وانا افكّر بلبنان وفلسطين والعالم، لم أجد عنوانًا أفضل لوداع سنة ٢٠٢٣.
لبنان بلا رئيس للجمهوريّة منذ حوالي السنة، ورئيس الجمهوريّة هو “رأس” الدولة. رأس الدولة لا يعني عقل الدولة في النظام الديمقراطي البرلماني، لكنّه بصفته حاميا للدستور، يحرص على عمل مؤسسات الدولة ومن موقعه يؤمّن التناسق فيما بينها، بحسب ما يقتضيه هذا الدستور.
في غياب رأس الدولة، لم ينعدم التنسيق بين مؤسسات الدولة فحسب، بل هي فقدت شرعيّتها الدستوريّة. فالحكومة حكومة تصريف أعمال والمجلس النيابي يصدر القوانين مخالفًا الدستور، الذي يفرض عليه انتخاب رئيس قبل التحول مجددا الى هيئة تشريعية. لاشرعيّة المؤسّسات الدستوريّة، معطوفة على غياب التنسيق ديمقراطيًّا فيما بينها، فتحا الباب واسعًا أمام العشوائيّة والتخبّط في السياسات الإجتماعيّة والإقتصاديّة والوطنيّة، مما سرّع في وتيرة الإنهيار وفاقم من تداعياته على معيشة المواطنين، وامنهم الوجودي، وسلامهم الوطني.
وجود رئيس للجمهوريّة لا يعالج بحد ذاته الأزمة، لكنّه شرط ضروري لمعالجتها، وإن لم يكن كافيًّا. فرئاسة ميشال عون مثلاً، كانت عاملاً أساسيًّا في الوصول الى الإنهيار الحالي، لإنتهاكه الدستور مرارًا، ولفصله قرار الدولة عن “رأسها”، وتسليمه لتنظيم عسكري من خارج المؤسسات الدستوريّة، هو “حزب الله”، الذي يتلقّى توجيهاته من “رأس” دولة أخرى. فنرى هذا التنظيم يتصرف من “رأسه” مثلا، فيما يتعلق بالحرب الحالية مع إسرائيل في منطقة الجنوب، فيما رئيس الحكومة يدفن “رأسه” في رمال العجز ، كالنعامة، مطالبا بتطبيق القرار ١٧٠١ من الدول العظمى، متجاهلا مواقف التنظيم العسكري الرافض لذلك، ربطا بما يجري في غزة.
الوضع في فلسطين لم يكن بأفضل حال طيلة السنة، بل هو اليوم بأسوأ حال قبل نهاية السنة. ف”رأس” السلطة الفلسطينيّة لا سلطة فعليّة له إلاّ في بعض مناطق الضفة الغربيّة، ولا سلطة له على الإطلاق في قطاع غزّة، حيث طُرِدت “سلطته” منذ سنوات بقوّة السلاح، ورُميَ رجالها احياء من على سطوح الابنية. و”الرأس” مغيّب اليوم كلّيًّا عن مجريات الحرب على غزّة. فحماس هي من يحكم غزّة وهي من يقرّر عنها ويفاوض بإسمها.
حماس هي “الرأس” في غزّة، وهذا الرأس نجح في اختراق الأراضي الإسرائيليّة من خلال عمليّة “طوفان الأقصى”، مبرهنًا عن ذكاء تكنولوجي متقدّم أدهش الخبراء العسكريين. لكن هذا الذكاء التكنولوجي كان قاصرًا في توقّع ردود الفعل الإسرائيليّة والدولية، التي تكاد تتحول محصلتها الى ابادة شعب غزة، بعد أن ادت حتى الآن إلى تدمير شامل في القطاع وقتل ما فوق العشرين الف انسان من سكانه، وتهجير معظم من تبقى منهم على قيد الحياة.
