نبيه بري… الأستاذ والرئيس والأمين العام
في لبنان المقسم طائفيا، يجب أن يكون رئيس الجمهورية مارونياً، ورئيس الحكومة سنياً، والبرلمان نبيه بري
بادية فحص/المجلة/21 تشرين الأول/2024
بري حاليا لا يتعدى كونه واجهة لحرب مشاغلة دبلوماسية، أما قرار الطائفة ففي طهران أكثر من أي وقت مضى.
يشغل نبيه بري منصب رئيس مجلس النواب اللبناني منذ 1992، ورئيس حركة “أمل” الفصيل الشيعي الذي أسسه السيد موسى الصدر بداية السبعينات منذ 1980. منذ توليه منصب رئاسة الحركة، صار المنصب مرتبطا باسمه. لم يبرز مرشح حقيقي ينافسه، برغم الخلافات الكثيرة، والانشقاقات التي حدثت داخل صفوف التنظيم، وكان يُعاد انتخابه في المؤتمر العام للحركة دون خوض معركة انتخابية، وبعد توقف المؤتمر عن الانعقاد صارت إعادة انتخابه تتم في بيان مقتضب. يحمل بري صفات وألقابا متنوعة، بتنوع الجو السياسي أو التنظيمي الذي تمر به الحركة أو بحسب مزاج جمهورها، فهو الأستاذ حين يكون الحديث عنه بصفته رئيس الحركة، وهو دولة الرئيس؛ أو دولته اختصارا، إذا كان الكلام له علاقة بمنصبه السياسي في البرلمان اللبناني، وهو النبيه حين يمتدحون “حنكته” السياسية، و”القائد” حين يقود سفينة الطائفة إلى بر الأمان.
ولد نبيه بري في “سيراليون” الأفريقية، ودرس الحقوق في الجامعة اللبنانية، واستقر بعد زواجه بابنة عمه في ولاية ميتشيغان الأميركية، شأنه شأن أهل قريته تبنين وجارتها بنت جبيل اللتين أُفرغتا بعد نكبة فلسطين، تنفيذا لمخطط استراتيجي قضى بتخفيف الثقل الديموغرافي على حدود المستعمرات الشمالية، فأوقع عائلات بأكملها في فخ الهجرة المسهلة باكرا، وكانت عائلة بري واحدة منها.
نبيه بري ووليد جنبلاط وياسر عرفات في بيروت عام 1982
والأستاذ هو لقب المحامي في لبنان، والمفردة هي ترجمة حرفية لكلمة “maitre” الفرنسية، لكن جمهور بري لا يعترف إلا بـ”أستاذ” واحد في لبنان، والمحامي قد يكون محامي الشيطان أحيانا، بحسب المفهوم الأميركي لمقدرته على “قلب الحقائق والمعادلات”، وقدرة بري على ذلك لا نظير لها، هي نتاج خبرته كسياسي ومحامٍ وقائد ميليشيا. “قلب المعادلات” يسمونه في لبنان “تدوير الزوايا”، وبري ضليع في ذلك، وفي إعادة تدوير شخصيات عفى عليها الزمن السياسي، إذا أراد أو إذا طُلب منه ذلك، أي معضلة عصية أعطها لبري، وسيُخرج لك منها حلا ولو كان صوتيا فقط، كما يُخرج الساحر الأرانب من القبعة. كان عمر الحرب الأهلية 7 سنوات تقريبا، حين استقر بري في لبنان نهائيا، عازما على قيادة الحركة، التي كانت منغمسة في الحرب كأحد مكونات “الحركة الوطنية”، أكمل بري الحرب مع الجهة التي اصطفت فيها الحركة، بعد الحرب تحول من أمير حرب؛ وهي العبارة التي يطلقها اللبنانيون على رؤساء الأحزاب التي شاركت في الاقتتال الأهلي، إلى ملك التسويات وعرابها، لم يحضر “الطائف”، لكنه قطف أو خطف جهود رئيس مجلس النواب ورئيس الحركة السابق حسين الحسيني، وصار جندي “الطائف” وحامي حدوده.
