الحلقة الرابعة من كتاب الكولونيل شربل بركات الجديد: “لبنان الذي نهوى”/عناوين حلقة اليوم: نتائج حرب 1967 على لبنان/المنظمات الفلسطينية بعد اتفاق القاهرة
نتائج حرب 1967 على لبنان بعد حرب سنة 1967 التي فقدت فيها الدول المحيطة باسرائيل أراضي مهمة ومن ثم بليت بخسائر بالأرواح والعتاد لم تكن سهلة ابدا، تغيرت الخطط والأحلام خاصة لأن لبنان، الذي طلب منذ البدء عدم زجه في حرب وعدم قدرته على الغاء مفاعيل الهدنة، وقد قبل الجميع بذلك، لم يخسر أرضه ولا جنوده أو عتادهم ولم يتأثر اي من مواطنيه من جراء تلك الحرب، سوى عندما دخلت طائرتان سوريتان أجواءه باتجاه حيفا واسقطتا فقامت الطائرات الأسرائيلية باختراق الأجواء اللبنانية كإشارة بأن من يسمح للسوريين بالعبور في أجوائه لضربنا يجب أن ينتظر منا ايضا اختراق أجوائه. منذ تلك النكسة العربية، التي أدت إلى تقديم عبد الناصر استقالته بسبب فشله بالحرب وقامت المظاهرات تطالبه بالرجوع عن الاستقالة، تحولت مشاريع النضال نحو “العمل الفدائي” أي أعمال التخريب التي تقوم بها عناصر قليلة العدد داخل خطوط العدو. وقامت الدول العربية كلها بتأييد هذا المشروع ومن ثم تنظيم العمل به وتحضير العناصر وتدريبها. وهكذا قامت سوريا، التي كان يحكمها حزب البعث منذ انقلاب الثامن من آذار 1963 بالمزايدة على بقية الدول العربية، وخاصة لتغطية فشل قيادة هذا الحزب في حرب 1967 وخسارته للجولان، بانشاء فصيل سمي الصاعقة والحق بالجيش السوري تشكّل من فلسطينيين يسكنون مخيمات في سوريا ويشرف عليهم ضباط من الجيش السوري. وقد اختارت قيادة هذه الفرقة الحدود اللبنانية لتكون مجال عملها لسببين: الأول والمعلن هو أفضلية الأرض اللبنانية لاعمال الكومندوس أو Guerilla أو التخريب، وقرب مراكز السكن اليهودية التي تشكل أهداف هذه المنظمات للحدود اللبنانية، كما هي القرى اللبنانية بالنسبة للحدود الاسرائيلية. أما في الجولان مثلا فقد كانت أقرب القرى التعاونية الاسرائيلية تقع في سهل الحولة بعيدة جدا عن الحدود الجديدة بين سوريا واسرائيل لأن الاسرائيليين لم يكونوا قد بدأوا بعد بانشاء مستعمرات في الجولان المحتل. أما السبب الثاني والغير معلن فكان معاقبة اللبنانيين الذين لم يشاركوا فعليا بالحرب ولا خسروا أراضيهم وبالتالي بقيت الهدنة سارية المفعول، ولذا كان هناك حقدا يزداد على لبنان كونه لم يخسر أراض في تلك الحرب، سيما وأن هناك الكثير من التساؤلات حول خسارة الجولان بدون قتال، والكل لهج بالبلاغ رقم 60 والذي صدر عن وزارة الدفاع السورية يومها بحسب الرئيس أمين الحافظ، والذي اعلن سقوط الجولان وطلب من الجيش السوري الانسحاب قبل بدء الهجوم الاسرائيلي. ولذا كان يجب أن يوجه انتقاد الجماهير وغضبها باتجاه آخر هو لبنان، حيث يسكن كل معارض للنظام في دمشق، والذي كان رفض المشاركة بالحرب ويجب أن يدفع الثمن. من جهة أخرى كان حزب البعث وغيره من الاحزاب الشمولية والتي