سقوط الدول وضياع الاستقلال الكولونيل شربل بركات/11 آذار/2024
كانت لازمة العصر في القرن الماضي، خاصة بعد حربين عالميتين، مطالبة الشعوب بالحرية والسيادة والاستقلال. ولكننا شعرنا شيئا فشيئا بأن هذه “المسلمات” هي لغة بالية من بقايا تعاليم “الاستعمار” وليست وليدة مطالب “المستضعفين”، لأن هؤلاء، على ما يبدو، يريدون تحررا من نوع آخر، قد يكون التحرر من عصر النور والنهضة المستندة للعلوم، والتي تسعى لتقدم الشعوب واكتفائها بسبب تحولها نحو العمل المنتج بدل شخذ النفوس والتقوقع خلف أوهام الماضي، والتي تجعل منها مشاريع تأخر وعودة إلى عصور الجهل والقلة، لا بل الانغماس بلذة القتال والتفرد بالقدرة على السطو للحصول على المبتغى، ومن ثم الاقتراب من الراحة الأبدية بالموت في ساحات الوغى ونيل سبل النشوة الدائمة المباحة والمشتهاة.
في لبنان، وربما بسبب التنور الذي رافق اللبنانيين منذ دخول المطابع إليه في نهاية القرن السادس عشر، أي بعد اختراع الطباعة من قبل الألماني غوتنبورغ بحوالي قرن من الزمن، كان الفكر والاطلاع على الحضارات ومتابعة التطور مواضيع رائجة تأثر بها الموارنة أولا، بسبب وجود المطبعة الأولى في دير مار قزحيا، والتي ساهمت بسرعة في توزيع الكتب المطبوعة ونشر الثقافة في القرى والدساكر، ولو بالحرف السرياني. ومن ثم، عندما انتقلت المطبعة بالحرف العربي من حلب إلى دير مار يوحنا في الخنشارة بداية القرن الثامن عشر، زاد عدد المتفاعلين مع الكتب والفكر وسهولة الحصول على الثقافة، وتنوعت مشاربهم. من هنا كان لبنان رائد الفكر والمحافظ لاحقا على اللغة وأصولها واستعمالها كوسيلة لنقل العلم والمعرفة، وبالتالي التطور. وكان لبنان والحرية صنوان، لأن الفكر الواسع والمطلع يسهم دوما في الدفع نحو المطالبة بممارسة أشمل للحرية، والتي تشدد على الاختلاف أو التميّز وبالتالي التفرد والسعي إلى كسر القيود.
ما زاد لبنان تنوعاً، كان انفتاح الامارة على الغرب، بالرغم من التزامها الواقع السياسي الذي فرض الولاء للسلطان في الاستانة. ومن ثم تأثر بالارساليات المسيحية، بشقيها الكاثوليكي والبروتستانتي، وبعدها نشوء المتصرفية، التي أعطته امتياز الاستقلال الداخلي، ولو تحت مظلة السلطة العثمانية، ما لم تعرفه أي من الولايات التابعة للسلطنة سوى مصر، مع سلالة محمد علي، التي نقلت الطابع الغربي في الادارة والتعليم وبالتالي التقدم الذي رافقها حتى سقوط الملكية.
بعد فشل تجربة الضباط العثمانيين في السلطة بخسارتهم الحرب، أعتقد البعض بأن الخسارة نجمت عن الابتعاد عن الدين وأصوله، وبالتالي عادت بعض الآفكار الاصولية إلى الظهور؛ في جنوب تركيا أولا لحث المدنيين على القتال ضد الحلفاء، ومن ثم في سوريا للتجييش ضد فرنسا، وأخيرا في مصر مع الاخوان المسلمين للانتقام من النظام الملكي الذي خرج منتصرا من الحرب. ولكن سرعان ما دخلت المنطقة في نوع من الاستقرار في ظل حكم الفرنسيين والبريطانيين، حيث حاول الشيوعيون، ومن ثم الفكر اليساري عامة، التغلغل فيها لاشغال الحلفاء عن محاولة التفكير بدعم أي ثورة مضادة في روسيا. لا بل قامت الحركات الدينية التي ارتدت ثوب النضال الوطني بأعمال شغب متتالية في سوريا والعراق وفلسطين لم تهدأ حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث أيد الحلفاء فكرة اعطاء الشعوب حرية تقرير المصير وتحرر الدول تباعا، لاعادة الجيوش المنتشرة والمنهوكة بسبب تلك الحروب الكبرى إلى بلادها. وكانت حروب العرب واسرائيل في 1948 وبعدها 1956 و1967 وصولا إلى 1973 حيث كانت مصر اللاعب الأساسي في كل هذه الحروب، لتصل إلى قناعة بأن السلم هو الحل الأفضل لكي تتفرغ الدول لمشاكل البناء والتطور واللحاق بالركب العالمي.
خلال هذه القرأة السريعة استنادا لتاريخ المنطقة، نجد بأن التطور الطبيعي يجب أن يصب في خانة السعي لسلم دائم يؤمن للكل فرص التقدم والتطور نحو مستقبل أفضل. ولكن حركات الانتقام والتي تسمي نفسها ثورات شعبية، لا تعرف مصلحة الشعوب في السعي نحو الرخاء والازدهار، بل تسعى لتقييدها بقيود بالية من التعصب والظلامية. ومن هنا كانت أحداث لبنان الدامية، التي دمرت الأخضر واليابس خلال خمس عشرة سنة، بابا لاتفاق يدخله إلى عصر جديد من التعاون بين كل أبنائه والتفاعل بين كافة المناطق ليسير مجددا على طريق التقدم ويحاول أن يلحق الركب العالمي.
