تعليق على الإنجيل الطوباويّة تيريزيا الكالكوتيّة (1910-1997)، مؤسّسة راهبات مرسلات المحبّة كتاب “الطريق البسيط” ص 79 /”فَمدَّ يسوعُ يَدَه فَلَمَسَه” في أيّامنا هذه، نجد أنّ المرض الأكثر فتكًا الذي يضرب الغرب ليس السلّ أو البرص، بل هو شعور المرء بأنّه مهمل، وغير محبوب ومتروك. نحن بارعون في معالجة أمراض الجسد من خلال الطبّ، لكنّ العلاج الوحيد للوحدة والبؤس واليأس، ما هو إلاّ الحبّ. يموت الكثيرون في هذا العالم نتيجة افتقارهم إلى لقمة الخبز، لكنّ عددًا أكبر بكثير يموت نتيجة افتقاره إلى الحبّ. في الغرب، هنالك نوع آخر من الفقر، ليس فقر الوحدة فحسب، بل هو فقر الروحانيّة. ونجد جوعًا إلى الحبّ كما نجد أيضًا جوعًا إلى الله.
الأحد الثاني من الصوم الكبير : أحد شفاء الأبرص من كتاب الإنجيل الطقسيّ (بكركي-2005) هذا الأحد يذكّرنا بأعجوبة شفاء الأبرص، وهي الأولى في الإنجيل بحسب متّى. فيها عبّر يسوع عن عظم محبّته للإنسان المنبوذ بعيدًا عن ذويه ومجتمعه، لأنّ حنان الله اللامتناهي جعله يحنو على الضعيف، ويعطف على البشريّة المريضة، ويداويها برفق، ويكسر القيود التي كانت تفصل الإنسان عن أخيه الإنسان. 1 – الرسالة (روم 6/12-18): بالمعموديّة يموت المؤمن عن الخطيئة، لكنّه يبقى معرّضًا للخطيئة. فعليه أن يلتزم بالإيمان التزامًا جدّيًّا، ويموت حقًّا عن حياة الخطيئة، ليحيا حقًّا حياة النعمة في المسيح، مائتًا وقائمًا من الموت حيًّا. لقد حرّرنا المسيح من عبوديّة الخطيئة والشريعة ورسومها المادّيّة، فعلينا أن نخدمه بطاعة الإيمان والبرّ والقداسة بحرّيّة أبناء الله. والتطبيق على موضوع الأحد واضح، لأنّ البرص مرض رهيب، بالغ الأقدمون في الاحتياط ضدّ العدوى منه، حتّى اتّخذ طابعًا دينيًّا، إذ اعتُبر منجّسًا للإنسان، ينبذه عن الجماعة المؤمنة. ولكي يستعيد الأبرص مكانه في شعب الله المقدّس، كان عليه أن يؤكّد للناس شفاءه بتتميم بعض الفرائض الدينيّة الرسميّة. أمّا قراءات الأسبوع فمتنوّعة، لكنّها كلّها مركّزة: قراءة الإثنين (1 تس 3/6-13) تركّز على فرح الرسول بولس بأخبار طيموتاوس الطيّبة عن إيمان كنيسة تسالونيكي الناشئة، رغم المشاكل المختلفة المطروحة فيها، بعد أشهر معدودة من تأسيسها، ويتمنّى بولس أن يكمّل إيمانهم، ويطلب لهم زيادة محبّة وثبات في القداسة حتى مجيء الربّ. وقراءة الثلاثاء (غل 2/11-17) تركّز على المشاركة في الموائد وفي الإفخرستيّا بين المسيحيّين من أصل يهوديّ والمسيحيّين من أصل وثنيّ في قلب الكنيسة الأولى، في أنطاكية، وعلى مداخلة بولس الذي رأى في موقف بطرس مساومة على المسيحيّين المهتدين من الأمم، وخطرًا يُهدّد الكنيسة بالانقسام، ومن ثمّ خروجًا على حقّ الإنجيل. وقراءة الأربعاء (روم 3/19-27) تصف انتصار الإنجيل على شقاء البشريّة الخاطئة، الذي حقّقه الله في المسيح يسوع، فمنح الغفران الكامل لجميع التائبين المؤمنين. وقراءة الخميس (فل 4/4-10) تركّز على أنّ الوجود المسيحيّ على الأرض هو فرح وعمل في الربّ، وانفتاح واستعداد لملاقاة وجه الله الكريم في كلّ حين، وعيش الفضائل كلّها. ورسالة الجمعة (روم 1/18-25) وصف سلبيّ لشقاء العالم الوثنيّ بدون الإنجيل: لقد عرف الله، لكنّه لم يعبد الله، بل عبد أصنامًا، واستسلم لكلّ أنواع الرذائل، نتيجة حتميّة لضلاله الدينيّ. ورسالة السبت (عب 12/28-13/9) تركّز على العبادة المرضيّة لله بخشوع وتقوى تليق بالعهد الجديد، وتعطي مبادئ عمليّة لمواقف مسيحيّة تجسّد العبادة المرضيّة لله، التي تتخطّى الطقوس الخارجيّة، إلى عمق ضمير الإنسان ووجدانه. 