المحامي نديم البستاني/التشييع العظيم والمأساة الأعظم

17

التشييع العظيم والمأساة الأعظم
المحامي نديم البستاني/نداء الوطن/26 شباط/2025

كان الخميني مهجوساً بفكرة جنازته وأن تكون أكبر من جنازة عبد الناصر.
من أعظم الشواهد التي طبعت تاريخ البشرية، تلك التي كرّست قاعدة غريبة في علوم الاجتماع والسياسة، مفادها أنه كلما كان التشييع عظيماً، كان ذلك دليلاً على نهاية حقبة وبداية حقبة جديدة، وعادةً ما تكون مناقضة لما سبقها.

فعقب موت الإسكندر المقدوني من دون أن يترك خليفة له، انقسمت إمبراطوريته بين ورثته، ما أدى إلى انتهائها وابتلاعها من قبل الإمبراطورية الرومانية. وبعد مقتل يوليوس قيصر، دخلت الجمهورية في حقبة من الحرب الأهلية وتحوّلت إلى ديكتاتورية تحت سيطرة أوغسطس، الذي أعلن نفسه إمبراطوراً. وفي فرنسا، حكم لويس الرابع عشر 70 عاماً وسيطر على الثقافة والسياسة والاجتماع لدرجة أن أصبح لقبه “الملك الشمس”، وكان رائداً لعصر التنوير. لكن بعد موته، دخلت فرنسا في فترة من عدم الاستقرار، انتهت بقطع رأس خليفته لويس الخامس عشر على المقصلة، معلنةً نهاية الملكية في فرنسا إلى لأبد. وفي الصين، على الرغم من أن جنازة ماو تسي دونغ حضرها مليون شخص في بكين، كان ذلك التشييع نذيراً لبدء أفول الشيوعية الزراعية الصينية، لتصبح الصين اليوم واحدة من أعتى الدول الرأسمالية في العالم، وثاني دولة بعد الولايات المتحدة من حيث تعداد أصحاب المليارات. أما في إسبانيا، فعقب موت فرانكو، اعتمدت البلاد دستوراً ديمقراطياً وعادت الملكية إليها كرمز لوحدة البلاد، وتحولت الدولة نحو النظام الفدرالي. وفي مصر، شهدت جنازة أم كلثوم في عام 1975 حضور أكثر من مليون شخص، وكانت تلك نهاية حقبة فنّ الطرب الراقي لتبدأ فترة جديدة من الفنّ الهابط و”الطقاطيق”، مع أغاني مثل “زحمة يا دنيا زحمة” لأحمد عدوية وأفلام المقاولات الرخيصة كما فيلم “أمريكا شيكا بيكا”.

وفي العام 1970، حضر جنازة جمال عبد الناصر أكثر من ثلاثة ملايين شخص، لكن بعد سنوات قليلة، زار أنور السادات الكنيست الإسرائيلي في 1977 تمهيداً لاتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل في 1979، التي جاءت بعد تفاهمات كامب دايفيد. أما جنازة قاسم سليماني، التي قد تكون من أضخم الجنازات في التاريخ، فقد حضرها سبعة ملايين شخص امتدت على مدار أربعة أيام عبر بغداد وكربلاء والنجف وطهران وقم ومشهد والأحواز وكرمان، ولولا التدافع الذي أدى إلى مقتل 56 شخصاً، لكانت أعداد المشيّعين قد تجاوزت تلك التي شهدتها جنازة الخميني، التي تُذكر التقارير بأنه أثناء جنازته سقط جسده من النعش بسبب شدة تدافع وجنون الجماهير التي فاقت العشرة ملايين.

وفي كتابه “الخميني يغتال زردشت”، يذكر الكاتب مصطفى جحا الذي اغتاله “حزب الله” عام 1992 أن الخميني كان مهجوساً بفكرة جنازته وكان همّه أن تكون أكبر من جنازة عبد الناصر، بل الأكبر في تاريخ البشرية، ليكرس نفسه في مصاف الأنبياء والمرجعية الإسلامية العظمى في العالم. مع ذلك، تبقى جنازة أنادوراي حاكم ولاية تاميل نادو في جنوب الهند هي الأضخم في تاريخ البشرية، إذ حضرها حوالى 15 مليون شخص.

