ما هو عيد خميس الجسد، وما هو تاريخه في الكنيسة الكاثوليكية

119

خميس الجسد هو الخميس التاني بعد العنصرة
الأب كميل مبارك/فايسبوك/30 أيار/2024
في سنة 1263 في عهد البابا أوربانوس الرابع والملك ميخائيل الباليالوغوس، حدثت أعجوبة عظيمة في القربان المقدّس في قرية بولسينا من أعمال فتيربو وهي أن الكاهن بينما كان يكمل خدمة القداس أمام الشعب في كنيسة القديسة كريستينا، شك بعد التقديس الجوهري في صحة وجود جسد المسيح. فلما قسم القربان المقدس إلى جزءَين جرى منه دمٌ حيٌّ وصبغا غطة المذبح كلها فلأجل هذه العجيبة السامية رسم البابا المذكور بأن يعيّد في كل سنة عيدٌ لإكرام القربان المقدس، ودُعي بعيد جسد الرب وذلك في يوم الخميس الثاني بعد العنصرة. ولكي يكون هذا العيد مفيدًا لتثبيت الإيمان المستقيم ودحضًا لاعتراضات الأراتقة، أمربأن جميع المسيحيين يطوفون بالقربان المقدس في كل المدن والقرى بكل ما يقدرون عليه من الإجلال والتكريم. وكتب بذلك إلى جميع رؤساء الكنيسة فأوجبوا رسمهُ. ومن ذلك الزمان إلى يومنا هذا صار هذا العيد من أفضل وأبهج الأعياد السنوية. اما في لبنان فقد حصلت المعجزة في مدينة زحلة حين نجاها القربان من وباء الطاعون منذ مئتي سنة تقريبًا، ومن يومها تحتفل زحلة بهذا العيد عبادة واكراما لجسد سيدنا يسوع المسيح.

ما هو عيد “الجسد الإلهيّ”
مطرانية الروم الملكيين الكاثوليك – الجليل
بقلم الاخ توفيق ناصر (خريستوفيلوس)
أولاً – مُقدّمة تعريفيّة بالعيد:
في يوم الخميس الثاني بعد “العنصرة” (أي التالي “لأحد جميع القديسين”)، تُقيم الكنيسة الروميّة الملكيّة الكاثوليكيّة تذكاراً تكريميّاً خاصّاً بجسد ودم ربنا يسوع المسيح المبذولَين لأجل خلاص العالم، والمُعطيَين لنا مأكلاً حقاً ومشرباً حقاً “لغفران الخطايا وللحياة الأبديّة”، خاتمةً بذلك زمن “البندكستاري” بشكل فعليّ. ويُسمّى هذا التذكار بعيد “الجسد الإلهيّ”.
للتذكير بأنه تقليديّاً في الطقس البيزنطيّ، ينتهي زمن “البندكستاري” رسميّاً بحلول “أحد جميع القديسين”، الواقع في الأحد الأول بعد “العنصرة”. لكن الكنيسة الروميّة الملكيّة الكاثوليكيّة أضافت إلى هذا الزمن زُهاء أسبوعَين، بإدخالها عيد “الجسد الإلهيّ” في روزنامتها الطقسيّة. وبذلك، يكون إفتتاح “البندكستاري” بعيد “القيامة”، قيامة الربّ بجسده المُمجّد، ويكون ختامه بعيد “الجسد الإلهيّ”، هذا الجسد نفسه الذي تمجّد بالقيامة.
كما تجدر الإشارة إلى أمر مُهمّ يتعلّق بمغزى تاريخ العيد. فقد حُدِّد هذا الأخير في يوم الخميس من الأسبوع الثاني بعد “العنصرة”، أي في يوم خميس مُقابل أو مُوازٍ ليوم “الخميس العظيم المُقدّس” (المعروف أيضاً ب”خميس الأسرار”). ففي الخميس الأول، نُحيي تذكار تأسيس السرّ، بينما في الخميس الثاني، نُكرّم علامة الحضور الإلهيّ الحقيقيّ ولكن السرّيّ (الفائق الإدراك) بيننا، تحت أعراض الخبز والخمر.
