إذا نجا لبنان من الحركات اليساريّة، فنهايته محتومة على يد “الفدراليين”! الكاتب والمخرج يوسف ي. الخوري/19 تموز/2023
في بلادي، يتضاعف الرغاء يومًا بعد يوم على الشاشات والإذاعات! واقصد بالرغاء هنا، كثرةُ الكلام من دون مغزى، كما هي حالُ المنادين بالفدرالية وبتغيير اتّفاق الطائف، مع العلم أنّ حجج المتمسّكين بهذا الاتّفاق، لا تعدو كونها هي الأخرى هرطقات لا مغزى منها.
“الفدراليون”؛ يتكلّمون، يُعلون الصوت، يرغون، يضجّون، لكن “مطرحك يا واقف”! يُشبّههم أحد أصدقائي بعديد الجيش الأبيض الروسي الذي كان يضمّ في صفوفه ضباطًا منظّرين أكثر من العسكر المقاتلين، ما أدّى إلى انهزامه عام 1922 أمام جيش “البولشيفيك” الأحمر المتمكّن بصرامة قادته، وبمقاتليه من طبقة الفلاحين.
توصيف صديقي غايةٌ في الدقّة، فمعظم “الفدراليين” يصدّرون أسماءهم بلقب “دكتور”، وهم، منذ سنين، لم يتجاوزوا بعد عتبة اقناع الآخر بأنّ الفدرالية ليست تقسيمًا! يتشكّلون ضمن خمس عشرة مجموعة لكلّ منها طرحها الخاص بالفدراليّة والمختلف عن طروحات الأخريات!! عددهم لا يتجاوز المائة “دكتور”، تقدّم من بينهم مرشّحون إلى انتخابات الـ 2022 النيابيّة في غالبيّة الدوائر، وبالكاد نالوا مجتمعين أربعمائة صوت على كامل الأراضي اللبنانيّة. أمّا عن آليات الوصول إلى لبنان فدرالي، فتحدّث ولا تَحرَج على “تخبيصاتهم”، لأنّ كلًّا منهم يغنّي على أجندته!!!
واحدهم يُريد الفدراليّة للتخلّص من حزب الله وترسانته، وهو يقترح أن يترك للحزب المناطق الشيعيّة في الجنوب والبقاع، والتي تمتدّ مساحتها على نصف الأراضي اللبنانيّة، بمقابل أن يترك لكلّ باقي المكوّنات النصف الآخر من مساحة لبنان!! صاحب هكذا نظريّة هو أحمق، جاهل، وخائن!
أحمق، لأنّ هكذا خطوة ستقضي على شيعة لبنان الرافضين لسطوة حزب الله، وهذا فيه شيء من الإبادة الجماعيّة!
جاهل، لأنّه لا يعرف، أو يتجاهل، ما فعله الفلسطينيون بلبنان لمّا حُشروا في المخيّمات، بالرغم من ابرام اتّفاق القاهرة الذي ينظّم تحرّكاتهم في لبنان.
وخائن، لأنّه يتنكّر لدماء الشهداء الذين سقطوا في العام 1975 دفاعًا عن التراب اللبناني. لولا هؤلاء الشهداء، وهؤلاء المقاومين اللبنانيين، لما كان للبنان وللمسيحيين وجود اليوم.
“فدرالي” آخر، وهو مسيحي متطرّف، يُريد الفدراليّة إثنيّة، إذ يعتبر أنّ الخلاف بين اللبنانيين هو طائفي معزّز باختلاف في الثقافات والحضارات!! صاحبنا “الفدرالي” هذا هو جاهل، ناكر، ومضلِّل!
جاهل، لأنّ المشكلة بين اللبنانيين تكمن في التحزّبات وليس في الطائفيّة، وإلّا كيف يفسّر تعاون، وتضامن، وتكامل أهل المنظومة المكوَّنة من كلّ الطوائف اللبنانيّة؟
ناكر، لأنّه يطمس حقيقة أنّ الخلاف بين المكوّنات الحزبيّة المسيحيّة هو أشدّ من خلافها مع المكوّنات غير المسيحيّة، ويتنكّر لموقف سمير جعجع الذي يفضّل سنّة طرابلس على تيّار جبران، ولموقف جبران المتحالف مع حزب الله ضدّ سمير، ولتقارب آراء سامي الجميّل مع اليسار أكثر منه مع القوّات والتيّار…
ومضلِّل، لأنّه يحوّل بوصلة المعركة من معركة بين شعب لبناني من كلّ الطوائف ومنظومة مانعة هي الأخرى من كلّ الطوائف، إلى معركة طائفيّة وهميّة، تمامًا كما فعلت الحركة الوطنيّة تمهيدًا للاستيلاء على السلطة عام 1975.
“فدرالي” ثالث، يريد الفدراليّة جغرافيّة!! فهل بين اللبنانيين خلافات حول الملكيّات العقارية ليُطالب بفدراليّة جغرافيّة؟ هنا أيضًا تحوير فاضح لجوهر المشكلة! الثنائي الشيعي يستولي اليوم على مشاعات الدولة، فمِن الان حتّى تحقيق الفصل الجغرافي بين الطوائف، يكون الشيعة قد وضعوا اليد على ثلاث ارباع مساحة لبنان، وعلى الوطن والمسيحيين حينها السلام.
