أربعين محمد شطح! د. توفيق هندي/27 كانون الأول/2023
في الذكرى السنوية العاشرة بتاريخ 27 كانون الأول 2013، هذا ما كتبته في جريدة اللواء في حينه بذكرى الأربعين لإغتيال صديقي وتوأمي السياسي د. محمد شطح.
لهذه الأسباب إغتالوك، يا محمد!
كم هو الوضع الذي تلى إستشهاداك لا يشبه ما كنت تصبو إليه وتخطط له! ولربما إغتالوك لهذا السبب المباشر، أي لكي لا يكون “ما بعد شطح ليس مثل ما قبله”! وبالتأكيد لأسباب مهمة وأساسية أخرى تجعل القوى التي إعتادت الإجرام وسيلة للتسلط تستشعر الخطر من مستوى الفعالية التي وصل إليها الشهيد الجلل!!
لم تكن فقط ذلك المثقف النير “المعتدل” الذي يتساءل المرء متعجبا” لماذا إغتالوه!؟ فمن المتسائلين من هو خبيث غيور يريد التقليل من قيمتك ب”إمتداحك”، ومنهم من هو صادق يريد التدليل على فظاعة الجريمة وفظاظة الذين أصدروا أوامر إغتيالك!
صحيح أنك لم تكن صاحب القرار في تيار المستقبل وفي 14 آذار، ولكنك من المساهمين الأساسيين في صناعته وربما أهمهم، لما كنت تتمتع من قدرة على قراءة الوضع السياسي بموضوعية وواقعية وإشتراح الحلول ووضع الخطط العملية لتنفيذها.
لم تكن رجل المبادئ فحسب بالرغم إنك كنت صلبا” في التمسك بها. ولم تكن رجل التكتكات الإنتهازية والمناورات السخيفة، بل كنت رجل الليونة التي لا تفرط بالمسلمات. فألبسك البعض لباس الإعتدال الملتبس.
لم تلهث وراء سلطة أو مركز بالرغم من عدم تمنعك من تبوئك مراكز تمكنك من تفعيل تأثيرك على مسارات السياسة.
كنت تمارس السياسة الوطنية وليس السياسة بمعناها البدائي، أي الصراع على السلطة. كنت تدرك أن لبنان بخطر وجودي وأن الخطر داهما”، ولكنك لم تستسلم لما يمكن أن يراه غيرك قدرا” محتما”. لذا، ما كنت تقترحه كان الأسلم وطنيا” للبنان الكيان والوطن والشعب والدولة، وليس بالضرورة لأصحاب القرار في مجموعتك السياسية الضيقة (المستقبل) والأوسع (14 آذار) الذين قد تحد من توجهاتهم الوطنية البحتة طموحاتهم السلطوية في مقاربة عدد من الإشكاليات.
كنت صاحب رؤية إستراتيجية وصاحب مبادرات، كما كنت صاحب علاقات دولية رفيعة المستوى تحاول أن تؤثر فيها لمصلحة لبنان ولكنك لا تتأثر بها إذا كانت غير ذلك، على عكس غالبية السياسيين اللبنانيين. فلم تكن يوما” تابعا” لهذه الدولة أو تلك. إني أوأكد كم كنت حرا” وشفافا” في تعاطيك مع الخارج الذي كنت لا تتورع من إنتقاده وإعلان إختلافك معه في مقاربات له كنت تعتبرها مسيئة للمصلحة اللبنانية الوطنية، كما كنت تسعى إلى تصحيحها، ولا سيما بالنسبة للمقاربات الساذجة للغرب عموما” والإدارة أوباما تجاه الملف الإيراني، حيث كنت تعتبر على حق أن مقياس التغيير في السياسة الإيرانية لا يتعلق بالملف النووي حصرا”، بل يرتبط أكثر بإداء إيران في الإقليم، ولا سيما في الخليج والعراق وسوريا وخاصة لبنان.