الوفاء للرفاق القدامى من شيمه، حتى لو سال بينه وبينهم الدم، معركة “العلمين” في بيروت بين الحركة و”الحزب الاشتراكي”، لم تحل دون أن يستمر “الاتفاق المعمد بالدم” بينه وبين الزعيم الدرزي وليد جنبلاط. “الفتنة” التي أصابت العلاقة بين السنة والشيعة، لم تمنعه من أن يحمي بهية الحريري وقت قرر “حزب الله” إسقاطها في إحدى الدورات الانتخابية. وهو يتمسك بسليمان فرنجية رئيسا للجمهورية، برغم قربه من النظام السوري الذي لا يكن له الود.
أ.ف.ب
نبيه بري مع حسن نصرالله في البرلمان عام 2006وهو منخرط حتى قمة رأسه في “الثنائي الشيعي” مع حليفه “حزب الله”، برغم غياب عنصر الكيمياء بين الطرفين على المستوى القيادي والشعبي، وبرغم مآسي “حرب الإخوة” التي ما زالت حية في ذاكرتيهما. كما أنه حافظ على صداقته مع السلطة الفلسطينية وقادة “منظمة التحرير” بعد خوضه نيابة عن النظام السوري ما عُرف بـ”حرب المخيمات”. بعد الحرب انصرف بري إلى العمل السياسي، ونسج علاقات ودية في الداخل والخارج، ووقف على الحياد من كل ما تورط فيه “الحزب” من حروب ومعارك عسكرية، وصار “عميلا سريا” للنظام العربي، كما يصفه جمهور “الحزب”. هو لم يذهب إلى التحالف مع “الحزب” مغلوبا، بل كان ذلك خطوة ذكية منه ضمنت بقاءه في رئاسة مجلس النواب، عبر حصار الحزب وابتزازه بوحدة الصف الشيعي، وبالجمهور الجاهز دوما “للفتنة” إذا مس أحدهم المنصب المطوب باسم زعيمه.
علاقته مع جمهوره
في لبنان المقسم طائفيا، يجب أن يكون رئيس الجمهورية مارونياً، ورئيس الحكومة سنياً، ورئيس البرلمان نبيه بري، فلا يليق هذا المنصب بأحد غيره، كما يقول جمهوره. نسج بري بعد توليه رئاسة الحركة، علاقة عاطفية مع جمهوره، علاقة مباشرة بلا حواجز ولا وسائط، كان فيها الطرف الأكثر تفاعلا، حتى إن شقته المتواضعة في “حي بربور” في بيروت لم تكن سكنا له بقدر ما كانت مكتبا للحركة، بابها لا يُغلق أمام الزوار، والزوار ليسوا رسميين فقط، بل غالبيتهم من عامة الناس وفقراء الطائفة والحركيين العاديين، فنجح في بناء صورة القائد “الملهم”، وعزز ذلك شخصيته الكاريزمية و”حنكته” السياسية وثقافته ولغته الميالة إلى الشعر. جزء من شخصية بري ساهم جمهوره في صناعتها، نجد بري “الشعبي” في الأناشيد الحركية الشهيرة، في “يا قائد الله معك”، وفي “بري قرر”، وغيرهما، وهي تعكس تصورات الجمهور عنه، وليس صورته الحقيقية، ضجيج وفوضى وعشوائية في الكلام والموسيقى والألحان والحب غير المشروط.
يحمل بري صفات وألقابا متنوعة، بتنوع الجو السياسي أو التنظيمي الذي تمر به الحركة أو بحسب مزاج جمهورها
يفتخر جمهوره بأن مارسيل خليفة غنى من كلماته أغنية “يا طير الجنوب” القصيدة التي كتبها بري في رثاء بلال فحص، قائد العملية الانتحارية ضد جنود الاحتلال الإسرائيلي في منتصف الثمانينات، ويستخفون بالمقابل، بأغنية “أحبائي” التي قدمتها جوليا بطرس، بعدما جمعها الشاعر غسان مطر من كلمات للأمين العام الراحل أيام حرب 2006، فبنظرهم يملك خليفة قيمة فنية وثقافية أكثر أهمية من بطرس.