ترفض الكيان اللبناني لها نظرة عابرة للحدود وتعتبر سقوط لبنان نصرا لها، وبالتالي تحاول هدم هذا الصرح الذي قام على نوع من الديقراطية المختلفة عن نظريات الاحزاب التوتاليتارية تلك. ركزت الخطة السورية في نفس الوقت على زرع أعدادا من الموالين لها تحت شعارات حزب البعث الذي نشرته في المناطق الفقيرة والنائية في لبنان، وذلك من ضمن الخطة الشاملة لاسقاط الحكم كمقدمة للسيطرة عليه وضمه إلى حلم البعث. وكانت المخابرات التي عملت زمن عبد الناصر لا تزال تحافظ على بعض العلاقات مع زعماء وصحف تدّعي المعارضة. وقد استغلت حرية الصحافة، فتم شراء بعض الصحافيين والمؤسسات الاعلامية للترويج لهذه الأهداف، كما استغل الشعور بالفرق في الانماء بين المناطق اللبنانية، وهو أمر طبيعي في كل البلدان ويعود إلى الاختلاف في الامكانيات والأرض وهمة السكان ونوعية الاقتصاد وما إلى هنالك (فليس من يسكن حلب الغنية كمن يسكن تدمر القاحلة مثلا أو حتى الغوطة أو حوران الخصبة)، فعملوا على اذكاء روح التفرقة واعطاء ذلك التنوع لونا من الغبن والاجحاف، بينما إذا ما قسناه على المناطق السورية كما اشرنا أو غيرها من البلدان، وحتى المتطورة والغنية منها، فإننا نجد هكذا اختلاف بمستوى التقدم أو الانتاج بين منطقة وأخرى موجود بكثرة في كل البلدان، وقد نسبوه هنا إلى امتيازات طائفية لاثارة الضغائن وتجنيد العملاء لقلب النظام الذي لم يكن اي من اللبنانيين مقتنع بوجود أفضل منه في الجوار. في 1968 بدأت أفواج من المقاتلين تدخل من سوريا إلى لبنان وتتركز في المخيمات الفلسطينية حيث يجند الشباب ويرسلون للتدريب في سوريا ثم العودة بكامل الأسلحة، وقد تصدى الجيش اللبناني لمجموعات كانت تعبر الحدود السورية اللبنانية واشتبك مع الجيش السوري نفسه ولقنه درسا في أحداث راشيا ما أدى إلى اغلاق الحدود ومنع عبور البضائع باتجاه دول الخليج كالعادة عند وقوع اي مشكل، وقد أصبحت هذه الحدود نقطة ضعف لا بل مجال للابتزاز يستعملها السوريون للضغط على لبنان خاصة وأن اغلاق قناة السويس حول كامل التجارة في البحر المتوسط إلى ميناء بيروت التي اتسعت فيها المؤسسات التجارية والمالية وتعددت البنوك وفتحت فيها فروع لشركات عالمية وبنوك ما زاد من علامات الاستقرار والازدهار. خلال سنوات 1968 و1969 حصلت تعديات عبر الحدود جرّت ردود فعل إسرائيلية عنيفة أحيانا، وقد قامت المنظمات العسكرية الفلسطينية بجعل المخيمات الفلسطينية حول المدن اللبنانية مراكز انطلاق، ليس فقط لأعمال عبر الحدود، وإنما أيضا لأعمال في دول العالم ومطاراته، إذ أعتمدت هذه المنظمات على نوع جديد من الهجمات على مصالح أسرائيلية وغربية حول العالم، إنطلاقا من لبنان. ما أستجلب ايضا ردود عنيفة من قبل اسرائيل كانت عملية تدمير الطائرات المدنية في مطار بيروت أبرزها. وقد أدت هذه الأعمال في النهاية إلى اشتباكات بين المنظمات والجيش اللبناني الذي حاول ضبطها، وكان نتيجة