الكاتب والمخرج يوسف ي. الخوري/هل تلوّثت نعال الأساقفة أم تدنّست أرض مليتا؟

211

هل تلوّثت نعال الأساقفة أم تدنّست أرض مليتا؟
الكاتب والمخرج يوسف ي. الخوري/31 آيار/2023

إذا كان حزب الله هو مَن حرّر الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي، وشهداؤه هم بنفس مرتبة شهداء المقاومة اللبنانيّة، ومقاومته مشرّعة تكرارًا في أكثر من بيان وزاري، وعناصره هم لبنانيّون، وسلاحه حالة خاصة لا يتمّ التخلّي عنه إلّا بتوافق جميع اللبنانيين؛ فما الضير إذًا، ولماذا كلّ هذا الامتعاض، من زيارة رجال اكليروس مسيحيين إلى مَعْلَم مليتا الجهادي التابع له!!؟

أمّا إذا كان حزب الله خائنًا ومحتلّاً لقرار الدولة اللبنانيّة، فالزيارة تكون فعلًا باطلًا، ويجب محاكمة كلّ مَن تجرّأ وقام بها بتهمة التعامل مع المحتلّ.
لكن،
مَن يُريد محاسبة “أساقفة مليتا”، عليه المجاهرة بأنّ حزب الله لم يحرّر الجنوب، بل دخله محتلّاً جديدًا بعد كلّ من منظّمة التحرير الفلسطينيّة وإسرائيل. وبأنّه ليس مقاومة، بل ميليشيا ارهابيّة. وسلاحه لا يردع إسرائيل، بل يُرهب اللبنانيين، ويُخالف ما ينصّ عليه الدستور ووثيقة الوفاق الوطني.

ومَن يُريد محاسبة “أساقفة مليتا”، يجب ألّا يكون نائبًا منذ أكثر من عشرة سنوات، أو مواطنًا شارك في انتخابات نيابيّة حصلت في ظلّ قانون الانتخابات الحالي، أو حزبيًّا يُساكن ممثلوه حزب الله في البرلمان واللجان النيابية.

ومَن يُريد أن يُحاسب “أساقفة مليتا” عليه أوّلًا أن يجري جردة حساب شخصيّة، ويُجيب جهارًا:
ماذا كان موقفه حين وقّع التيار الوطني الحرّ “اتفاقيّة مار مخايل” مع حزب الله، وموقفه حين جرت “مصالحة معراب” ولم تشترط القوّات اللبنانيّة على التيّار التخلّي عن تحالفه مع الحزب؟
ماذا كان موقفه من تثبيت يوم 25 أيّار عيدًا وطنيًّا للتحرير؟
وموقفه من الأمر الذي أصدره وزير الثقافة غابي ليّون بإزالة لوحة جلاء جيش الاحتلال السوري عن صخور نهر الكلب التاريخيّة؟

وماذا كان موقفه من زيارة العماد ميشال عون “معلم مليتا الجهادي” مرتين؟؟ في المرّة الأولى عام 2008 والتي بعدها بأقلّ من سنة كافأه المسيحيون بأكبر كتلة نيابيّة مسيحيّة، وفي المرة الثانية عام 2011 حين أعلن على الملأ من هناك: “سنلوي ذراع أمريكا كما لوينا ذراع إسرائيل”.

هل يعلم مَن يُريد محاكمة “أساقفة مليتا” وهل كان له موقف من إدراج “معلم مليتا” (آب 2022) على لائحة المتاحف الوطنيّة، وبحضور لفيف من الوزراء الحاليين في حكومة ميقاتي المستقيلة؟

ومَن يُريد شجب رحلة الترفيه إلى مليتا، عليه أن يمتلك الجرأة لاستهلال شجبه بفاتحة صريحة وواضحة، تقول:
“إنّ المنسيين من أفراد وعوائل جيش لبنان الجنوبي الذين هُجّروا إلى إسرائيل، هم مظلومون، ومنتَهَكة حقوقهم، وأطالب بعودتهم الكريمة إلى الأرض التي دفعوا دماء أبنائهم دفاعًا عنها في وجه الفلسطيني، وحفاظًا عليها تحت الاحتلال الإسرائيلي، كما أُطالب برفع صفة العمالة عنهم لأنّهم وطنيّون أبطال”.

أمّا المطالبة بمعرفة ما إذا كانت بكركي والبطريرك على علم مسبق بالزيارة، فليست في مكانها، كَوْن رعاة الأبرشيّات، لاسيّما الموارنة، هم أسياد قراراتهم، وهم غير ملزمين بإذن مسبق للسياحة إلى مليتا. الأصحّ، يجب البحث في ما إذا كانت بكركي راضية عن الزيارة ام لا. فإذا كانت راضية ولو على مَضَض، سيتمّ السكوت والتغاضي عن الموضوع كما حصل في قضيّة المطران موسى الحاج، وفي استباحة أملاك الكنيسة في لاسا والضاحية وأماكن أخرى. وفي حال كانت بكركي غير راضية، فستعاقب وتهمّش وتنحّي، على غرار ما فعلته مع مطارنة أزعجوا بمواقفهم قيادات مسيحيّة، وأخرى غير مسيحيّة، وكما فعلت مع رؤساء عامين تجاوز أداءُهم ونفوذُهم أداء ونفوذ بكركي في الأزمات.

في المقابل، لا يجوز أن تغضّ بكركي والمرجعيّات المسيحيّة، وبالتحديد المارونيّة، الطرفَ عن أنّ رحلات الحجّ إلى مليتا استنفرت المسيحيين حين قام بها أساقفة وكهنة، ولم تستفزّهم حين قام بها مسؤولون حكوميون وعسكريون، وقيادات حزبيّة مسيحيّة. فالمسيحيون ما كانوا استنكروا لو لم يعلّقوا الآمال على دور بكركي الخلاصي للبنان، ولو لم يفقدوا الثقة بقياداتهم الحزبيّة التي ما عادت تهتمّ بالمبادئ والثوابت بقدر ما يهمّها حصد الأصوات والتبعية العمياء.

يجب علينا ألّا نبالغ في توقعاتنا من بكركي والكنيسة الرومانيّة، وألّا نبالغ في امكانيّة تأثيرنا على مواقفهما. ماذا بيدنا وغبطة أبينا البطريرك الراعي يستقبل وفودًا من حزب الله، وهذا الحزب يُمعن في اغتصاب أرض الكنيسة ومشاعات الدولة؟ هل بمقدورنا اتّخاذ موقف من غبطته لأنّه دعانا إلى عدم السكوت عن الفاسدين، وصرحه يعجّ بزياراتهم على مدار الساعة؟ وهل نحن أهلٌ بمطالبته بعدم استقبال معطّلي جلسات انتخاب رئيس للجمهورية، وهو الذي ينتقدهم ويُهاجمهم بضراوة منذ أشهر وعلى مدار الأسابيع والأيّام؟

هذه بكركي، وهذه مواقفها المحيّرة أحيانًا، فإمّا أن نتبنّاها ونعتبر أنّ مستويات تفكيرنا دونها معرفة وإدراكًا، وإمّا أن نصمت لأنّنا عاجزون أمام مجدها.
هل تعلمون أنّ بكركي في بداية حرب الـ 1975، والفاتيكان، لم يكونا في صفّ المقاومة المسيحيّة، وأنّ البطريرك خريش سعى بكلّ ثقله لإزاحة الأباتي شربل القسيس عن رئاسة الرهبانية اللبنانيّة وتقليص دوره المقاوم!؟ ولمّا ثابر بعده الأباتي بولس نعمان على النهج النضالي نفسه، طلب منه البطريرك صفير التزام الرهبان أديرتهم، والكفّ عن التدخل في الشؤون الوطنيّة!؟ من يومها غاب الرهبان عن الساحة، وتفرّدت بكركي بالقرار، ولا يسعنا سوى القول “جلّ مَن لا يُخطئ”، وبئس من لا يعي أنّ البطاركة في النهاية بشر، وأنّ الروح القدس ليس حاضرًا على الدوام في الكنيسة المارونيّة لعونهم. وبِئس مَن لا يُدرك أنّ الكنيسة هي مؤسسة زمنية لإدارة شؤون رعاياها، ويجب التعامل معها على هذا الأساس، ومع ذلك لا يزال يستفزّني شعار “شركة ومحبّة”. لم أفهم يومًا مغزى كلمة “شركة” في هذا الشعار!!!

مع بداية الحرب اللبنانيّة، صعد قائد حراس الأرز (أبو أرز) لتهنئة البطريرك خريش بمناسبة جلوسه على كرسي انطاكية وسائر المشرق، فكان الاستقبال فاترًا، لا بل هجوميًّا، مع العلم أنّ القائد والبطريرك هما من البلدة نفسها، عين ابل:
– انت ليش عم تقتّل الفلسطينيي؟ (قال خريش بنرفزة)
– (ساخرًا) أنا لا أقتلهم يا سيّدنا، وإنما هم يهجمون علينا ويموتون.
– بيّك خرب عين إبل وإنت بدّك تخرب لبنان.
ووالد أبو ارز، قيصر صقر، له يعود الفضل عام 1920 بقيادة المقاومة في وجه عصابات أدهم خنجر الشيعية التي فتكت ذبحًا بأهالي عين إبل، وبتأمين معبر آمن للناجين منهم إلى فلسطين!!!
أمام هكذا موقف من البطريرك، ماذا كان بوسع أبو أرز أن يفعل غير ضبط النفس والعودة للانضمام إلى شبابه المقاتلين على الجبهات.

هذه بكركي؛ فيها بطاركة محاربين، وفيها بطاركة قديسين، وبطاركة علماء، وبطاركة زمنيين. تبقى العبرة في زمن أيّ صنف من هؤلاء البطاركة أنت وُلدت وتقبّلت أن تكون مسيحيًّا مارونيًّا.

فهل تتلقّف بكركي امتعاض المسيحيين من “أساقفة مليتا”، وتستوعب أنّ “الشعب المسيحي يعتب على رؤسائه الكنسيين حين يتركونه وحده في الساحة، ويطالبهم أن يقفوا جنبه في الشدائد”، كما يقول الأباتي شربل القسيس؟