفون هم المصلون المسيحيون الذين تجمعوا للعبادة، مما يؤكد أن الدافع الأساسي وراء الهجوم كان استهداف الإيمان المسيحي ذاته. كلا الجريمتين تهدفان إلى ترهيب المسيحيين وإجبارهم على التخلي عن هويتهم الدينية وطردهم من كل بلاد الشرق حيث الإرهاب والجهاد والكراهية والحقد ورفض الآخر المختلف.
الشهادة المستمرة: ضحايا كنيسة مار إلياس، مثلهم مثل الإخوة المسابكيين، قدموا تضحية قصوى. لقد أصبحوا شهداء للإيمان، لا لرفضهم التخلي عن المسيح شفاهًا، بل لأنهم قُتلوا بسبب وجودهم كمسيحيين يمارسون حقهم في العبادة. هذا يجسد المعنى العميق للآية: “لا تخافوا ممن يقتل الجسد”، فبالرغم من القتل والدمار، يبقى الإيمان حياً ومنتصرًا. تاريخ متصل من الاضطهاد: إن ما حدث في كنيسة مار إلياس يذكرنا بالاضطهادات التي حدثت في عام 1860 وغيرها عبر التاريخ. إنه يؤكد أن المجتمعات المسيحية في بلاط المشرق لا تزال تواجه تحديات وجودية تتطلب منها الثبات والصمود في وجه العنف والتطرف.
التكريم الكنسي: قديسون على مذبح الرب
تقديراً لشهادتهم البطولية، قامت الكنيسة الكاثوليكية بتطويب الإخوة المسابكيين الثلاثة. في 10 تشرين الأول (أكتوبر) عام 1926 حيث أعلن البابا بيوس الحادي عشر تطويبهم. ثم، في 20 تشرين الأول (أكتوبر) 2024، أعلن قداسة البابا فرنسيس الراحل قداستهم، ليصبحوا بذلك قديسين على مذبح الرب.
اليوم، تتذكر الكنيسة المارونية اللبنانية، ومعها الكنيسة الكاثوليكية جمعاء، شهادة هؤلاء الإخوة الذين لم يتخلوا عن المسيح وعن إيمانهم به، وارتضوا الذبح على خلفية إيمانهم الصلب. لا تزال أعضاؤهم محفوظة في كنيسة الموارنة في دمشق، لتكون تذكيرًا دائمًا بتضحيتهم وإيمانهم الذي لا يتزعزع.
إن قصة الإخوة المسابكيين الثلاثة، وتضحيات شهداء كنيسة مار إلياس، هي دعوة لكل مؤمن للتأمل في معنى الإيمان الحقيقي، والاستعداد للشهادة للمسيح في كل الظروف، مدركين أن الروح المؤمنة أقوى من أي محاولة لقتلها.
في الخلاصة، إن شهادة الإخوة المساكبيين وشهادة المصلين في كنيسة مار الياس بدمشق مؤخراً، وشهاداة المؤمنين المستمرة في كل البلدان حيث الإضطهاد والإجرام والإرهاب تبرز أن الإيمان بالمسيح وبإنجيليه ليس مجرد معتقد، بل هو حياة تُعاش في ظل التضحيات والصبر والرجاء.
***الكاتب ناشط لبناني اغترابي
رابط موقع الكاتب الإلكتروني
https://eliasbejjaninews.com
عنوان الكاتب الإلكتروني
phoenicia@hotmail.com