تلك الاشتباكات ما عرف “باتفاق القاهرة” الذي وقّع باشراف عبد الناصر والذي كان اعلانا لسقوط مفاعيل الهدنة بين لبنان وإسرائيل، وهي التي كانت صمدت لعشرين سنة منذ توقيعها سنة 1949 في رودوس. اعتبرت الاحزاب اليسارية والتي تدور بفلكها بأنها انتصرت باجبار الدولة على الرضوخ لضغوط السوريين ومحاولة تنظيم العمل الفلسطيني المسلح، ولكنها لم تدرك بأنها اسقطت أهم ما كان يحمي لبنان عبر الحدود. وقد بدأت المناوشات ومن ثم التجاوزات الفلسطينية لأحكام الاتفاق. وكانت الصحف المأجورة في البدء، ثم الخائفة لاحقا، تفسر كل تجاوز للصلاحيات ولأحكام الاتفاق بأنها من حق الثورة، ما جعل أيام وليالي اللبنانيين في الجنوب تتحول إلى كوابيس تجعل الجنوبيين عرضة لتلقي الهجمات المضادة على كل تحرك فلسطيني. من جهة أخرى بدأت المنظمات التحضير لعملية الاستيلاء على الارض وكانت تتلقى المساعدات المالية من دول الخليج والمساعدات العسكرية من الكتلة الشرقية، بالاضافة إلى بعض ما تقدمه دول عربية أخرى، وصار عرفات هو السيد المطلق اليد في لبنان.
المنظمات الفلسطينية بعد اتفاق القاهرة في ايلول من سنة 1970 قامت المنظمات باختطاف عدد من الطائرات المدنية وهبوطها في منطقة صحراوية في الأردن، ما جعل الملك حسين يفرض الأحكام العرفية فورا، ويهاجم الجيش الأردني العاصمة عمان لتحرير الرهائن الذين نقلوا إليها وانهاء تمرد المنظمات، وقد تمت سيطرة الجيش الأردني بمساعدة رجال القبائل على عمان خلال خمسة عشر يوما أنتهى بعدها وجود المنظمات في جوار عمان، وبقيت بعض الجيوب في مناطق الأحراج في جرش. وبالرغم من محاولة السوريين والعراقيين التدخل وحشد القوات شمال الأردن، وحتى عبور بعضها الحدود في منطقة درعا، إلا أن سرعة انهاء الوضع في عمان أدى إلى التوصل إلى اتفاق سمح باطلاق الرهائن ووقف القتال، وسحب كل المسلحين الفلسطينيين من منطقة عمان. وقد توّج ذلك بمؤتمر قمة عربية عقد في القاهرة وعارضته سوريا والعراق، ولم تحضره الجزائر والمغرب، تمت فيه مصالحة بين ياسر عرفات والملك حسين. وبعد انتهاء هذه القمة توفي الرئيس جمال عبد الناصر بحادث قلب في القاهرة وتسلم نائبه السادات الرئاسة بعده . وقد أدى هروب المقاتلين الفلسطينيين من الأردن إلى سوريا، التي كانت تدّعي حمايتهم ودعمهم، إلى تحويلهم صوب لبنان، ما زاد عدد هؤلاء بشكل غير طبيعي، مع وصولهم بكامل الأعتدة والسلاح وسيطرتهم على المخيمات بشكل مباشر، حاملين نقمة كبيرة على ما يسمونه “الأنظمة العربية”، ومفرغين كل هذا الحقد على لبنان الذي استقبلهم رغما عنه. من هنا بدأت الدولة تخشى الوجود الفلسطيني المسلح والغير منضبط أكثر فأكثر، وقد كان كل عمل عدائي يقوم به هؤلاء يفسر بالغضب الذي يحملونه على ما جرى لهم في “أيلول الأسود” في الأردن. ثم بدأت هذه المنظمات، التي ارتكزت على “اتفاق القاهرة” من جهة وعلى فيض من المقاتلين من جهة ثانية، تقيم مخيمات لاستقبال وتدريب