في مشهدية لبنانية ذرائعية مكرّرة غايتها المبطنة الالتفاف على الحقيقة والتهرب من تنفيذ الالتزام باتفاقية وقف إطلاق النار والقرارات الدولية، يسوّق أهل الحكم على مستوى الرئاسات الثلاث والحكومة وإعلام حزب الله الإرهابي بدعة وخزعبلة ما يسمونه “الحوار الوطني” و”الاستراتيجية الوطنية” كوسيلة لنزع سلاح حزب الله”، وكأنّ المسألة خلاف هي على وجهة نظر أو على جدول أعمال، لا على احتلال موصوف ومسلح ومعلن يعطل الدولة ويهدد كيان لبنان وسيادته وأمنه واستقراره.
إن خطاب القسم الذي ألقاه الرئيس جوزيف عون أتى واضحاً وصريحاً في تأكيده على حصرية السلاح بيد الدولة اللبنانية، وعلى وجوب إنهاء وجود ميليشيا حزب الله الإرهابية وتجريدها من سلاحها، عملاً باتفاقية وقف إطلاق النار الموقعة مع إسرائيل، والتي وقعها أيضاً وزراء حزب الله أنفسهم في الحكومة السابقة، وباركها وشارك فيها “الأخ الأكبر” نبيه بري كما يلقبه قادة حزب الله. وكذلك جاء البيان الوزاري لحكومة الرئيس نواف سلام مؤكداً على الالتزام الكامل بهذه الاتفاقية والقرارات الدولية.
لا بد من الإشارة هنا إلى أن الرئيس عون وغالبية اللبنانيين يعرفون جيداً أن مجلس النواب لم ينتخب عون طوعاً وعن قناعة، ولم يأتِ برضى حزب الله وحركة أمل ومحور إيران أو بتوافق غالبية الأحزاب اللبنانية، بل فُرض فرضاً من اللجنة الخماسية (مصر، السعودية، أميركا، فرنسا، وقطر) بدعم وتزكية دوليين كمرشح إنقاذي مهمته الأولى والأخيرة هي تنفيذ القرارات الدولية وبنود وقف إطلاق النار ونزع سلاح حزب الله، لا التحايل والتذاكي والالتفاف عليها.
الأمر ذاته ينطبق على تكليف نواف سلام تشكيل الوزارة، الذي ما لبث أن انحرف عن المهمة السالفة الذكر، ورضخ لضغوط نبيه بري والأحزاب المافيوية، وأدخل وراء حزب الله وحركة أمل في حكومته، ومسلّماً وزارة المالية من جديد إلى وزير يمثل حركة أمل، في استسلامٍ صارخ وجبنٍ مفضوح لنبيه بري يُعرّي كل مزاعم الاستقلالية والحياد والإصلاح والشفافية، كما حاصص الأحزاب لمصلحته الشخصية.
مؤخراً وبعد أول زيارة له لفرنسا تراجع الرئيس عون عن مضمون قسمه، وتنصل من اتفاق وقف إطلاق النار، وعاد بذمة فاقعة إلى مربع “الحوار الوطني”، مقترحاً البحث في نزع سلاح حزب الله من خلال حوار يتلاعب بمفردات كثيرة كلها تعني ببساطة الاستسلام لحزب الله وتبني خطابه بخضوع معيب ومستغرب ومستنكر. هو يتمادى في محاولة التلاعب بالمصطلحات بين “الحوار الوطني”، و”الاستراتيجية الدفاعية”، و”الأمن الوطني”، وكلها عناوين هدفها واحد: المماطلة والتهرب، بينما المطلوب قرار واحد شجاع لا لبس فيه، بنزع سلاح حزب الله وتفكيك بنيته الإرهابية العسكرية والمالية والمخابراتية.
