إنّها مسؤوليّة السلطات والدستور المركّب في الطائف. الكاتب والمخرج يوسف ي. الخوري/23 أيلول/2024
أظهرت الأشهر الأخيرة أنّنا لم نتعلّم من التجربة الفلسطينيّة على أرضنا، ولم نتعظ كم هي مكلفة الحروب مع إسرائيل.
نسمع الكثير من الكلام عن ضرورة الفصل بين السلطات التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة كمدخل لا مفرّ منه لإنقاذ لبنان ممّا يتخبّط فيه منذ اتّفاق الطائف 1989، غير أنّ الدستور اللبناني يمنع هذا الفصل إذ لم يجزم به بوضوح، لا بل في الفقرة (هـ.) نفسها من مقدّمته يقول المشرّع “بالفصل بين السلطات”، ثمّ يُردف قائلًا “وتعاونها”، كقاضٍ يُصدر حكمًا بمنع رجل من الاقتراب من مطلّقته، ثمّ يُلزم الأخيرة بأن تقبل بمضاجعته لها مرّة في الأسبوع.
لو كانت السطات مفصولة فعلًا عن بعضها البعض، لَمَا تمكّن “حزب الله”، وسفير إيران المتربّع في بئر حسن، من الإمساك بمفاصل لبنان ومن تدجين قواه الفاعلة والحيويّة. فلنأخذ مثالًا الحرب الدائرة على أرضنا اليوم ونحن لا دخل لنا فيها؛
فَـلَوْ كان القضاء مستقّلًا ولا يخضع لترهيب الاحتلال الداخلي، لَمَا تلكّأ لحظة واحدة في إصدار مذكّرة جلب بحقّ المدعو حسن نصرالله، وفي فتح محاكمته بتهمة المسّ بسلم اللبنانيين وأمنهم، وهو إجراء من شأنه أن يردع فورًا العدو، أيًّا تكن هويّته، ويلزمه بوقف اعتداءاته، إذ متى يمنع القضاء اللبناني تدخّل أيّ طرف من جهتنا بشؤون اقليميّة لا دخل لنا فيها، ستنتفي الحجّة التي تُسوّغ لأي جهّة خارجيّة الاعتداء على أهلنا وأرضنا.
ولَوْ كانت السلطة التنفيذيّة في لبنان تحترم نفسها وتلتزم بأقوالها لناحية سيادة لبنان والتزامه بالقوانين الدوليّة، لكانت، أقلّه، قبل تقدّمها بالشكوى الأخيرة أمام مجلس الأمن ضدّ إسرائيل، وجّهت رسالة إلى إيران تحذّرها فيها من تبعيات تدخّلها في الشأن اللبناني، أو حتّى تطرد الديبلوماسيين الإيرانيين من لبنان لتعرّضهم لسيادة وطننا على ما تُثبته واقعة حيازة السفير الإيراني لجهاز Pager لإدارة عمليّات جهاديّة حتّى الانتحار من داخل لبنان. خطوة من هذا النوع هي التي تعزّز مصداقيّة لبنان أمام مجلس الأمن، وليس التناقضات التي شابت خطاب ذاك المُفترض وزير خارجيتنا الذي من جهة راح يوهم العالم بأنّ عمليّة الـ Pager هي ضدّ مواطنين لبنانيين وليست ضدّ أفراد من حزب الله، وبأنّ لبنان “لا يُريد الحرب ويُطالب بالعدالة والحلول الديبلوماسيّة”، ومن جهة أخرى راح يهاجم مجلس الأمن ويُشكّك بدوره، ويهدّد إسرائيل بأنّها ستتسبب بتهجير المزيد من سكّان مستوطناتها الشماليّة!!! كمثل القاضي الذي أصدر حكمًا بمنع رجل من الاقتراب من مطلّقته، وفي الوقت نفسه يسمح له بمضاجعتها.
ولو كانت السلطة التنفيذية سياديّة في قراراتها، لكانت أصدرت الأوامر إلى الجيش اللبناني بضبط جبهة الجنوب ووقف الهجومات ضدّ إسرائيل من أرضنا بأيّ ثمن، فتقطع بذلك شهيّة “الطمع” بلبنان لدى الإسرائيلي، وتُوْقفه عند حدّه. إنّ انقضاض إسرائيل على حزب الله لا يجرّ إلى حرب إقليميّة كما يدّعي المحلّلون والخبراء العسكريون، بينما مواجهة صغيرة مع الجيش اللبناني، على قلّة قدراته أمام جيش الدفاع الإسرائيلي، سيستنفر كلّ العالم ومجلس الأمن، وسيتّحد اللبنانيون خلف جيشهم وستبول ترسانة إسرائيل في المجارير.
اتركوا الأمر للجيش، وليتكفّل بكلّ سلاح وهمي غير شرعي، عندها فقط تلقون تضامن العالم مع لبنان، وليس عندما يتّجه وزير خارجيّة لبنان إلى مجلس الأمن للدفاع عن مصالح إيران ولتغطية تدخّلها في سيادة لبنان.
أمّا السلطة التشريعيّة، فنحن نتفهّم عجزها؛ هي مكبّلة بالقانون الانتخابي النسبي كما السلطات مكبّلة بالدستور، لكن هناك قانونًا تشريعيًّا عاجلًا عليها إقراره فورًا، ألا وهو تشريع طائفة لبنانيّة جديدة هي طائفة “الموساد”، إذ أصبح عدد “الموساديين” في لبنان أكثر من عدد أي طائفة أخرى، ومنحهم الهوية اللبنانيّة حقّ لا مفرّ منه وقد يأتينا ببعض الخير إذا شعر هؤلاء أنّهم ينتمون إلى لبنان وصاروا يشتغلون لمصلحته وليس لمصلحة إسرائيل.
وأخيرًا،
على الشعوب اللبنانيّة التي هي مصدر كلّ السلطات، أن تتحضّر للمرحلة المقبلة جيدًا، فهي ستكون قاتمة سوداء ومهدّدة للسلم الأهليّ، ليس جراء الاعتداءات الإسرائيليّة، بل جرّاء الحملة الإعلاميّة التي أمر حزب الله أبواقه وعملاءه ببدئها لتضليل الشعب اللبناني وحرف أنظاره عن هزيمته واستسلامه لإسرائيل بعد الضربات الأخيرة التي تعرّض لها، وعرّض معه كلّ الشعب اللبناني للمذلّة بسببها. كانوا يدّعون في الأشهر الأخيرة أن نتنياهو عاجز ولا يحميه من دخول السجن سوى استمرار الحرب، وها هم اليوم أوهن من نتنياهو ولم يعد يحافظ على بقائهم، وعلى مستودعات أسلحتهم المدمَّرة، سوى توجيه معركتهم إلى الداخل ضدّنا، مستغلين سيطرتهم على المنظومة الحاكمة، وعلى وسائل الإعلام، إن بترهيبها وإن بحيائها مراعاةً لدقّة الوضع.
إنّها الحقيقة المرّة؛ إسرائيل تحارب حزب الله بترسانتها الجبارة، حزب الله يحاربنا بأبواقه الذين لم يبلغوا بعد درجة الغباء، والدولة بسلطاتها الثلاث غائبة يكبّلها دستور مركّب وخيانة موروثة من زمن البعث الأمني في لبنان.
اتّقِ يا شعبي شرّ هؤلاء الأبواق المتآمرين على الحقيقة، قاطعهم، لا تستمع إليهم، لا تنشر أقوالهم الحاقدة الجاهلة، ونتمنى على وسائل الإعلام القيام بواجبها قدر المباح لها بهذا الخصوص.