كل التنظيمات الممنوعة في العالم؛ من الجيش الأحمر الياباني إلى بادر ماينهوف الألمانية والكتائب الحمراء الايطالية وفرق التاميل السيريلانكية وبعض منظمات جنوب أميركا والارهابي كارلوس وغيرها من قوى الرفض الدولية، حتى بات لبنان فندقا كبيرا ومركز تدريب لكل خارج على القانون في العالم. أول الخطط التحضيرية للسيطرة على البلد كان بتجهيز المخيمات بشبكة دفاعية متطورة. وإذا بمخيم تل الزعتر يصبح قلعة كبيرة مجهزة بأفضل الوسائل القتالية والخنادق والمضادات الأرضية، ما لا تقدر الجيوش النظامية على اختراقها. ومن ثم مخيمات جسر الباشا وبرج البراجنة وصولا إلى صبرا وشاتيلا، هذا من الجهة الشرقية والجنوبية في منطقة بيروت، أما من الجهة الشمالية للعاصمة فقد بدأ العمل على تجهيز النبعة وتسليح بعض المنظمات التابعة للفلسطينيين فيها، وبالطبع ايضا حي المسلخ والكرنتينا، حيث عملت المنظمات على تجنيد الأكراد وغيرهم من اللبنانيين فيها لتكون جاهزة لاغلاق مداخل بيروت الشمالية. هذا حول العاصمة التي كان يخطط للاستيلاء عليها يوم يقرر عرفات وجماعته القيام بانقلابهم، وهذه البؤر المسلحة كانت كافية لمنع أي دعم للعاصمة قد يأتي من الجبل أو الشمال. من هنا خاف الجيش على عناصره وعلى النظام العام في البلد، ولكنه لم يقم بما يلزم لكبح جماح هذه المنظمات التي أصبح زعيمها يُستقبل في دول العرب حيث تدفع له مبالغ وافرة من المال جعلت موازنة الثورة يومها أكبر من موازنات الدول كونها تتلقى الكثير من الأموال ولا تقوم بأي مشاريع تنموية وتتلقى أغلب اسلحتها من الكتلة الشرقية شبه مجانا. وقد تكون هذه الأموال ساهمت بسيطرة عرفات أكثر فأكثر كونها ساهمت بشكل غير مباشر بتعويم الاقتصاد كما سيجري لاحقا مع الأموال التي كانت تأتي لحزب الله من إيران بالاضافة إلى تجارة الممنوعات. القضية الكبرى بالنسبة للبنان كانت وجود قادة المنظمات الفلسطينية فيه، واعتبار كل المخابرات العالمية بأن التخطيط لكل الهجمات المسلحة الارهابية حول العالم يجري في بيروت، وأن التنفيذ ينطلق منها، ولذا فقد قرر الاسرائيليون وغيرهم من الدول التي اعتبرت بأن الارهاب بدأ يفلت من السيطرة، وصار يؤثر على نظام المواصلات العالمي، بأن رؤوس التخطيط للارهاب العالمي يجب أن تسقط. وكانت عملية ميونخ التي جرت ضد الفريق الرياضي الاسرائيلي في المانيا في 15 أيلول 1972 لا زالت في البال وقد كانت ضربة كبرى لالمانيا التي حاولت أن تنسي العالم بأن آخر مرة جرت فيها الالعاب الاولمبية في ميونخ كانت بحضور هتلر الذي اعتبر صاحب قرار ابادة الشعب اليهودي (الهولوكوست)، وبينما كانت المانيا تسعى لتغيير تلك الصورة أمام العالم إذا بالمنظمات الفلسطينية تلك تعيد الكرة وتقتل أحد عشر رياضيا اسرائيليا بعد المطالبة باطلاق سراح معتقلين، ومن ثم محاولة تخليص الرهائن التي انتهت بمقتلهم جميعا، ومقتل خمسة من المهاجمين وأحد عناصر الشرطة الألمانية، والقاء القبض