التطورات الميدانية في الشرق الأوسط وتأثيرها على مستقبله
الكولونيل شربل بركات/26 كانون الأول/2024
سقوط الأسد في سوريا كان نقطة مهمة في مجال تقليص نفوذ إيران في المنطقة وفرض لملمة أذرعها، بعد ما تعرّض له ذراعها الأقوى في لبنان “حزب الله” الذي مني بالهزيمة المذلة دون أن تستطيع دعمه أو تغيير الواقع الناتج عن الضربات المتتابعة عليه، والتي أفقدته حرية الحركة ومجمل ترسانته العسكرية وحتى نظامه المالي وكل قادته من الصف الأول والثاني نزولا إلى المقاتلين المدربين. ولكن نظام الملالي لا يزال يعد بالنهوض ويتكلم عن المستقبل، لا بل يحاول أن يمرر معلومات عبر ابواقه الاعلامية عن امكانية ضرب مسيرة الوفاق السورية، التي ترعاها تركيا على ما يبدو بعد انسحاب إيران وروسيا بسقوط نظام الأسد وبقاء الجيش التركي وحيدا على الساحة السورية ليرعى المتغيرات. فماذا بامكان النظام الإيراني فعله بعد على الساحة السورية التي تعتبر مدخله الوحيد إلى لعبة القوى في المنطقة؟
في هذا المجال سرّب اعلام إيران بشكل غير مباشر معلومات حول وجود قوى شعبية في سوريا لا ترضى عن الوضع القائم، لا بل وفي خطاب متلفز أشار الامام الخامنئي نفسه إلى أن “الشرفاء” من الشعب السوري سوف يبادرون قريبا لتغيير الوضع. وهنا يقال بأن الف عنصر من عناصر حزب الله اللبناني والذين كانوا يتمركزون في سوريا لم يعودوا بعد إلى لبنان ولا هم انتقلوا إلى العراق ما شكّل قلقا لعائلاتهم، ومن ثم لمّح إلى امكانية بقائهم مع آخرين من القوى التابعة لنظام الملالي داخل سوريا، وقد يكون في مناطق داعش أو حتى بالقرب من الحدود العراقية، أو ربما في مدن ودساكر تسيطر عليها “قوات سوريا الديمقراطية” المهددة من تركيا لتسليم أسلحتها، بعلم أو بدون علم هؤلاء، تحضيرا لاستغلال الأوضاع المستجدة واجراء تفاهمات وتحالفات تضمن لها البقاء على الأرض السورية، بانتظار دور ما قد تلعبه عند تلقيها الأمر بذلك.
من جهة أخرى، يصعّد الحوثيون هجماتهم على اسرائيل، لتحويل الأنظار عن الخسائر الإيرانية البالغة والتصميم على ردع النظام فيها نهائيا عن التمادي بتطوير مشاريعه النووية، وتجنبا لأي ضربة على الأراضي الإيرانية قد تؤدي إلى سقوط هذا النظام والتخلي عنه عند رسم مستقبل الشرق الأوسط. وهنا يظهر ابراز الدور التركي التوسعي ايضا، والذي يظهر وكأنه تهديد لدول المنطقة باستبدال الهيمنة الملالوية بالهيمنة “العثمانية” ومشاريع السلطان الجديد أو “الخليفة أردوغان”، ويحلم الإيرانيون، بأن بقاء التوازن السني – الشيعي الذي يردع التصرفات الغير محسوبة من قبل التطرف الاسلاموي الأخواني الذي يرعاه الرئيس التركي، يبقيهم كحل وحيد ممكن اللجوء إليه واستعماله لمنع توسّع السلطنة الجديدة صوب البلاد العربية وبالتالي التحكم بمصير ومستقبل الشعوب والدول الاسلامية؛ من آسيا الوسطى إلى شمال افريقيا وجزيرة العرب، كمقدمة للسيطرة على بقية هذه الدول من باكستان إلى أندونيسيا، والتي يقدم النظام الإيراني نفسه كحاجز بوجهها، خاصة في طروحاته للانتقام من قتلة الحسن والحسين أبناء الامام علي منذ أكثر من خمسة عشر قرنا. فهل من الممكن أن يعود للنظام الإيراني هذا الدور الذي حاول أن يغطّي به توسّعه منذ أيام الخميني، الذي كان يحلم بامبراطورية قوروش وقمبيز لا بدولة كسرى ولا الشاه اسماعيل؟ أم أن هذه البدعة قد انتهت، وما سقوط حزب الله وحماس ونظام الأسد إلا مقدمة لسقوطه وتحضيرا لمستقبل المنطقة بدونه؟