ثانياً – نبذة تاريخيّة عن العيد:
إن هذا العيد العظيم حديث العهد نسبيّاً، وتعود أصوله الأولى إلى الكنيسة الغربيّة (اللاتينيّة). وإنطلقت الدعوة الأولى لإدخال هذا العيد الجديد في حلقة الأعياد الكنسيّة، على لسان راهبة بلجيكيّة قديسة تُدعى يولياني. ففي سنة 1208، ظهر لها في الرؤيا كوكب مُستدير ساطع كالبدر في كل أجزائه، ما خلا جزءاً صغيراً بقي قاتماً. وأوحيَ إليها أن الكوكب المُستدير يُشير إلى حلقة الأعياد السنويّة، وأن الجزء القاتم يُمثل نقصاً فيها لا بدّ من تداركه، وهذا النقص هو كون القربان الأقدس يُحتفل بذكرى رسمه يوم “الخميس العظيم المُقدّس” مع باقي التذكارات العديدة التي يزخر بها ذاك اليوم، ولا يُحتفل بتكريمه في عيد مُخصّص له…
بعدها بسنوات، وتحديداً في العام 1263، حصلت أعجوبة “قربانيّة” على عهد البابا أوربانوس الرابع، في قرية بولسينا (إيطاليا)… ففيما كان الكاهن يُكمِل خدمة القداس أمام الشعب في كنيسة “القديسة خريستينا”، ساورته الشكوك بعد تلاوته “كلام التقديس” (الكلام الجوهريّ) في حقيقة جسد الربّ تحت شكلَي الخبز والخمر. وحين قسم القربان الأقدس إلى جزئَين، جرى منه دم حيّ وصبغ أقمشة المذبح كلّها… فلأجل هذه الأعجوبة العظيمة، أمر البابا أوربانوس الرابع سنة 1264 بإقامة عيد سنويّ تكريميّ للقربان الأقدس، سُمّيَ بعيد “جسد الربّ” وثُبِّتَ في يوم الخميس الثاني بعد “العنصرة”… وما لبثت الكنائس الكاثوليكيّة الشرقيّة أن أدخلته تباعاً في روزنامتها الطقسيّة، بحكم علاقة الشراكة مع كرسيّ روما.
أما في الكنيسة الروميّة الملكيّة الكاثوليكيّة، فقد إعتُمِد العيد وأُدخِل في سلسلة الأعياد السيّديّة الكُبرى، وعمّت إقامته في مطلع القرن الثامن عشر. وقد إهتمّ البطريرك مكسيموس الثاني (حكيم) والخوري نيقولاوس الصائغ الحلبيّ (الرئيس العام على الرهبانيّة الباسيليّة الحنّاوية)، بوضع نصوص الفرض الإلهيّ للعيد (صلاة الغروب وصلاة السَحَر…)، ونظمها على نسق باقي الأعياد السيّديّة، بالإضافة إلى فترة “تقدمة” (تهيئة) للعيد قبل ثلاثة أيام منه، ويوم “وداع” للعيد بعد سبعة أيام منه… فجاءت خدمة هذا العيد مثالاً رائعاً لإمكان إدخال أعياد جديدة في الطقس البيزنطيّ، مع الحفاظ على قواعد الطقس وروحه.
نُشير هنا إلى التطوافات الشعبيّة التي تُقام بمُناسبة العيد في مُختلف الأبرشيّات والرعايا، ولا سيّما في مدينة زحلة (لبنان)، حيث للعيد طابع خاص وجامع لأبناء المدينة والمنطقة عموماً، تذكاراً للأعجوبة التي حصلت عام 1825، وكانت نتيجتها القضاء على وباء الطاعون الذي فتك بأبناء المدينة، وذلك بعد التطواف بالجسد الإلهيّ في حينه.
ثالثاً – الأساس “الكتابيّ – اللاهوتيّ” للعيد:
يتميّز عيد “الجسد الإلهيّ” عن سائر الأعياد السيّديّة من الدرجة الأولى (وحتى الثانية)، في أنه ليس تذكاراً لحدث مُعيّن في سياق حياة وكرازة السيّد، منصوص عنه في الأسفار المُقدّسة (كالميلاد والتجلّي والقيامة والصعود…)، لكنه بالأحرى ذكر وإستحضار لإحدى مفاعيل “الحدث المسيحانيّ” المُرتكز أساساً إلى سرّ التجسّد الإلهيّ. فلولا “التجسّد الإلهيّ” لما كان عيد “الجسد الإلهيّ”… بالتالي، فإن عيد “الجسد الإلهيّ” هو قبل كل شيء فعل عبادة وتكريم للإله المُتجسّد من خلال علامة حضوره “السرّيّ” بالذات.