على ثلاثة أحياء من المهاجمين الذين اطلقوا لاحقا، بعد عملية اختطاف طائرة لوفتهانزا المانية والتهديد بنسفها. في العاشر من نيسان 1973 قامت قوة خاصة من الكومندوس الاسرائيلي بالتسلل إلى بيروت وقتل ثلاثة من قادة المنظمة، وهم كمال عدوان وكمال ناصر وابو يوسف النجار في أحد البيوت في شارع فردان، ويقال بأن ياسر عرفات كان قد غادر الاجتماع المذكور قبل دقائق من العملية. وقد اعتبرت هذه العملية وغيرها من العمليات كسلسلة من الردود الاسرائيلية على عملية ميونخ، ومن هنا كان على لبنان اتخاذ اجراء معين، إما بالسيطرة على الوضع أو تحمل نتائجه، التي ستجر إلى عمليات مضادة يكون لبنان ساحتها، بينما يجري القتال بين المنظمات الفلسطينية والاسرائيليين على أرضه بدون اي استشارة أو قرار لحكومته، ما يعني فقدانه السيادة على أراضيه. في الثاني من ايار 1973، وكرد على تحرك المنظمات والعنف الذي جرى في الشوارع بعد مقتل القادة الفلسطينيين، اعتبر الجيش هذه التصرفات مخالفة لكل الاتفاقات حيث بدا بأن الأمن في البلاد قد فقد تماما، عندها بدأت عملية هجومية من قبل وحدات الجيش على بعض المخيمات الفلسطينية لتطويقها وفرض اتفاق جديد عليها يمكن معه ضبط الأمن ومنع الاشتباكات على أرض لبنان والتحرك خاصة في المدن الكبرى بدون معرفة حكومته. وقد قاتل الفلسطينيون قتالا عنيفا ولكن قوات المغاوير بقيادة النقيب سمير الأشقر تمكنت من السيطرة على المدينة الرياضية، وبالتالي محاصرة مخيمي صبرا وشاتيلا حيث تتمركز القيادات الفلسطينية، وكادت المعركة أن تنتهي. وإذا بالرئيس السوري حافظ الأسد يتصل بالرئيس اللبناني سليمان فرنجية ويهدد بدخول الجيش السوري المعركة، ويقال بأن الرئيس المصري أنور السادات ايضا أعطى تنبيها مشابها، ثم ضغط على الرئيس سلام لتقديم استقالته من رئاسة الحكومة اعتراضا على ما قام به الجيش من تطويق لمراكز الفلسطينيين، فسمي الرئيس الحافظ لتشكيل حكومة ولم ينجح بذلك ما أطال فترة الانتظار وافقد الدولة زمام المبادرة. هذه العملية التي كادت أن تنهي سيطرة المنظمات على البلد واعادة تنظيم تواجدها فيه اعتبرت محاولة فاشلة، فبدل أن ينجح الجيش ببسط سلطته على كامل التراب، بقيت البؤر المسلحة حرة لا بل أخذت معنويات أكبر وأعتبرت بأن لا أحد قادر على منعها من التصرف بالبلد كما يحلو لها. أما على الصعيد الداخلي فقد اعتبر كمال جنبلاط بأن الدولة غير قادرة على مسك الأمور بيدها ولذا فقد انحاز كليا لجهة عرفات لكي يحفظ خط الرجعة، وكان الامام الصدر ايضا ينتظر ليرى ما ستؤول إليه الأحداث، ولما وجد بأن الدولة غير قادرة على بسط سيادتها على البلاد، قرر، هو الآخر، أن يبدأ ببناء قدرات ذاتية للشيعة. وصارت مخيمات التدريب لحركة أمل علنية يزايد فيها على اليساريين بما يسمونه أولئك “الوطنية” ويساهم جماعة فتح أحيانا بالتجهيز والتدريب. قلنا بأن الجانب المهم من ثروة لبنان، التي زادت بعد اغلاق قناة