فرحة بسقوط الأسد وحسرة على الصعود الإسلاموي أحمد عدنان/موقع لبنان الكبير/11 كانون الأول/2024
في مقابلة أجراها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لصحيفة “واشنطن بوست” عام 2018 قال: “لا توجد خيارات جيدة في اليمن، فالخيارات هناك بين سيء وأسوأ”. وما قاله الأمير آنذاك عن اليمن ينطبق اليوم على سوريا تماماً.
عمت فرحة جارفة في سوريا وفي لبنان بسبب سقوط الرئيس السوري (المخلوع أو المطرود أو الملعون) بشار الأسد ونظامه، وقد فسر بعض العرب هذا الفرح بأن سببه صعود تنظيم “القاعدة” (أو “هيئة تحرير الشام”)، وهذه نظرة قاصرة، لأنها تصور بشار الأسد كخصم نقيض للإسلام السياسي، وهذا غير صحيح.
يجب أن يتذكر بعض العرب أن حلفاء بشار الأسد الأساسيين هم: الجمهورية الإسلامية الإيرانية، “حزب الله” أو المقاومة الإسلامية في لبنان، و”حماس” أو حركة المقاومة الإسلامية. ويا للمفاجأة.. فإن كل هؤلاء الحلفاء من صميم الإسلام السياسي.
ولتذكير الغافلين، تجدر الإشارة الى أنه بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في لبنان 2005، انقسم الشرق الأوسط حول لبنان بين محورين، المحور الأول يضم دول الاعتدال العربي (السعودية، الإمارات، مصر والأردن)، بينما ضم المحور الثاني كلاً من إيران وقطر وتركيا وسوريا الأسد، وهو المحور الداعم لكل حركات الإسلام السياسي في العالم، وإن وقع الخلاف بينهم فيما بعد.
وللأسد سوابقه في صناعة ميليشيات الإسلام السياسي، ومن ذلك صناعة تنظيم “فتح الإسلام” الإرهابي في لبنان الذي سحقته الحكومة اللبنانية برئاسة الرئيس فؤاد السنيورة في عام 2007. وكنت سألت الرئيس السنيورة في مقابلة تلفزيونية 2017 عن ظروف محاربة “فتح الإسلام”، فأجاب: “إن نظام الأسد يخترع لك مشكلة، ثم يعرض عليك المساعدة في معالجتها أو القضاء عليها، فإذا سمحت له بذلك، أبدها (جعلها مشكلة مزمنة)”.
وإن كان الرئيس السنيورة خصماً معروفاً للأسد ونظامه، فقد وافقه في ذلك حليف الأسد اليوم رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي لكن حين كان على رأس السلطة، ففي 4 سبتمبر (أيلول) 2009 قال المالكي أمام رؤساء البعثات الديبلوماسية المعتمدين ببغداد: “إن الأجهزة الأمنية العراقية رصدت اجتماعاً في الزبداني في الثلاثين من يوليو (تموز) 2009 ضم بعثيين وتكفيريين بحضور رجال مخابرات سوريين لزعزعة الأمن في العراق”. وفي 5 سبتمبر 2009 اتهم المالكي سوريا في تصريح علني ورسمي بدعم منفذي الاعتداءات الاخيرة في بغداد والمحافظات، قائلاً: “لدينا معلومات تفيد بأن التدخل والتدريب واحتضان الإرهابيين ودخولهم لم يتوقف”. وأضاف: “إن العمليات الإرهابية التي حدثت أخيراً كان ثلاثة من المسؤولين عنها من حزب البعث، ويتلقون الدعم من حزب البعث في سوريا وقد اعترفوا بذلك”. ثم طالب الأمم المتحدة بتشكيل محكمة أو لجنة تحقيق دولية لمحاسبة منفذي التفجيرات التي أودت بحياة 340 شخصاً في بغداد ويقف وراءها “النظام السوري الداعم للإرهاب”.
إن سيئات نظام الأسد تجاوزت حدود بلاده، إذ كان المصدر الرئيس لتصنيع الكبتاغون وتهريبه إلى دول الخليج بداية من ثمانينيات القرن الماضي بالشراكة مع إيران وميليشياتها، وتاريخه في محاولة ابتلاع لبنان واغتيال قادته والتنكيل بشعبه معروف ومشهود ومرصود، ولهذا النظام – في عهد الأب بالذات – محاولات متوالية ومستميتة للسيطرة على القرار الفلسطيني المستقل في زمن ياسر عرفات عبر خلق الانشقاقات في منظمة التحرير والمزايدة على قيادتها، وخلال الحرب الأهلية اللبنانية غطى حافظ الأسد حصار الأحزاب المسيحية الدموي لمخيم تل الزعتر، ثم حرّض حليفه نبيه بري على الفلسطينيين في “حرب المخيمات”، وتشير القرائن إلى أن اغتيال القيادي الفلسطيني سعد صايل تم بقرار سوري، وفيما بعد تآمر بشار الأسد مع إيران على شق الصف الفلسطيني بدعم انقلاب “حماس” على السلطة الفلسطينية في غزة 2007. والحقيقة أن نظام الأسد نموذج فذ في المتاجرة بالقضية الفلسطينية لم تستفد منه سوى إسرائيل.