في هذا الإطار، لا يُمكننا الكلام عن جسد ودم الربّ يسوع الأقدسَين، دون العودة إلى الحدث المؤسِّس، ألا وهو حدث “العشاء الفصحيّ الأخير” عشيّة إقباله على الآلام الطوعيّة لأجل خلاصنا، هذا “الفصح” الذي “إشتهى شهوةً أن يأكله مع تلاميذه قبل آلامه” (لو 22: 15)، وحقّق بشخصه رمزيّته القديمة… فإذ كان “الفصح” مع موسى قديماً، تذكاراً لعبور الشعب “العبرانيّ” من “عبوديّة أرض مصر” إلى “حريّة أرض كنعان”، أصبح “الفصح” مع المسيح، وبفعل سرّ الفداء الصائر بالموت والقيامة، عبوراً للإنسان من عبوديّة الخطيئة والموت الروحيّ (الخروج من الفردوس) إلى الحرّيّة والحياة الحقّة في الله (العودة إلى الفردوس)…
لقد إستبق السيّد في تلك الليلة الرهيبة، “ذبيحة الصليب” التي كان مُزمِعاً أن يُتمّمها، والتي فيها “يُرفَع إبن الإنسان على مثال الحيّة التي رفعها موسى قديماً” (يو 3: 14). فيُصبح بذلك “الحمل الفصحيّ” الحقيقيّ البريء من العيب، الذي “لا يُكسَر له عظم”، والذي يُقرَّب لأجل حياة العالم، “حمل الله الرافع خطيئة العالم” كما أعلن يوحنا المعمدان (يو 1: 29)… في تلك الليلة، أسّس السيّد ما يُمكن أن نُسمّيه “عربوناً حسِّياً” (أو “ذِكراً حسِّياً”) لهذا “العهد الجديد” الذي قطعه بين الله والبشر بدمه الخاص، من خلال تحويله الخبز الفصحيّ الفطير إلى جسده “الذي يُكسَر لأجلنا لمغفرة الخطايا”، والخمر في الكأس الفصحيّة إلى “دمه المُهرَق لأجلنا لمغفرة الخطايا”، طالباً إلينا أن “نصنع هذا لذكره حتى مجيئه”. فكان بذلك يؤسّس سرّاً من الأسرار المُحيية للكنيسة، ألا وهو سرّ القربان الأقدس (أو سرّ الشكر – الإفخارستيّا)، سرّ بذل الإله لذاته بالكامل، سرّ “الغذاء الملكوتيّ في وليمة عرس الحمَل”.
وقد وردت رواية تأسيس سرّ “الجسد والدم الإلهيّين” عند بولس أولاً (كون معظم رسائله كُتِبَ قبل كتابة الأناجيل)، وذلك في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس (1كور 11: 23-32)، حيث جاء كلامه في معرض تبكيته الكورنثيّين “على عدم تمييزهم لجسد الربّ ودمه”… كما نقرأ عن تأسيس السرّ نفسه في الأناجيل “الإزائيّة” (متى، مرقس، لوقا)، حيث نجد الرواية نفسها مع فروقات بسيطة في بعض التفاصيل (متى 26: 26-30)، (مر 14: 22-26)، (لو 22: 14-20).