لكن هذه الصورة “الأيقونية” لم تصمد طويلا. كان صعود “حزب الله” وشخصية أمينه العام الراحل حسن نصرالله، أحد الأسباب المباشرة لاختفائها، من دون إغفال أسباب أخرى تتعلق بما آلت إليه شخصية بري نفسه وبعائلته أيضا.
نبيه بري مع وزير الخارجية الإيراني السابق حسين أميرعبد اللهيان في بيروت، في مايو 2024
ذلك أن جنة السلطة كما يقول بعض أنصاره أغوته، وأبعدته عن قواعده الشعبية، فبدأ انسحابه من أمام جمهوره، وصارت زياراته للجنوب تقتصر على يوم الانتخابات النيابية، أي مرة كل أربع سنوات، أما التواصل مع جمهوره فلا يحصل إلا مرة واحدة في السنة، في الاحتفال المركزي الوحيد الذي تقيمه الحركة يوم 31 أغسطس/آب في ذكرى اختفاء السيد موسى الصدر. صار (بيروتياً) لا يفارق قصر “عين التينة”، بينما تحولت “دارة مصليح” في الجنوب التي كانت ملتقى جمهوره إلى قلعة مهجورة.
يؤخذ على بري تخليه عن جمهوره، ربما بسبب فوضويته وعدم قدرته على الانضباط، وربما لأن الاندفاع العاطفي أتعبه؛ قد يمل الحبيب من عواطف المحب المجانية، ربما لأن “الثروة” تأكل “الثورة”. هذا التخلي شجع جمهور “حزب الله” على التهكم والسخرية والتنمر على جمهور “الحركة”، فأشاعوا أنهم “زعران” ولا يتقنون فعل أي شيء، لا في المقاومة، ولا في حماية العقيدة، ولا في إدارة المؤسسات، ولا في الإعلام، ولا في الفن المقاوم، ولا في تنظيم الاحتفالات ومجالس العزاء، حتى إنهم نالوا من الطاقم السياسي للحركة فقذفوا كل تهم الفساد عليه.
“ثورة 17 تشرين” اتهمته بالفساد هو وجماعته وزوجته رندة عاصي، لكن “الحزب” برأه من هذه التهم وحماه، وسماه الأمين العام “الأخ الأكبر”. قبل اغتيال الرئيس رفيق الحريري، حاول “الحزب” بدفع من النظام السوري إزاحة بري وتعويم النائب جميل السيد، جاء الاغتيال ليرمي السيد في الحبس أربع سنوات ويثبت بري في مكانه. بعد انقشاع هذه الغيمة، عاد “الحزب” والنظام السوري إلى حلبة المصارعة ثانية، فظهرت أسماء مثل اللواء عباس إبراهيم بقوة، عوامل كثيرة أحبطت هذا المخطط، منها “الثورة السورية”، ثم بدء الانهيار الاقتصادي في لبنان. قبل حرب “المشاغلة”، كان الحديث أن بري في الانتخابات المقبلة لن يكون رئيسا لمجلس النواب، فهو كبير بالسن، ومرهق، ومريض. عاش الحركيون أزمة نفسية مريرة حينها، وبدا واضحا أن الحركة ستصبح ثلاث حركات، وقيل إن بري زار نصرالله وأوصاه بابنه (باسل) خليفة له، أتباع ابنه من زواجه الأول
(عبد الله) كانوا ينتظرون أيضا على الضفة الأخرى، بينما تمسك “الرعيل الأول” بموقفهم من الاثنين، كان على نصرالله أن يضبط الإيقاع، لئلا ينقسم الصف الشيعي، فبدأت خطة استيعاب عدد من كوادر الحركة وبعض جمهورها. فجأة غاب نصرالله عن المشهد وبقي بري، وانتقلت الخطة “ب” من “حارة حريك” إلى “عين التينة”، فأضاف جمهوره إلى ألقابه الكثيرة، لقب الأمين العام.
يطلق جمهوره على هذه المحطات “لعنة بري”.
نبيه بري يترأس جلسة للبرلمان عام 2023