وعليه، يجب مقاومة المعتدين على أملاك اللبنانيين واسترجاع ما سلبوه ولو بالقوّة، عوض التلهّي بنظريّات جوفاء.
قِمّة المهازل؛ البزار الذي تقدّم به الأسبوع الماضي أحد “الفدراليين”، وهو من “الفينيقيين”، حين دعا إلى اجماع مسيحي للمتاجرة بمنصب رئيس الجمهوريّة؛ فبكلّ ثقة، أجهر حضرته بقبوله سليمان فرنجيّة رئيسًا، شرط أن يقبل حزب الله باللامركزية الماليّة! وأعلن أنّه لا يُعارض إبقاء سلاح حزب الله في حال يقبل الحزب باللامركزيّة السياسيّة!!! لعمري، لم أقع في حياتي على من هم أكثر انحطاطًا، وعهرًا، وخيانةً، من هذا المدّعي بأنّه فدرالي!!؟ مَن خَوَّلَ هذا المُستعبَد لذلّ وأوهام أفكاره، أن يقرّر مصير المسيحيين والرئاسة؟ وهل الـ 31 (واحد وثلاثون) صوتًا التي نالها في الانتخابات النيابيّة الأخيرة، تُتيح له حشر خدائعه في موضوع الرئاسة؟ المُضحك المُبكي أنّ صاحبنا هنا هو فعلًا تاجر من الطراز الفينيقي، إذ يفقه في القانون والسياسة بحسب علوّ موج البحر، ومستوى صوت الريح! فلا فرق عنده بين أن ينام داعيًا إلى الفدراليّة، وأن يصحوَ مناديًا باللامركزية، هذا إن كان يعلم أنّ الفدرالية نظام، واللامركزيّة نظامٌ آخر مُختلف.
المشكلة ليست بالفدرالية، بل بالفدراليين المتوهّمين بأنّهم أصحاب رؤى ومنزّهين عن الخطأ والفاحشة. يُريدون اجهاض فكرة لبنان الكبير وهم غير ملمّين بتجربة المائة عام. يُريدون تغيير دستور الطائف وهم غير مطّلعين على مضمونه، حتّى أنّ أحدًا من بينهم لم يجهد لمقاربة تناقضاته! فعوض ان يُقنعوا الناس بأنّ الطائف غير قابل للتطبيق، وهذا امر من أسهل ما يكون، يتلهّون بأمور كثيرة لا نفع منها، ويغرقون في التفاصيل المملّة الي تنفّر الناس من الفدرالية، لاسيّما حين يبدؤون باستعراض خرائط ملوّنة للبنان الفدرالي، فما أن تراها، حتّى تشعر بأنّك بحاجة لكي تتخصّص اربع سنوات في الجامعة لتفهمها! وعندما يباشرون بشرح مضمونها وألوانها، يستحيل عليك أن تفهم شيئًا من أفكارهم غير المتناسقة وغير الموحّدة فيما بينهم. أسوأ ما في طروحات الفدراليين للبنان جديد، هو أنّهم لا يحملون أفكارًا ابداعيّة، وأعلى ما في معرفتهم هو استنساخُ النصوص من المراجع الأكاديميّة، والاستشهاد بتجارب أنظمة فدراليّة ناجحة، وهنا مكمن الخطورة، إذ يقول الفيلسوف السياسي الفرنسي Jean Bodin في كتابه السادس من مجموعة “في الجمهورية”: “إن جمهوريات عظيمة انهارت بسبب استنساخ حكّامها لأنظمة جمهوريّات أخرى ظروفها مختلفة عن ظروف يلادهم”.
“الفدراليون” جعلوا من الفدراليّة “طنسا اللي ما في غيرُه بالجيش”! سَرَقت البنوك اموالنا؛ إلى الفدراليّة! انفجر مرفأ بيروت؛ الفدراليّة حتمًا! خسروا في الانتخابات النيابيّة؛ التركيبة ما عادت صالحة! اعترض شيخ في صيدا على لباس مايوه البكّيني؛ الفدراليّة لا بل التقسيم! تمّ الاعتداء على آل طوق في بشرّي؛ الفدراليّة أو نهاية المسيحيين!.. الخ. ولا أزال غير مدرك للأسباب التي تدفع “الفدراليين” إلى مهاجمة القوميين اللبنانيين في كلّ مناسبة، ولماذا مُعظمهم على تواصل دائم مع حزب الله، حتّى أنّ أحدهم لا يخجل من التكرار في مجالسه الخاصة والعامة، أنّ علينا الاستفادة من تجربة حزب الله.
قال لي مرّة مسؤول مقرّب من حزب الله: “إنّ الحزب لا يخشى من طرح الفدراليّة”. ولمّا سألته: ” كيف هذا وهو حزب عقيدته أمميّة؟” أجابني ببرود: “ولماذا يقلق؟ يكفي أن تبقى وسائل الإعلام مفتوحة أمام “الفدراليين”، حتّى يتكفّلوا هم أنفسهم بتدمير الفدراليّة”.
واستنتاجًا،
ليست العلّة في النظام الفدرالي، بل في “الفدراليين” أنفسهم.