إلا أن يوحنا الإنجيليّ يتميّز عن بولس وعن باقي الإنجيليّين بنقطتَين هامتَين: (1) هي أنه ذَكَر عشاء الربّ الأخير (الفصل 13)، وكان الوحيد في ذكر “غسل أرجل التلاميذ” مثلاً، غير أنه لم يأتِ أبداً على ذكر “كسر الخبز وأكله وشرب الكأس”، أي تأسيس سرّ الشكر. و(2) المُرتبطة حُكماً بالأولى (وربّما السبب لعدم كلامه عن ذلك في العشاء الأخير)، فهي إيراده لخطبة الربّ يسوع الشهيرة عن “خبز الحياة” في مجمع كفرناحوم، التي كانت “حجر عثرة” لكثير من تلاميذه ومن اليهود. وهذه الخطبة هي الكلام المحوريّ عند يوحنا (تعليم لاهوتيّ) في شأن جسد ودم الربّ، ونجدها في (يو 6: 25-59). وهي الأساس الكتابيّ الرئيسيّ لعيد “الجسد الإلهيّ”، ومنها نقرأ النصّ الإنجيليّ في ليترجيا هذا اليوم.
رابعاً – قراءة سريعة لإنجيل “خبز الحياة”:
لا بدّ من الإشارة بدايةً، (1) إلى أن الكاتب الإنجيليّ يُقدّم لنا من خلال “خطبة خبز الحياة” تعليماً لاهوتيّاً كاملاً، عن أهميّة ومفاعيل هذا السرّ الأساسيّ في حياة الكنيسة (جماعة وأفراداً)، كما كان يُكرَز به في الجماعات “اليوحنويّة”. و(2) إلى أن الإنجيل بحسب يوحنا يتميّز بكونه إنجيل “هويّة يسوع” بإمتياز. فيكاد لا يخلو فصل من فصوله، إلا ونرى يسوع يُعلن هويته من خلال خُطب وأقوال مثل “أنا هو الطريق والحقّ والحياة”، “أنا هو القيامة والحياة”، “أنا هو نور العالم”… المُلفت في كلامه هو إستخدامه لصيغة ال”انا هو”، المُستخدَمة في “العهد القديم” على “لسان” الله (أنا هو الذي هو) في تعريفه لنفسه بعد سؤال موسى. أما اليوم، فيُعلن جهاراً “أنا هو خبز الحياة” (يو 6: 25-59).
يأتي كلام السيّد عن “خبز الحياة”، بعد آية تكثير الخبزات الخمس والسمكتين (التي أجراها على مقربة من فصح اليهود) حيث أشبع أكثر من خمسة آلاف رجل، لينتقل بسامعيه إلى فكرة “القوت الباقي للحياة الأبديّة”. فهو لطالما ركّز على كون هدف مجيئه إلى العالم وكرازته، هو منح الحياة الأبديّة للمؤمنين به “أما أنا فقد أتيتُ لتكون لهم الحياة، ولتكون بوفرة” (يو 10: 10). هم لحِقوا به لأنهم ملأوا بطونهم خبزاً وسمكاً، طعاماً لحياة جسديّة، أرضيّة، ترابيّة، لا بدّ أن تنتهي مهما طالت أو قصرت… أما السيّد، فكان همّه الأساسيّ رفع الإنسان من “الجسديّات” إلى “الروحيّات”، ومن “الأرضيّات” إلى “السماويّات”، ومن “الزائلات” إلى “الأبديّات”. كان همّه إيقاظ شعلة الروح في قلوب البشر، لأن الروح هي العنصر الثمين والخالد في الإنسان (أما الجسد، فلا يُفيد شيئاً)… لذلك، كان “كلام الحياة الأبديّة” على شفتيه طوال الوقت، وهذا ما سيظهر جليّاً في جواب بطرس بعد “خطبة خبز الحياة” مباشرةً، حيث يقول “إلى من نذهب يا سيّد، وكلام الحياة الأبديّة عندكَ…” (يو 6: 68).
في حواره مع الجموع التي لحقت به، وبعد حثِّه إياهم لطلب قوت الحياة الأبديّة والإيمان بالذي أرسله الآب، طلب هؤلاء آية لكي يؤمنوا (مع العلم أنهم كانوا قد إختبروا للتوّ آية تكثير الخبز والسمك). وسيتكرّر طلب الآيات هذا في مناسبات عديدة على مدى كرازة الربّ، فمشكلة الإنسان أنه ينبهر دائماً بما هو خارق أو “فوق الطبيعة”، يطلب دائماً الأدلة الحسيّة المنظورة. ونرى في طلب الآيات صدى لتجربة “إبليس” ليسوع في البريّة، لكي يستعمل سلطانه بهدف الزعامة الأرضيّة والمكاسب الزائلة… فإنهم كانوا سيختطفونه بعد آية “الخبز والسمك” ليُقيموه ملكاً عليهم (يو 6: 15). ما أكثر الآيات التي عاينها مُعاصِرو يسوع، ومع ذلك لم يؤمنوا به (بدءاً من أقاربه في الناصرة). مع أن الهدف من الآيات هو كونها علامات على حلول ملكوت الله بين البشر، فهي تُشير إلى صانعها.