الرئيس عون مدعو، وبأعلى درجات الجدية، إما إلى تنفيذ المهمة التي جاء به المجتمع الإقليمي والدولي لأجلها، وإما إلى الاستقالة كون الاستمرار في هذا النهج التراجعي المغلف بالتشاطر والتذاكي والذرائعية هو تكريس لهيمنة حزب الله، وإعادة تثبيت احتلاله الكامل للبنان، أمنياً وعسكرياً واستخبارياً.
أما نواف سلام، فقد سقط القناع عن وجهه، وظهرت أجندته العروبية الناصرية البالية، فبان أنه لا يصلح لهذا الموقع، مثله مثل الوزيرين طارق متري وغسان سلامة، اللذين لا يتوانيان عن إطلاق التصريحات التي تصب في مصلحة حزب الله وتكرّس الأمر الواقع لاحتلاله، وتعارض تنفيذ القرارات الدولية وبنود اتفاق وقف إطلاق النار. وفي موقفٍ يعكس تخلي بعض الوزراء الكامل عن المسؤولية، أصبحوا يتجنبون حتى لفظ اسم “حزب الله”، ويتحدثون عن “مكوّنات” و”مرجعيات”، كما يتجنّب الناس تسمية السرطان باسمه… وكأنّ الاعتراف بالحقيقة أصبح من المحرّمات!
إن خلاصة الموقف واضحة: على الرئيس جوزيف عون، ورئيس الوزراء نواف سلام، والحكومة مجتمعة، الالتزام الحرفي بكل بنود اتفاق وقف إطلاق النار، وتحديد جدول زمني لا يتعدى الأشهر القليلة لنزع سلاح حزب الله وتفكيك كامل بنيته العسكرية والأمنية والمخابراتية، وإن لم يستطيعوا أو لم يريدوا، فليتفضلوا جميعاً بالاستقالة، لأنهم لا يستحقون ولا يليق بهم حمل مسؤولية خلاص لبنان وتضييع الفرصة الدولية والإقليمية الذهبية المتاحة حالياً بعد تفكك محور إيران الإرهابي وهزيمة حزب الله واستسلامه من خلال اتفاقية وقف إطلاق النار وإقفال خطوط إمداداته بعد سقوط نظام الأسد في سوريا.
وفي سياق متصل كانت رسالة السيدة مورغان أورتاغوس، ممثلة الرئيس دونالد ترامب، إلى الدولة اللبنانية واضحة ولا لُبس فيها: لا مساعدات مالية ولا استثمارات ولا دعم سياسي قبل تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار ونزع سلاح حزب الله، وقد قالتها صراحة للمسؤولين وفي المقابلات الإعلامية التي أُجريت معها: “حزب الله سرطان ويجب اقتلاعه من جذوره.” هذه هي الحقيقة التي يتجاهلها الحُكم في لبنان إما عن خوف وجبن أو عن عدم قدرة وإرادة علماً أن المحصلة واحدة والحصاد واحد.. لا دولة.
ومما يشير إلى عدم جدية الحكم اللبناني في تنفيذ ما التزم به لجهة إنهاء احتلال وهيمنة حزب الله كشفت قناة “العربية” يوم الثلاثاء 8 نيسان/ 2025 في تقرير مفصل أن حزب الله لا يزال يسيطر كلياً على مرفأ بيروت، ويستعمله للتهريب بكافة أشكاله، في انتهاك صارخ للسيادة، وضرب مباشر للاقتصاد، وتهديد للأمن القومي اللبناني والعربي والدولي.
يبقى أن الموقف الحقيقي الوحيد المطلوب اليوم من المسؤولين هو ذاك الذي يُفضي إلى قرار وخيار حاسم هو إما دولة موحدة مستقلة ذات سيادة، أو استمرارية دويلة حزب الله الإيراني والإرهابي التي تبتلع كل شيء. *الكاتب ناشط لبناني اغترابي *عنوان الكاتب الألكتروني phoenicia@hotmail.com رابط موقع الكاتب الالكتروني https://eliasbejjaninews.com