د. حارث سليمان/جنوبية: اي لبنان؟ بعد زوال سورية الاسد

29

اي لبنان؟ بعد زوال “سورية الاسد”
د. حارث سليمان/جنوبية/23 كانون الأول/2024
لم يكن نظام الاسدين في سورية، نظاما مقتنعا ان دوره ومداه هو حدود الدولة السورية الوطنية، التي قامت بعد انتهاء فترة الانتداب الفرنسي منذ استقلال سورية. لذلك فان هذا النظام وسع ادواره وحضوره في دول جواره المباشر، وحاول ان يكون لاعبا في كل قضايا العالمين الاسلامي والعربي.
كان لبنان ملعبه المفضل، وطاولة رهاناته ومفاوضاته، وصندوق بريده لتيادل الرسائل الملتهبة مع اسرائيل ودول العرب والغرب تارة، وتارة اخرى لعقد الصفقات وانجاز التفاهمات والتسويات.
ولانه اعتبر ان دوام سلطته وتأبيد استبداده، مستند اساسا، الى نجاحه في انتزاع دور اقليمي خارج حدوده، يمكنه من امرين الاول نسج علاقات خارجية ديبلوماسية اقليمية ودولية، وامتلاك اوراق ونفوذ، تجعله لاعبا في توازنات الاقليم وسياساته ونزاعاته وحروبه، اما الثاني فهو اقامة مصالح نفعية واصطياد موارد مالية واستباحة ثروات من خارج سورية، يوزع قسم كبير منها، لرجالات النظام الامني وضباط الجيش ومراكز القوى فيه، وذلك لكسب ولائهم وتقوية ارتباطهم به…
وكان لبنان بالنسبة للاسدين الشجرة اليانعة والفسحة الرحبة لتحقيق كلا الأمرين. فعلى الرغم من قومجية الاسد الاب وبعثيته، فهو لم يفكر يوما بضم لبنان الى سورية واقامة وحدة بين قطرين، او الحاق لبنان القاصر بوطنه الام سورية، على حد زعمه، الذي سلخوه عن ثدييها…
لم يكن الامر كذلك على رغم الردح البعثي القومجي عن شعب واحد في بلدين، او وحدة المسار والمصير، والذي قابله ردح مقابل من اليمين اللبناني الذي كان يخشى من دعوات ضم لبنان الى سورية، سواء كان ذلك بفعل الموجة الناصرية او الدعوة البعثية او العقيدة القومية السورية.
كان الاسد يريد لبنان، ليستبيح خيراته لا ليضمه، وليستولي على موارده، وليس ليتوحد معه، وليُسَخِّر طاقات شعبه ونخبه في خدمته، لا لكي يقيم شراكات متوازنة لتنمية مستدامة بين اقتصادين، كان يريد لاحزاب لبنان السياسية، ان تعمل بخدمة مفارزه الأمنية وأجهزة مخابراته، مخبرين وادوات تتلقى التعليمات وتنفذها، وللنخب الثقافية من شعراء وكتاب أو مبدعين، ان يعتبروا إطلالاته مصدر وحيهم ومُلهِمَ اعمالهم، ولمؤسسات الاعلام واندية السياسية ان تتحول الى ابواقٍ تصدح ببطولات الدكتاتور وتستكشف كل يوم مزايا جديدة، تضاف الى مزاياه القديمة، وكان يلاعب الاطراف السياسة في لبنان وزعمائها، كزحفطونات تَبغِي رضاه وتطرب لفتح ابوابه لهم، في زيارات ممتدة لساعات طويلة.
كان يريد الاستيلاء على لبنان لينهبه، لا ليستحوزه ويحميه. وكان يربي اتباعا تخشاه وتخاف من اذاه، وادوات تطيع تعليماته وتلتزم اوامرَه وليس انصارا او حلفاء يشاركونه رؤية او قضية او عقيدة.