لم يغتالوك يا محمد لأنك كنت تزعجهم إعلاميا”، كما يمكن أن يظن البعض! إنما لأن ممارستك السياسية كانت ذات فعالية كبيرة لأنهم كانوا يراقبونك عن كسب ولأنك كنت شجاعا” وشفافا” لا تخشى أحدا”، إعتبارا” منك أن الحق كان إلى جانبك. فلم تكترث يوما” أن يكون فعلك السياسي سريا”، في حين أنهم كانوا يراقبونك عبر الهاتف والرسائل الإلكترونية والصندوق الإلكتروني وو… وقد إعتبروا بلحظة أن فعاليتك باتت مؤذية لهم وتشكل خطرا” حقيقيا” عليهم، ف”ألغوك”!
معرفتي بمحمد شطح تعود إلى كانون الثاني 2006، عندما عين من قبل رئيس تيار المستقبل سعد الحريري ورئيس الحكومة فؤاد السنيورة مفاوضا” في عملية حوارية سرية للغاية بادرت بها آنذاك بين التيار الوطني الحر وتيار المستقبل تهدف إلى الإتفاق على رؤية وطنية واحدة حول مجموع المسائل السياسية والوطنية، وتسمح بالتالي إلى رأب الصدع بين القوى السيادية المتجمعة في 14 آذار والتيار الوطني الحر الذي كان قد بدأ مفاوضاته مع حزب الله، تلك المفاوضات التي أوصلت في 6 شباط إلى ما سمي بورقة التفاهم.
ومع أن معرفتي به لم تكن قديمة، غير أننا سرعان ما أصبحنا أصدقاء ومن ثم صديقين حميمن وتوءمين سياسيين وتطورت هذه العلاقة الشخصية والسياسية إلى علاقة بين أفراد عائلتينا.
فعلاقتنا لم تكن فقط قائمة على الإحترام المتبادل، بل على الإعجاب المتبادل. أساس هذه العلاقة هو هذا التماثل بالقيم الإنسانية والمجتمعية والمفاهيم العلمية والمقاربات القائمة على الموضوعية والعلم والعقل والمعرفة النظرية والعملية معا”.
ما جمعنا أيضا” هو حب لبنان وتطلعنا إلى لبنان سعيد، مزدهر، منفتح على العالم، سيد، حر، مستقل، ديمقراطي ومتفلة سياسيا” وإجتماعيا” من ثقل التقليد وتخلف التركيبة الإجتماعية-السياسية اللبنانية التي تقف وراء هذا التناقض الصارخ بين لماعية اللبناني كفرد وفشله الذريع في ما خص أي عمل جماعي. علاقة محمد بلبنان هي علاقة حب وغرام! محمد يجسد هذا اللبنان الذي يحلم به كل لبناني صادق محب لوطنه!
لطالما شعرت أن علاقتي بمحمد تجسد بأجلى صورها، هذا العيش معا” الذي يتغنى به ملائكة (عن حق) وشياطين (عن باطل) هذا البلد الفريد!
كان محمد متعدد المواهب والمواصفات، أكثر ما يشبه فلاسفة-علماء عصر التنوير (les érudits du siècle des lumières)!
كان محمد ذات ثقافة واسعة تطال الفلسفة والسياسة والإقتصاد والفيزياء والإلكترونيك و… وتراه يجادلك بدقة وخبرة بأي موضوع تطرح عليه في أي مجال من مجالات المعرفة.
لم يكن محمد فنانا” ولكنه كان يحب الفنون ويتذوقها: الموسيقى على أنواعها، الرقص ولا سيما الكلاسيكي، المسرح، السينما، كما فن الطبخ الذي أبدع به!
كان محمد يحب الحياة بملذاتها الكبيرة والصغيرة، وهو “هني”، غير متطلب، يكتفي بما تيسر: من السفر مرورا” بحفلة “سينما ومن بعدها أو قبلها العشاء في مطعم عادي”، الذهاب إلى “شم الهوا” في المناطق اللبنانية، الإجتماع مع الأصدقاء حول مائدة الغداء أو العشاء، قضاء السهرة معك وتناول أطراف الحديث السياسي وغير السياسي ونحن نشاهد على التلفزيون فيلما” عن الحيوانات أو برنامج سياسي، لعب الورق وليس “القمار”، لعب البيتوغ (pétanque) والبيغ-بونغ، …
يا “ضيعانك” يا محمد! خسرك لبنان كله! خسرك تيار المستقبل! خسرتك 14 آذار! خسرتك خاصة زوجتك العزيزة نينا وولديك المحبين راني وعمر، خسرتك أنا أيضا” يا صديقي الحبيب!