في إنجيل اليوم، نرى مُستمِعي يسوع يعتزّون بأن آباءهم في البريّة أكلوا المنّ النازل من السماء (آية)، كما لو أن موسى هو المُعطي. لكن الربّ يُذكّرهم أولاً بأنهم أكلوا المنّ الذي أعطاهم إياه الله، فالله هو المُعطي وليس موسى، وثانياً أن الآباء رغم أكلهم المنّ ماتوا فيما بعد (فهو طعام للجسد ككل طعام آخر). قديماً، أعطاهم الله طعاماً من أجل أن يحيَوا ويدخلوا “الأرض”. أما اليوم، فها هو يُعطيهم “الخبز الحقيقيّ النازل من السماء”، من أجل أن يحيَوا ويدخلوا “الحياة الأبديّة”.
حرّك هذا الكلام حشريّةً معيّنة عند الجموع، فطلبوا حينذاك “من هذا الخبز في كل حين”، وهذا الطلب يُذكّرنا بطلب المرأة السامريّة “للماء الحيّ” (يو 4: 15). حينها أعلن الربّ هويته السماويّة، إذ إنه هو شخصيّاً “خبز الحياة” النازل من السماء لكي لا يجوع كل من يأكل منه، بل تكون له الحياة الأبديّة. وهنا، نراه يقابل بين المنّ السماويّ القديم الذي أكله الآباء في البريّة، ومع ذلك ماتوا؛ والمنّ السماويّ الجديد الذي نحن مدعوّون لأكله في “بريّة حياتنا”، فيُعطينا الحياة الأبديّة. وحدّد أكثر فأكثر ماهيّة هذا “الخبز”، الذي ليس إلا جسده المبذول لأجل حياة العالم. تشكّك حينها سامعوه ولم يفهموا المعنى الحقيقيّ لكلامه عن جسده (وقد وقع الرومان في سوء الفهم هذا فيما بعد، فألصقوا بالمسيحيّين تهمة “أكل لحوم البشر”) ، تماماً كما لم يفهم سامعوه كلامه حين قال “بنقض هذا الهيكل وهو يُقيمه في ثلاثة أيام” (يو 2: 19-21). أما هو، فيختم كلامه بتشديده على ضرورة “أكل جسده وشرب دمه”، إذ لا حياة أبديّة من دونهما، ونرى في ذلك محوريّة القربان المُقدّس (الإفخارستيّا) في حياة الكنيسة والمؤمنين.
خامساً – الخُلاصة الروحيّة:
بالخلاصة، إن “عيد الجسد الإلهيّ” هو فعليّاً “عيد الحبّ الإلهيّ”، “لأنه هكذا أحبّ الله العالم حتى أنه بذل إبنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديّة” (يو 3: 16). كلام واضح جداً لا يحتمل التأويل… لقد تُرجِمَ هذا الحبّ الإلهيّ وهذا البذل، عبر ذبيحة دمويّة تمّت لمرّة واحدة، هي “ذبيحة الصليب” التي فيها “دخل رئيس الكهنة الحقيقيّ قدس الأقداس بدمه الخاص، وليس بدم تيوس وعجول” (راجع الرسالة إلى العبرانيّين). لكن “ذبيحة الصليب” لم تكن لتأخذ بُعداً خلاصيّاً لولا قيامة المصلوب في اليوم الثالث، كما سبق وأعلن مراراً. كذلك، فإن القيامة لا تأخذ معناها الخلاصيّ إلا بعنصرَين حيَويّين هامَين، يُكمِّلان التدبير والحضور الإلهيّين:
الأول، هو حلول الروح القدس، الذي كوّنَ الكنيسة كما كوّنَ جسد الإبن في حشا مريم، والذي هو “حضور الله بالروح” بين البشر، لأن الهدف هو “عبادة الله بالروح والحقّ”. وهذا الحضور يبث الحياة والحيويّة في الكنيسة، جاعلاً منها جماعةً “قياميّةً”.