السويس بالكامل سنة 1967، كانت تطوير شركات الترانزيت وزيادة المداخيل للخزينة والشاحنات التي تنقل البضائع برا، وكانت عائدات النفط التي بدأت مع تمديد أنبوب النفط من كركوك إلى حيفا وطرابلس، حيث، بعد قيام دولة اسرائيل، اضطرت الشركة إلى توقيف خط حيفا والاكتفاء بفرع طرابلس. وقد كانت شركة أي بي سي من أهم الشركات العاملة في لبنان، وبفضلها اصبحت طرابلس عاصمة لبنان الشمالية يسكنها الكثير من موظفي الشركة وفيها كل المستودعات وخزانات النفط بالاضافة إلى مصفاة تؤمن الوقود للسوق اللبناني وحوالي أربعة آلاف موظف يقبضون رواتب عالية نسبيا. وقد اقامت الشركة مطار القليعات ليكون مهبطا للطائرات التي تنقل قطع الغيار وغيرها وبنت الكثير من المنشآت حول طرابلس وعكار لاقامة الموظفين والمستودعات والمصانع التابعة لها وحتى الملاعب، كما ساهمت بتجهيز الميناء ليصبح واحد من أهم موانئ البترول على ساحل المتوسط والتي تستقبل ناقلات كبيرة نسبيا. وكانت تدفع للبنان مقابل نقل هذا النفط ما يسمى عائدات الترنزيت التي تدخل إلى الخزينة. من جهة أخرى كانت شركة النفط السعوي أرامكو قد خططت لاقامة أنبوب لنقل البترول من قيسومة في منطقة الظهران شرق السعودية إلى مدينة حيفا في فلسطين وبدأ العمل فيه سنة 1947 ولكن خروج البريطانيين من فلسطين ونشؤ دولة اسرائيل جعل المشروع يتحول باتجاه لبنان حيث أصبح مصبه في الزهراني جنوب صيدا وقد افتتح سنة 1950 حيث كانت هذه الشركة الأميركية – السعودية (أرامكو) كما الاي بي سي تقوم بتوظيف عددا كبيرا من الموظفين اللبنانيين بالاضافة إلى نقل النفط الخام عبر الناقلات البحرية وتكرير قسم منه لصالح السوق المحلي. بالطبع كانت هذه العملية مربحة للبنان في عدد الموظفين المحليين وفي تأمين السوق المحلي بالمشتقات النفطية وفي ما يدفع لصندوق الدولة كعائدات ترانزيت. كانت الحكومة العراقية قامت بتأميم شركة النفط العراقية في الأول من حزيران 1972 وبعد فشل محاولة الجيش اللبناني في أيار من سنة 1973 ضبط التجاوزات الفلسطينية والسيطرة على المخيمات. وحيث بدأ الخوف من زيادة التوترات، قررت شركة نفط العراق تسليم مصفاة طرابلس ومكاتبها للدولة اللبنانية وتسريح عمالها وموظفيها واعطاء الدولة كل الأبنية التابعة لها. وكانت هذه ضربة كبيرة لمدينة طرابلس. وقد بقيت مصفاة الزهراني تعمل وتستقبل النفط الخام حتى 1976 وبعد اشتداد المعارك في لبنان قررت ارامكو وقف ضخ النفط عبر خط الأنابيب البري ولكن المصفاة بقيت تعمل كخزانات لتأمين السوق المحلي وبالطبع استغني عن أعداد الموظفين شيئا فشيئا. في الخامس والعشرين من شهر تشرين الأول سنة 1973 قامت مصر بالهجوم على الضفة الشرقية من قناة السويس وتحريرها من الاسرائيليين كما قامت سوريا بهجوم في نفس الوقت في الجولان تمكنت خلاله من التقدم باتجاه القنيطرة.
الصور في أسفل/العماد اميل البستاني/ياسر عرفات مع عناطر من ميليشياته ومع كمال جنبلاط