“رأس ” غزّة، شغّل “دماغه المعرفي” التقني من جهة والديني الغيبي من جهة أخرى، في توليفة خاصة بالحركات الدينية الاصولية. لكن هذا “الدماغ المعرفي”، لم يستشر “دماغه العاطفي”، المرتبط بالمعاناة المتوقعة لفلسطينيي غزة، وبمصير القضية الفلسطينية بشكل عام. والرأس لا يحسن التفكير إلاّ من خلال تشغيل الدماغين. وقد دلّت الابحاث على الدماغ، انه اذا أصاب عطب “الدماغ العاطفي”، يحافظ “الدماغ المعرفي” على قدراته، بإستثناء مقدرة واحدة، وهي اتخاذ القرارات.
وكان على “رأس” غزة أن يرد حديثا على “رأس” ايران، مؤكدا أن عملية “طوفان الاقصى” كانت من أجل مواجهة المخاطر التي تهدد المسجد الاقصى، ولم تكن انتقاما لإغتيال قاسم سليماني، كما ادّعى، المتحدث بإسم “الحرس الثوري الايراني”.
من الجانب الإسرائيلي، الوحش الصهيوني فقد عقله تمامًا وترك العنان لغرائز العنف والحقد والكراهية العمياء تتحكّم بتصرفاته. في الحرب على غزّة، احتلّ الدماغ المعرفي كامل خلايا الدماغ العاطفي في “الرأس” الإسرائيلي، وكأن هذا الاحتلال على مستوى الدماغ، هو شرط ضروري، لتقبّل “الرأس” الإسرائيلي لجريمة الاحتلال العسكري الإسرائيلي لفلسطين.
“رأس” العالم، المتمثّل بالجمعيّة العموميّة للأمم المتّحدة ولمجلس الأمن، شُلِّت إرادته، واستسلم كليا لإملاءات الرأسمال والقوّة، راميًا في غياهب النسيان، قيم حقوق الإنسان والحريّة والديمقراطيّة.
الشلل الذي أصاب “رأس” العالم، في تعاطيه مع الحرب على غزّة، تزامن مع توسّع ظاهرة الذكاء الإصطناعي، والبدء جدّيًّا بطرح تساؤلات حول مخاطره على الإنسان. فالذكاء الإصطناعي هو في حقيقته، أعلى درجات الغباء البشري، لأنه يفصل “رأس” الإنسان عن جسده. وأشار خبراء أن إسرائيل استخدمت برنامج الذكاء الاصطناعي “غوسبيل” لأول مرة في الحرب على غزة.
يتكوّن القلب عند الجنين قبل العقل، حتى لو حاول العقل لاحقًا السيطرة على القلب. وربما كانت التسوية البيولوجيّة لهذا الصراع، هي تكوّن دماغين في “رأس” الإنسان، الدماغ المعرفي والدماغ العاطفي. ويبدو لي ان ظاهرة الذكاء الإصطناعي هي محاولة للإطاحة بهذه التسوية البيولوجيّة، عبر القضاء كلياً على الدماغ العاطفي. لكن ثمن هذه العمليّة سيكون للأسف، الإطاحة بما يميّز العقل الإنساني، أو بتعبير أدق، الإطاحة بإنسانيّة هذا العقل. والنتيجة الرمزية لذلك، هي فصل الإنسان عن رأسه.
يقولون “عند تغيير الدول، احفظ رأسك”، ويقصدون أن الاولوية هي للحفاظ على الحياة، في ظل العجز عن التأثير في مجرى الاحداث. ربما حان الوقت لنضيف “عند تغيير الإنسان احفظ رأسك”، والمقصود هنا الحفاظ على انسانية العقل البشري.
في المنطقة العربية نحتاج إلى النصيحتين معاً، حيث تهدد الاحداث الجارية بتغيير الخارطة الجغرافية- السياسية. لكن من شأن النصيحة الثانية ان تعدّل في معنى النصيحة الاولى، فلا تعود محصورة بالحفاظ على الحياة، بل بجعلها أفضل، من خلال المساهمة في تغيير الدول نحو الاحسن، عن طريق الاسترشاد بإنسانية العقل البشري.