لذلك عمل نظام الأسدين، تارة على خلق وإيجاد مخلوقات سياسية اسدية، في لبنان وفلسطين، وتارة اخرى على رعاية وتنشئة مخلوقات سياسية قزمية اصبحت ذات شأن كبير، بعد ان اشرف على نموها وفكك منافسيها وعزلهم، وكانت الساحة الشيعية هي اول اهتماماته، حيث إستغل واقع الجنوب اللبناني ويوميات الصراع في مواجهة اسرائيل، ليعيد صياغة الاجتماع السياسي الشيعي، عبر الضغط والتهميش على العائلات التقليدية السياسية، واقفال بيوتات رموزها، و عبر الترهيب والاغتيال للقوى المدنية والديموقراطية واليسارية والاشتباكات والتصفيات المسلحة التي دفع حركة امل لخوضها بوجه احزاب الحركة الوطنية والمخيمات الفلسطينية، والتي انطلقت من بعد تغييب السيد موسى الصدر في ليبيا ( سنة ١٩٧٩)، وتولي الرئيس بري قيادتها، بعد تنحي السيد حسين الحسيني طوعا عن مهمة هالَهُ كلفة دمائها.
ولم تكن الثنائية المذهبية الشيعية لتقوى وتزدهر وتحتكر التمثيل الشيعي النيابي، وتحظى بالحصة الشيعية من كعكة موارد الدولة وعوائد الفساد والثروة فيها لولا رعاية نظام الأسدين وحمايتهما.
على الجوانب الاخرى من المشهد اللبناني استغل نظام الاسدين الانقسام الاهلي واستثمره، بتدجين قوى سياسية وترويضها، او محاصرة تأثيرها داخل نطاق طائفي ضيق، او مناطقي اضيق، وسعى الى شرذمتها وكسر ارادتها ليجعلها تابعة له طائعة، ومارس بشكل عملي ودؤوب منع تلاقي اي طرفين متمايزين، او تصالح اي حزبين متخاصمين، الا مرورا به، وباشرافه صياغة للمشتركات وتوقيتا للتفاهمات، واشرف على تصفية كل من تمرد عليه، او على الاقل حاول ان يبقى مستقلا، كان هذا دأبه على السواء في لبنان وفلسطين والعراق.
ويشهد تاريخ لبنان الحديث ان مسيرة تفكيك دولة لبنان وانتهاك سيادته وتعطيل عمل مؤسساته الدستورية، وتفريغ الحياة السياسية فيه من مضمون تداول السلطة وتعاقبها، والوصول الى شلل كامل في إداراته ومرافقه العامة قد بدأ بالتقاء زمنين اثنين؛ زمن صعود حافظ الاسد الى السلطة في سورية بين ١٩٦٦ و١٩٧٠، وزمن تولي سليمان فرنجية الجد رئاسة جمهورية لبنان سنة ١٩٧٠.
كان تفكيك الدولة الشهابية الخطوة الاولى في مسيرة تحويل لبنان من وطن الى ساحة، وكان تمجيد العنف والخروج عن سيادة القانون، هو الثقافة والمبررات الفكرية، للذهاب للحرب الاهلية، تحمس لذلك على السواء، اليمين واليسار اللبناني، اللبنانيون والفلسطينيون، واشترك معهم العرب في اغلب دولهم، فتم تاسيس الفرق النظامية ومختلف التنظيمات والميليشيات العسكرية، لكن الأسد كان ناظم اللعبة ومدوزن إيقاعاتها، والقادر على استثمار مفاعيلها وضبط أوار نارها، والتعامل مع مختلف افرقائها.
واليوم مع رحيل نظام الأسدين، ومفاعيل إنسحاب الميليشيات الايرانية من سورية، وافول نجم الميليشيات الرديفة لجيوش الدول، تصبح استعادة دولة لبنان وطنا حقيقيا وليس ساحة او متراسا او منصة لاطلاق الصواريخ، او صندوق بريد لتبادل الرسائل الملتهبة، بل وطن يحلو العيش فيه لنا ولاولادنا واحفادنا، تصبح استعادة الدولة والوطن مسؤولية لبنانية بحتة يتحملها منفردا شعب لبنان وقواه الحية، ويصبح استنكاف اي طرف سياسي عن هذه المهمة فعل خيانة وطنية.
مع سقوط نظام الأسدين وانحسار نفوذ ايران واذرعتها، ثمة امل بنهاية ممكنة لمرحلة.