2 – الإنجيل (مر 1/35-45): إنّ البرص، في نظر اليهود، أشنع مرض، وأقسى عقاب يعاقب به الله الإنسان الخاطئ. فقد كان الأبرص يُمنَع من مخالطة شعب الله، ويُبعَد عن الجماعة المقدّسة. أتى الأبرص إلى يسوع متوسّلاً بثقة تامّة، غير عابئ بما تنصّ عنه التوراة، فمدّ يسوع يده ولمسه وقال له: قد شئتُ فاطهر! فطهُر بدون إسراف في الكلام، ولا إكثار في الحركات، بل ببساطة القادر ورأفة المخلّص. قبل شفاء الأبرص، كان يسوع قبل طلوع الفجر يصلّي، مخصّصًا وقتًا طويلاً للصلاة والتأمّل، ولعلاقته بالآب السماويّ، أمّا الناس فكان همّهم الأوّل أن يحصلوا على الشفاء من يسوع، ويسوع كان يشفيهم باللمس والكلمة. وهذا ما لا يزال يحدث للمؤمنين في ليتورجيّا القدّاس، في مناولة جسد الربّ، وسماع كلمته. وكما راح الأبرص ينادي بأعلى صوته ويذيع الخبر، هكذا على كلّ مؤمن عاش خبرة اللقاء مع يسوع، وعلى كلّ خاطئ شفاه يسوع من خطيئته وأعاده إلى فرح العيش ضمن الكنيسة بحرّيّة أبناء الله، أن يتحوّل إلى رسول يذيع البشرى! أمّا قراءة الإثنين فتركّز على سلامة العين الروحيّة بنظرة إيمانيّة صحيحة وصلة روحيّة بالله والناس صافية، وحرّيّة القلب من حبّ المال (متى 6/22-24)؛ وقراءة الثلاثاء تشدّد على ضرورة الصلاة إلى الله الذي يمنح الصالحات للّذين يسألونه (متى 7/7-12)؛ وفي قراءة الأربعاء، يأبى يسوع أن يعطي سائليه آية كونيّة خارقة، بل أشار إلى آية موته وقيامته معبّرًا عنها بآية يونان النبيّ (متى 12/38-45). وقراءة الخميس تعطينا مثل الزارع الواثق من غلَّة أرضه رغم كلّ الأخطار. وكذلك البشرى بالملكوت تنتصر في النهاية على كلّ العقبات، ويسوع يدعونا إلى أن نكون تربة صالحة تثمر فيها كلمة البشرى (لو 8/4-15). وقراءة الجمعة تشدّد على الغفران في مثل العبد القاسي الذي عفاه سيّده من دين بستّين مليون دينار، ولم يعفُ هو بدوره لرفيقه من دين بمئة دينار فقط!! (متى 18/23-35). وقراءة السبت تركّز على التينة التي يبست، وهي في الأصل رمز للشعب الذي لم يؤمن، ولكنّها صارت في مفهوم الإنجيليّ دليلاً على مفعول الإيمان والصلاة (مر 11/19-25).
شرح لهوتي لمعجزة شفاء الأبرص نقلاً عن موقع كلمة الحياة يحدثنا إنجيل القديس لوقا في الفصل الأول من 35 حتى 45 عن رجل أبرص شفاه يسوع، يقول: وكان في إحدى المدن، فإذا رجل مملوء برصاً، فلما رأى يسوع خرّ على وجهه وطلب إليه قائلاً: ”يا سيد إن أردت تقدر أن تطهرني“. فمدّ يده ولمسه قائلاً: ”أريد فاطهر“. وللوقت ذهب عنه البرص. فأوصاه أن لا يقول لأحد بل يمضي ويري نفسه للكاهن ويقدم عن تطهيره كما أمر موسى شهادة للآخرين. لفهم معاني العجيبة وخلفياتها الإيمانية لا بد من ادراك تاريخية الحدث والمعايير التي كانت سائدة في ذلك الزمن في البيئة التي عايش في كنفها السيد المسيح وهي التالية: أولاً: تعريف مرض البرص طبقاً لمعايير ذلك الزمن. كان يعتبر