إن محاولة النظام الإيراني دفع الحوثيين إلى القتال ليتمكن من التفاوض بإسمهم هي ورقة خاسرة، لا بل هي ما سيسرّع بأجله، فالقرار بالتخلّص من أذرعه كليا لا تراجع عنه، وكلما حاول اللعب بهذه الأوراق ستنقلب الأمور ضده، ما سيجعل قرار ضربه أقرب مهما كانت النتائج. من هنا فإن الحوثيين، الذين لم يتعلّموا بعد من دروس حزب الله وحماس والأسد، سوف ينالون نفس المصير، وقد يكون التخلص منهم هو الباب لضرب نظام الملالي وتحرير الشعوب التي لا يزال يتحكّم بمصيرها منه. ولكن ماذا عن التمدد التركي وتأمل الاسلاميين باستغلال الفرصة للسيطرة على المنطقة عند الانتهاء من الخطر الإيراني؟ وماذا سيكون دور دول الاعتدال العربي، التي أسقطت نظام مرسي في مصر محاولة تطوير الاسلام السياسي كمقدمة للدخول إلى عصر العولمة والمشاركة بكل ثقة بالقرارات المصيرية، التي تتحكم بمستقبل العلاقات بين دول العالم المنفتحة على التغييرات الداخلية والتي لم تعد تسعى إلى السيطرة والتحكّم بمصير الشعوب، لا بل تحاول النظريات الحديثة فيها الخروج من زمن التقاتل إلى زمن تنظيم التنافس وتنويع الانتاج وتوزيع الثروة، ليتشارك الكل بالعمل في أجواء آمنة تكفلها الادارات الناجحة وتدفعها حرية العمل وتطوير الوسائل والطرق الانتاجية والنقد البناء واختيار القادة الصالحين والممثلين الأكفاء؟
أسئلة لا بد منها في ظل التحركات المتسارعة والتي تشي بتطوّر الأمور بالاتجاه الصحيح. فهل تكون الأيام المقبلة واعدة من حيث المتغييرات؟ وهل تسرّع الهجومات الوقائية من “قسد” باتجاه منبج عملية التفاوض مع أردوغان، للسير بحلول مقبولة تضمن التوازنات وبقاء التنوع المناطقي السوري قولا وفعلا يدخلها في مشروع بناء الحكم الجديد؟ وماذا عن الاحلام الامبراطورية بين الكتل التوسعية الكبرى في الشرق الأوسط وهي الفرس (في تجربة قوروش ومن بعده وصولا إلى كسرى والدولة البويهية حتى نظام الملالي) والعرب (منذ الفتح الاسلامي ومن ثم مع الناصرية والبعث وغيرها من الطروحات) والاتراك (من الدولة السلجوقية إلى انفلاش سلطنة العثمانيين وتحكّمها حوالي أربعة قرون) والتي سيطرت على الشرق الأوسط فيما مضى وكل واحدة منها تحاول البروز من جديد وفرض نفسها في التوازنات القادمة؟
إن تغيير التوجهات الفكرية والطروحات الايديولوجية والتي تنبت على الساحة في غياب نظام عالمي محدد وتصوّر واضح للحلول يجعل من القوى الصاعدة والمتأثرة بالتجارب التاريخية تعتمد نظريات تصادمية أحيانا وتعيق انتظام العمل لبناء المستقبل الموعود. ولذا فإننا نشهد تسارع في انهيار النظريات الفاشلة عمليا بانتظار تقبّل الكل بالنتائج والعمل على التعاون. فهل ننطلق في مسيرة بناء حلم الشرق الأوسط المتجدد والمبني على الواقع والتجارب العملية؟ وهل تحمل السنة الجديدة تطلعات أفضل من سابقاتها، وآمالا للأجيال الجديدة بورشة عمل كبيرة تلهي شعوب المنطقة عن التقاتل وتدفعهم للانصهار في مشاريع مشتركة بناءة توعد بالازدهار والاستقرار والخير المندفق على الكل بدون حواجز ولا معوقات؟
ملاحظة/اضغط هنا لدخول صفحة الكولونيل شربل بركات لقراءة كل ما هو منشور له على موقعنا