رغم التشييع الأسطوري لقاسم سليماني، إلا أن تلك اللحظة كانت بداية انحدار نفوذ الحرس الثوري الإيراني، فبعد استلام إسماعيل قاآني قيادة فيلق القدس في 2020، ظهر جليّاً تراجع الكاريزما وقلة البريق التي كان يتمتع بها سليماني، وتزامن مع تراجع نفوذ الحرس الثوري في العواصم العربية التي كان يسيطر عليها، وتراجع حتى في الداخل الإيراني لتصبح مهمته الأساسية مكافحة الشغب في أزقة المدن بسبب الاحتجاجات الشعبية المتزايدة ضد نظام الملالي.
في التشييع نفسه، قالت ابنة سليماني زينب على المنبر إن لها ثلاثة أعمام روحيين سينتقمون لمقتل والدها وهم: بشار الأسد، إسماعيل هنية، وحسن نصرالله! وكأنها ألقت لعنة عليهم، حيث تم تحييدهم من المشهد السياسي في فترة لم تتجاوز الأربعة أشهر من العام 2024، الذي سيكون عاماً عجيباً في التاريخ.
كان تشييع رفيق الحريري في 2005 مهيباً جداً، ولعله كان أكبر من تشييع حسن نصرالله، وقد صوّر أحد رسامي الكاريكاتور المشهد عبر رسم صورة الحريري وحواجبه الكثيفة التي تحولت إلى موجة لامتناهية من الجماهير. ومع ذلك، أثبتت الحقبة التي تلت هذا الحدث، أنها كانت نقطة نهاية عصر السنّية السياسية وبداية عصر الشيعية السياسية، التي أصبحت مناقضة لمدرسة الحريري في الحكم، وفي كل شيء. وبدلاً من أن يحقق إرث والده، كان القدر بانتظار سعد الحريري كي تتحقق السياسات التي قادت إلى تهميش طائفته وإلى إنهاء إرث أبيه على يديه بالذات.

قبل ذلك، كان تشييع بشير الجميل في المنطقة المسيحية عابقاً بالدموع والبارود بسبب كثرة إطلاق رصاص الحزن. وقد فقد العديد من الأشخاص حياتهم بسبب شدة وطأة المأساة، من بينهم الممثل إلياس رزق أحد أبطال مسلسل “الدنيا هيك”، الذي انتحر عبر إطلاق رصاصة على رأسه، في إشارة إلى اليأس الذي سيغزو المجتمع المسيحي. وكان التشييع رمزاً لنهاية المارونية السياسية. ومن لذاعة القدر، تحالف أمين الجميل مع نظام حافظ الأسد الذي كان المسؤول عن اغتيال شقيقه بشير، ما شكل انقلاباً في المشهد اللبناني.
اليوم، ونحن نشهد التشييع العظيم لحسن نصرالله، الذي قدّر عدد مشيعيه بأكثر من أربعمئة ألف شخص، يمكننا أن نستشرف أن هذا اليوم سيكون نهاية حقبة الشيعية السياسية وبداية مرحلة جديدة من الانقسامات والتفكك بين أجنحة “حزب الله”. مع ضعف قيادة نعيم قاسم. وتشير التوقعات إلى عودة نبيه بري للعب دور الأخ الأكبر، اللقب الذي ناداه به قاسم، ولكن الأصح هنا استعارة التعبير ذاته من لسان جورج أورويل في روايته 1984، حيث يرمز به إلى قادة الكتلة الشرقية الشيوعية ولا سيما زعماء الأنظمة الشمولية الذين لا يحيون إلا من خلال فرض الرقابة المطلقة على الشعوب تحت شعار الأخوة والرعاية. وفي ذلك نذير لاستعادة حقبة حرب الإخوة حين أرادت حركة “أمل” فرض رقابتها “الأخوية” على “حزب الله”.

إن المراحل القادمة ستشهد عودة التنظيمات اليسارية لتحقيق الانتقام التاريخي ضد التيار الشيعي الديني، الذي كان قد أقصاها عن ساحة النضال الاجتماعي والأممي. وستظهر شخصية شيعية جديدة ستكون ذات قاعدة شعبية واسعة، تتحالف مع الدولة ذاتها التي قتلت حسن نصرالله، من باب طرح السلام بين لبنان وإسرائيل.

النصيحة لأبناء الشيعة، هي أن لا يغرقوا في الأوهام والمغالاة بمشهد جنازة نصرالله، بل عليهم أن يتهيبوا المصير الكربلائي الذي يتربّص بهم في الأيام القادمة، وأن يواجهوا المستقبل بتواضع أكبر وبراغماتية أعمق، لأن معاندة حركة التاريخ دائماً تكون على حساب قوى الرفض، على حساب عرقهم ودمائهم وأحزانهم.
(*) نديم البستاني هو محامٍ وباحث في مجال حقوق الإنسان والفدرالية