البرص مرضاً خطيراً، إذا أُصيب به إنسان يُحكم عليه بالعزلة بعيداً عن الناس، وهذا ما يُشار إليه اليوم ”بالحجْر الصحي“، وإذا اقترب أحد من الأبرص سهواً كان عليه أن يصيح محذراً ”أبرص أبرص“ لكي يجنّب الغير من الإصابة بالعدوى. والأبرص الذي أمامنا كان مملوءاً برصاً بمعنى أن المرض كان منتشراً في كل جسمه. ثانياً: بسبب خطورة المرض وانتشاره في تلك الأيام القديمة خصّص الوحي في شريعة موسى تشريعاً خاصاً في كيفية التعامل مع الأبرص في حال اكتشاف المرض في أحدهم وكان الكاهن هو من يقرر هذا الأمر ويقوم باجراءات العزل واعتباره شرعاً المصاب ميتاً. وفي حال شفاء المصاب عليه واجب تقديم نفسه إلى كاهن رعيته الذي عليه تقع مسئولية التحقق من ذلك وإعلان شفاء المصاب من مرضه. والشريعة في زمن العهد القديم، كانت تعتبر البرص نجاسة تُعفي صاحبها من القيام بواجبات العبادة كباقي أفراد المجتمع، فالنجاسة تفسد العبادة. ثالثاً: يرى مفسرو الكتاب المقدس تشابهاً كبيراً بين البرص والخطية 1- كلاهما وبأ وراثي فالخطية طبيعة موروثة من آدم انتقلت إلى نسله على مرّ الأجيال، ولم يُستثنَ منها أحد. والبرص كذلك مرض معدٍ ينتشر بسهولة من المصاب إلى كل من يتعامل معه أو يلمسه عن قرب، سواء بالزواج أو التعايش معاً أو الاحتكاك العادي من خلال الطعام أو اللباس أو حتى عن طريق الهواء. 2- كان البرص في عهد الشريعة الموسوية نجاسة ضد الطهارة في المسيحية فالنجاسة هي الخطية. الخطية نجسة تعيب الإنسان وتعيق استجابة الصلاة. 3- التشابه الثالث بين الخطية والبرص هو استحالة الشفاء بالطرق التقليدية فالبرص لا شفاء له إلا إذا حصلت معجزة ربانية. وكذلك الخطية لا شفاء لها مسيحياً إلا بالتوبة المخلصة والرجوع إلى الله، عندها تُغفر الخطية على حساب دم المسيح الذي سال على الصليب فداء للبشرية. 4- البرص والخطية يسببان العزلة فالأبرص يُحكم عليه قديماً بالعزلة عن مجتمعات الناس. فهو محجورٌ عليه لا يقترب منه أحد ولا يلامسه. والخطية كذلك تبني جداراً بين الله والإنسان. يقول الوحي في سفر إشعياء: ”آثامكم صارت فاصلة بينكم وبين إلهكم وخطاياكم سترت وجهه عنكم حتى لا يسمع“. وهذه الحقيقة يؤكدها مشهد عرفناه عندما أخطأ آدم وخالف وصية الله فطُرد من الجنة وهناك حصلت العزلة بين الله والإنسان. لهذا جاء المسيح ليصالح الاثنين معاً – الله والإنسان – فصار هو الفدية والذبح العظيم. كثيرون من المتعبدين لم تصلهم هذه المعلومة، وكثيرون منهم يمارسون العبادة ومعها يستمرون في ممارسة الكذب، والنفاق، والشتائم، والسرقة، والمكر، والبغضاء، والتعصّب… فكل واحدة من هذه تبني جداراً بين الله ومرتكبها. 5- البرص والخطية كلاهما موت شرعي أو موت حيّ فالأبرص ميّت وهو حيّ. يُقال أن الأبرص كان يُلبس أكفان الموتى، وتتلى عليه صلاة الموتى قبل أن يُبعد أو يُحجر عليه بعيداً ليعيش في عزلته. والخاطي كذلك، هو حيّ بجسده لكنه ميّت روحياً وعلاقته بالله علاقة مقطوعة. جاء أحدهم إلى المسيح وقال له يا سيّد أريد أن أتبعك لكن ائذن لي أولاً أن أدفن أبي. فقال له: دع الموتى يدفنون موتاهم وتعال اتبعني، أي دع الموتى (الأحياء) يدفنون موتاهم. ونعود للمشهد مع الأبرص: فهو عندما رأى يسوع عن بُعد خرّ على وجهه وقال: يا سيّد، إن أردت تقدر أن تطهرني. واضح من قوله هذا أنه كان يعرف يسوع ويعرف أن له سلطاناً على الأمراض ولو استعصت. فهو يشفي، لكنه لم يكن واثقاً من أن إرادة يسوع يمكن أن تشمله، وكأن يسوع مزاجيُّ الإرادة يمكن أن يريد أو أن لا يريد. المسيح ليس هكذا وهو القائل: ”تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيليّ الأحمال وأنا أريحكم“. وقال عنه الإنجيل: ”جال يصنع خيراً ويشفي جميع المتسلّط عليهم إبليس“، وقال هو عن نفسه: ”من يُقبل إليّ لا أخرجه خارجاً“، بمعنى أنه لا يفشِّل أحداً يرجو مساعدته… فكان هذا الأبرص من أحقّ الناس للمساعدة في مأساته هذه! والمسيح جاء لكل الناس لا لفرد دون آخر. قال الأبرص: ”يا سيّد، إن أردت تقدر أن تطهّرني“. فردّ عليه يسوع بحنانه مستخدماً ذات الكلمة التي شكّك فيها الأبرص، فقال: ”أريد فاطهر“. وليس هذا فقط، بل زاد بأن مدّ يده ولمسه! ولعلّ هذه اللمسة بذاتها كانت بالنسبة لهذا المسكين هي معجزة… فهو منذ أن أصابه المرض عاش في عزلة عن الأهل والأحبة والأصدقاء، ولم يلمسه أحد طيلة أيام مرضه. فقد كان بحاجة للمسة حنان من قلب عطوف كقلب يسوع لتملأ فراغاً كان يفتقده. وأخال أن لمسة من يسوع لجسده أرعشته وأشعرته بأنه يوجد من يحبه، وبها عاد له الشعور بكرامته وكيانه. لا شك أن كلمات يسوع للأبرص ”أريد فاطهر“ قد منحته الشفاء الأكيد من برصه، إذ يقول الإنجيل: ”وللوقت ذهب عنه برصه“. أما لمسة يد يسوع لجسده فمنحته شفاء آخر كان ضرورياً لم يغفل عنه يسوع، فيها شفى نفسيةً محطّمة بسبب العزلة والوحدة واليأس والحرمان والعواطف المسحوقة والمصير المحتوم. في ذلك الزمن كان الأبرص يعيش خارج المناطق السكنية، إلى أن يتم الشفاء ويتم التأكد من ذلك. وبالتالي كان البرص يشكل نوعًا من الموت الديني والمدني، والشفاء منه كان بمثابة قيامة من الأموات. يمكننا أن نرى في البرص رمزًا للخطيئة، التي هي عدم طهارة القلب الحقيقية، والتي تستطيع أن تبعدنا عن الله. فليس مرض البرص الجسدي، كما كانت تنص الشرائع القديمة، هو الذي يبعدنا عن الله، بل الخطيئة، الشر الروحي والأدبي. لهذا يهتف المرنم: “طوبى للإنسان الذي غفرت معصيته وسترت خطيئته”. ثم يتوجه إلى الله: “لقد كشفت لك خطيئتي ولم أستر إثمي. قلت: سأعترف للرب بكل ذنوبي، وأنت أزلت إثمي وخطيئتي” (مز 31 32، 1 . 5). إن الخطايا التي نرتكبها تبعدنا عن الله، وإذا لم نعترف بها بتواضع واثقين بالرحمة الإلهية، ستصل إلى إماتة النفس. وبالتالي ترتدي هذه الأعجوبة طابعًا رمزيًا. فيسوع، كما تنبأ أشعيا، هو عبد الله الذي “حمل أوجاعنا، وآلامنا” (أش 53، 4). في آلامه سيضحي مثل أبرص، تدنس بسبب خطايانا، مفصولاً عن الله: وسيقوم بكل هذا حبًا، لكي ينال لنا المصالحة، الغفران والخلاص. في سر التوبة، يطهرنا المسيح المصلوب والقائم، من خلال خدامه، برحمته اللامتناهية، ويعيد لنا الشركة مع الآب السماوي ومع الإخوة، ويقدم لنا هبة الحب، والفرح والسلام. طلب المسيح من الأبرص بعد شفائه أن يذهب إلى الكاهن ويريه نفسه ليعلن هذا الأخير شفائه شرعاً ويعيد له حقوقه ويعيده إلى المجتمع الذي كان لفظه وعزله، كما أوصاه أن يقدم العشر كعربون وفاء وشكر للنعمة التي أعطيت له.