ولكن الرايات السود سرعان ما استفاقت وانتشرت بين أهله، لتعيدهم إلى مربعات لا تدخلها الدولة تنمو فيها الأفكار السوداء، التي لا تشبه لبنان وأهله. هذه المربعات طورت الحقد واللجوء إلى السلاح واستسهال المتاجرة بالممنوعات وتخريب المؤسسات وفرض الخوات والانعزال عن المجتمع اللبناني ومثله. وشيئا فشيئا توسعت سلطاتها وتحولت إلى دولة داخل الدولة، وفرضت على بعض اللبنانيين قيما من نوع آخر لا تمت لهم بصلة، وأهدافا لم تكن مرة من ضمن أمانيهم. فصارت العروبة مثلا، والتي كانت قبل الأحداث وجه لبنان المشابه لجيرانه وأصبحت مع الاتفاق هويتهم الجديدة، العدوة بامتياز لدعاة ولاية الفقيه. ولم يعد الولاء للوطن ولا للدين حتى، بل للمذهب، فضاعت العلمانية التي تغنى بها اليسار وحارب من أجلها. وصارت المطالبة بالاستقلال جريمة، لأن الأوامر تأتي معلبة من طهران وعلى اللبنانيين التنفيذ مهما كلّف الأمر من دمار وقتلى. وصارت مؤسسات الدولة وأموال الناس مشرّعة للسرقة والاستغلال لا قانون يحمي ولا سلطة تمنع.
الدمار الذي يغطي جنوب لبنان اليوم ويحرم سكانه من زيارته حتى، هل هو ما كان يتمناه أهل الجنوب يوم هللوا لانسحاب الاسرائيليين بدون قيد أو شرط سنة 2000؟..
ولو هم يومها طالبوا الدولة بأن تسعى لاتفاق مع الاسرائيليين يفتح الحدود ويلغي الحرب من جزورها، هل كانوا ليقعوا في هذا المصير المتكرر بسبب عدوانية حزب الله وأوامره في سنوات 1993 و1996 و2006 واليوم؟..
لو تعلم اللبنانيون من انتصار السادات في عبور القناة وتحصنوا باتفاق سلام يمنع على اسرائيل الاعتداء على أهالي المناطق الحدودية، منذ فرصة لبنان الذهبية من خلال اتفاق السابع عشر من أيار، هل كان سيحدث كل هذا الدمار الذي نعيد اعماره كلما وقف القتال لنعود فندمره كرامة لعيون من يسكن في دمشق تارة أو طهران أخرى أو غدا ربما في صنعاء، من يدري؟
المشكل الأساسي في مطالبة الشعوب بالاستقلال ولازمة التحرر هل أصبحت عادة قديمة؟ والصالح اليوم هو الالتجاء إلى قوة اقليمية نووية ربما (؟) ننفذ تعليماتها ونحارب من أجلها ونخسر كل ما نبنيه وندرب أجيالنا على الطاعة لها ولأوامرها؟ وهل إذا ما فرض الملالي سيطرتهم على دول المنطقة سندعو لهم بطول العمر؟ أم نطالب بالتحرر من نيرهم؟ وغدا عندما نعتاد على الاستزلام للقوي والقادر، هل يصبح التفتيش عن علاقة مع الصين مثلا حاجة لتأمين مصالحنا؟ حتى لا نقول روسيا. لأن جارنا، الذي اعتبرنا جزءً من “الشعب الواحد في دولتين”، والذي هجّر ثلاثة أرباع هذا “الشعب” في القطر السوري نفسه، تحميه القوات الروسية وتمنع نظامه من الانهيار.
تغّير القيم بالفتوى تارة وبالثورة أخرى، وفي الحالتين بقوة السلاح، لم يوقف التطور فحسب، ولا منع الاستقرار وفرض الحروب والتقهقر وضياع الأمل وجنى العمر، بل هو دمّر الدول من اساساتها وجعل المواطنين نزلاء في فنادق مؤقتة بدون حقوق، يدفعون المعلوم الذي يتغير كل يوم بمزاجية المسلحين وأوامر الغزاة الجدد كي يبقوا على قيد الحياة، وهم يتنازلون عن حقوقهم في الانتماء إلى الأرض والوطن وعن التاريخ والعزة والفخر، وعن قصص الجدود ونضالهم وانصهارهم عبر الأيام والتجارب. لا بل يجبرهم الخوف على الاشادة بمواقف وآراء ممثلي هؤلاء الذين يعبثون بحقوق الناس وينكرون عليهم حتى الانتماء، ويتبجحون بأنهم الارباب الذين ينفذون الأوامر الالهية ويعملون مشيئة العلي القدير.
فهل من قيامة للشعب الذي قبل بكل هذا ومن أجل ماذا؟ حقده على جيرانه؟ أم عدم الرؤية التي ترافقه منذ أن تحكّم المماليك بمصيره مدة مئتي سنة ومن بعدهم قبائل الترك لأربع مئة سنة أخرى، ولم يشأ أن يتعلم من الأحرار صناعة الحلم أو اقتباسه في الفترة الأخيرة وخلال آخر مئة سنة سادتها أنظمة وقوانين كانت فرصة كبرى للبناء وتنظيم الدول والمؤسسات ومعرفة التعاون مع الشعوب بمنطق الحق بدل القوة والتكامل بدل التقاتل؟..