بالإضافة إلى كل ما سبق، لم يترك بشار الأسد جريمة إلا وارتكبها ضد شعبه، فمن تهجير أكثر من 7 ملايين سوري حول العالم – غير نازحي الداخل – ومنع عودتهم، إلى قصف بعضهم الآخر بالبراميل المتفجرة والأسلحة المحرمة، إضافة إلى تاريخ مرعب – أسسه والده الرئيس حافظ الأسد وأكمله بشار من بعده – في كل أصناف انتهاك حقوق الإنسان بلا رحمة وبلا حدود، ويشهد على ذلك ضحايا سجن صيدنايا.
في أي دولة محترمة، مثل السعودية والإمارات، إذا وقعت معركة بين الإرهاب والدولة، سيكون تعاطف المواطنين مع الدولة بلا تردد، ولقد حقق بشار الأسد إنجازاً تاريخياً في هذا الباب، حين واجه نظامه بعض ميليشيات الإرهاب، لم يتعاطف أغلب شعبه معه.
كان وصول حافظ الأسد إلى السلطة في 1970 من نتائج أو تداعيات هزيمة 1967 واحتلال الجولان التي أصبحت فرص استعادتها معدومة بعد أن ضيع الأسد (الأب والابن) وديعة رابين الشهيرة بلا مبرر، وأدت وراثة الأسد الصغير لوالده إلى ثورة 2011 ثم احتلال سوريا من الإيرانيين والروس والأميركيين والأتراك إضافة إلى الاحتلال الإسرائيلي، وحين تخلى عنه المحتلون بسبب الإنهاك أو بسبب تقاطع المصالح، سقط غير مأسوف عليه من احد.
إن نظاماً ارتكب كل ذلك يجب أن يسقط، بل إن مجرد وجوده وصمة عار في جبين الإنسانية، والحزن على رحيله – عن وعي وإدراك ومعرفة – لا يليق بالبشر. وبعيداً عن الأخلاقيات والمبادئ، فإن المصالح المرجوة من سقوط هذا النظام يصعب حصرها، ومنها ضرب مافيا الكبتاغون، والأهم إسقاط المحور الإيراني برمته الذي نرجو أن لا تقوم له قائمة.
في مقابل كل ما سبق، إن مثالب الأسد ونظامه، لا تعني تشريع جماعات إرهابية ك “القاعدة” والإخوان و”داعش” وتبرئتها من جرائمها وفظائعها، وتصويرها كحركات تحرر لا يمكن وصفه بغير الحماقة، كما أن التفاؤل بسيطرتها على سوريا هو السذاجة بعينها، لكن الدرس الذي يجب أن نعيه جميعاً هو أن حكم تحالف الأقليات والاستسلام لقبضة المشروع الإيراني البغيض نهايتهما الحتمية تتلخص في سيادة الإسلام السياسي، والحكومة الانتقالية الجديدة برئاسة محمد البشير لا تليق بتضحيات السوريين وبتطلعاتهم ولا تمثلهم جميعاً ولا يحق لها تقرير حاضرهم ومستقبلهم، وبعض أسمائها إضافة إلى بعض الفصائل وقادتها لا يستحق سوى المحاكمة.
إن رحيل الأسد وسقوط نظامه بداية مخاض يجب أن يكون العالم العربي في قلبه لإزالة مخلفات المشروع الإيراني وأعراضه الجانبية، وهذه دعوة لأن يلتف كل العرب حول السوريين من أجل استعادة دولتهم وتمكينهم من مستقبلهم بعيداً عن حكم طائفي لم يعترف يوماً بالإنسان وبالمواطنة، وبعيداً عن حكم ديني فيه الهلاك في الدنيا والآخرة، فمن دون عودة العرب إلى سوريا سيستمر الاقتتال الأهلي تحت عناوين جديدة، وستعود سوريا من جديد مرتعاً للطامعين والمتآمرين وخنجراً في ظهر العروبة بدلاً من أن تكون لكل السوريين والعرب.
إن ما جرى في سوريا نتيجة معقدة لمشهد معقد واقتتال أهلي وغير أهلي استمر 13 سنة، وستكشف الأيام القادمة فظائع مهولة لنتائج وتراكمات تلك السنين من عدد القتلى والمفقودين وذوي الاحتياجات الخاصة وغيرهم، إضافة إلى محاولات العبث الديموغرافي والطائفي الذي اقترفه النظام البائد مع أسياده الإيرانيين.
لقد حكم الأسد (أباً وابناً) سوريا بعقل طائفي مريض ألبسه قناع دولة، وإن التمسك بمنطق الدولة ومفهومها وقيمها ينبذ التباكي على الأسد أو محاولة إحيائه، كما ينبذ التبشير بحكم “القاعدة” والإخوان ومن لف لفهم، لكنها فرحة وحسرة، ونرجو أن تدوم فرحة السوريين وأن تكون حسرتنا وحسرتهم موقتة.