والثاني، هو جسد ودم ربنا يسوع المسيح المُمجدَين، الخبز النازل من السماء (كما رأينا في إنجيل اليوم)، “الغذاء الملكوتيّ” لغفران الخطايا والحياة الأبديّة. إنهما الحضور الحقيقيّ “السرّيّ” ليسوع في كنيسته (التي هي جسده “السرّيّ” بالمعنى الواسع). إنهما “يسوع معنا” بشكل فائق الإدراك تحت أعراض الخبز والخمر، كما هو معنا بروحه القدوس. هذا هو إيمان الكنيسة، وكلام مؤسّسها واضح جداً في هذا المجال.
وبعد، بالقيامة أصبح جسد الربّ المُمجّد جزءاً لا يتجزّأ من كيانه الإلهيّ (تألّه الجسد البشريّ)، وهو إذ أعطانا جسده ودمه غذاءً للحياة الأبديّة، فإنه يكون قد منحنا ذاته بالكليّة. وقد طلب إلينا أن نصنع هذا لذكره حتى مجيئه، وهذا ما يتمّ في القداس الإلهيّ، حيث تتكرّر “ذبيحة الصليب” بشكل سرّيّ، ويُحوِّل الروح القدس الخبز والخمر إلى جسد ودم الحمَل، فيتناول المؤمنون “الجسد والدم الإلهيّين” تماماً كما فعل التلاميذ في “العشاء الأخير”.
ونختم بملاحظتَين هامتَين: الأولى، هي أن “كسر الخبز” كان منذ اليوم الأول العلامة الفارقة لحضور المسيح الحيّ القائم من بين الأموات (رواية تلميذَي عمّاوس)، كما كان منذ البدء محور إجتماع الكنيسة (الجماعة الأولى في أعمال الرسل). والثانية، هي أنه في القربان الأقدس، يكون الله قد أعطى ذاته بشكل كامل، لدرجة أنه يصحّ القول إن غاية التدبير الإلهيّ بكامله هو للوصول إلى هذا السرّ الرهيب، “سرّ الأسرار”.
سادساً – من أناشيد العيد:
“إن المسيح، إذ أحبّ خاصته وإلى الغاية أحبّهم، منحهم جسده ودمه مأكلاً ومشرباً. فنحن الآن نسجد لهما بوقار مُكرّمين، ونهتف إليه بورع قائلين: المجد لحضوركَ، أيها المسيح، المجد لحُنوِّكَ، المجد لتنازلكَ، يا مُحبّ البشر وحدكَ” (طروباريّة العيد).
“أيها المسيح، لا تأنف من تناولي الآن الخبز جسدكَ ودمكَ الإلهيّين. ولا يكن إشتراكي، أنا الشقيّ، في أسراركَ الطاهرة والرهيبة، أيها السيّد للدينونة. بل فليصِر لي ذلك للحياة الأبديّة الخالدة” (قنداق العيد).
“أعجَبُ العجائب كلّها، أن يُرى الإله بِجَسَدٍ. وأعجَبُ من ذلك كثيراً، أن يُشاهَد على الصليب مُعلّقاً. أما مجموع العجائب كافةً، فهو وجوده الفائق الإدراك تحت الأعراض السرّيّة. فحقاً أيها المسيح إلهنا، إنكَ صنعتَ بهذا السرّ العظيم ذكراً لعجائبكَ كلّها. فيا لكَ من ربٍّ رحيم رؤوف. أعطيتَ ذاتك غذاءً لأتقيائكَ، يذكرون به إلى الدهر ميثاقكَ. ويتذكّرون آلامكَ وموتكَ حتى يوم مجيئكَ المجيد. فهلمّ بنا أيها المؤمنون، نتناول قوتَنا وحياتنا، ونستقبل ملِكَنا ومنقذنا هاتفين: خلِّصْ يا ربّ المُكمِّلين بإيمان عيدكَ المجيد الموقّر” (ذوكصا مزامير الباكريّة في سَحَر العيد).