في كل عام، وفي صمت التأمل وروحانية الانتظار، تحتفل الكنيسة بواحدة من أعمق وأقدس المحطات في مسيرة الفداء: “سبت النور”، اليوم الذي يفصل بين صليب الموت وبهاء القيامة. إنه ليس يوم حداد، بل هو يوم الرجاء العظيم، حيث نستعد لاستقبال فجر القيامة بعد أن عبر المسيح باب الموت ليضيء للإنسانية طريق الحياة الأبدية.
في هذا اليوم، تُطوى الأرض على جسد يسوع في القبر، لكن السماء لا تزال مفتوحة، والرجاء مشتعِل. يسوع، وهو في موضع الموت، لم يكن ميتًا عن البشرية، بل نزل إلى الجحيم ليُحرر النفوس الحبيسة ويكسر قيود الموت. “لأنك لن تترك نفسي في الجحيم، ولن تدع قدوسك يرى فسادًا” (أعمال الرسل 2: 27)
هذا الكلام الإيماني اقتبسه بطرس في عظته يوم العنصرة، يشير إلى أن يسوع، حتى وهو في القبر، كان يُنجز عمل الخلاص. لم يكن “سبت النور” فراغًا زمنياً بين موت وقيامة، بل كان امتلاءً بالإلهيات، حيث بدأت بشائر القيامة تضيء من أعماق الظلمة. في فجر الأحد، ومع أولى خيوط الضوء، توجهت النسوة إلى القبر حاملات الحزن والعطور، لكن ما رأينه بدّد كل ظلمة: “فإذا زلزلة عظيمة حدثت، لأن ملاك الرب نزل من السماء، وجاء ودحرج الحجر عن الباب، وجلس عليه… وقال الملاك للمرأتين: لا تخافا! فإني أعلم أنكما تطلبان يسوع المصلوب. ليس هو ههنا، لأنه قد قام كما جاء في الكتاب المقدس (إنجيل متى 28: 2، 5-6)
الدهشة والخوف تحولا إلى فرح مقدس، لأن الذي كان ميتًا قام، والذي دُفن في ظلمة القبر خرج منه نوراً لا يُطفأ. لم يكن القبر الفارغ علامة غياب، بل كان دليلاً على حضور المسيح بطريقة جديدة في حياة المؤمنين، حضور يُنير القلب والروح ويبعث الرجاء في النفوس.
“سبت النور” هو دعوة للمؤمنين أن لا يتوقفوا عند مشاهد الألم أو صمت القبور، بل أن ينظروا إلى ما بعد الصليب، إلى المجد المُشرق الذي وعد به الرب تلاميذه قائلاً: “إن ابن الإنسان سوف يُسلَّم إلى أيدي الناس، فيقتلونه، وفي اليوم الثالث يقوم” (إنجيل مرقس 9: 31).
في هذا اليوم نتأمل بالصراع الأزلي بين الحياة والموت، ونشهد انتصار النور على قوى الظلمة. لم تكن قيامة المسيح لحظة عابرة، بل هي الحقيقة الأساسية في إيماننا المسيحي، لأنها تؤكد لنا أن المحبة أقوى من الكراهية، والغفران ينتصر على الحقد، والرجاء يعلو فوق كل يأس.
“وإن كان روح الذي أقام يسوع من الأموات ساكنًا فيكم، فالذي أقام المسيح من الأموات سيُحيي أجسادكم المائتة أيضًا بروحه الساكن فيكم” (راسلة القديس بولس الرسول إلى أهل رومية 8: 11)
في “سبت النور”، نحن لا نحيي مجرد ذكرى، بل نجدد رجاءنا في وعد القيامة، ونستمد قوة جديدة لمواجهة آلام هذا العالم، واضطراباته، وخيباته. فإذا كان الظلم قد صلب البر، فإن النور قام من بين الأموات، ليؤكد لنا أن كل آلامنا لا تُقارن بالمجد العتيد أن يُستعلن فينا (رومية 8: 18).
دعونا لا ننسى، ونحن نعيش سكون هذا اليوم، أن القبر لن يكون الكلمة الأخيرة، بل النور. وأن الحزن لن يدوم، بل سيفسح المجال للفرح الذي لا يُنزع. وها هو يسوع، حيٌّ إلى الأبد، يدعونا لنكون أبناء نور، رافضين الاستسلام، متشبثين برجاء القيامة.
فلنُشعل في قلوبنا اليوم شعلة الإيمان والرجاء، ولنبتهج لأن الظلمة لم ولن تقوَ على النور، لأن المسيح قام، ولأن القيامة ليست فقط حدثًا ماضويًا بل حقيقة حاضرة تنبض في كل قلب يؤمن بأن المسيح غلب الموت ليهبنا الحياة.
“المسيح قام من بين الأموات، وبالموت داس الموت، ووهب الحياة للذين في القبور.”
المجد لك يا رب، يا من حولت سبت الألم إلى فجر الرجاء، والظلمة إلى نور لا يغرب. *الكاتب ناشط لبناني اغترابي *عنوان الكاتب الألكتروني phoenicia@hotmail.com رابط موقع الكاتب الالكتروني https://eliasbejjaninews.com