الفهم والتنوير الواقع المرير اليوم هو أن من يدعي التقدم، وهو من الماضي السحيق، يتصدى لكل فكر منفتح تحت اسم القومية والأممية،
الكولونيل شربل بركات/10 حزيران/2021
عندما نتكلم على مواضيع عامة وشاملة تتعدى الأوضاع المحلية وتسعى إلى تقريب المفاهيم في مختلف التجمعات البشرية يعتقد بعض محدودي الرؤية بأننا نعتدي عليهم وعلى طروحاتهم وتقوقعهم في أوكار بعيدة كل البعد عن الانفتاح البشري. ويعتقد بعض من وسع تطلعاته خارج الحدود السياسية لبلدان الشرق الأوسط، التي نعترف بأن ما يسمونه بالاستعمار أي فرنسا وانكلترا هو من رسمه، بأنه منفتح وعنده تطلعات انسانية واسعة وحلول لكل المشاكل تشمل ما قد يعاني منه الناس.
ولكننا ننصدم بردات فعل لا يمكن تسميتها إلا بالمحدودية لا تفهم أي طرح خارج معتقداتها السياسية البالية والتي أعتمدها جهابزتهم منذ ما يقرب على المئة عام. من هنا نريد أن نبحث في الفكر وتطوره بحسب التقدم التكنولوجي من جهة، والسياسي الاجتماعي من جهة ثانية، والاقتصادي ومستلزماته بحسب العصر، وأخيرا مشاكل الناس ومتطلباتها، التي تؤثر فيها الحاجات والتداخل المرتكز على المواصلات، بسهولتها وصعوبتها وتنوعها، وبالطبع الأحداث، التي تشكل جزءً مهما من ردات الفعل والحاجة للبحث واطلاق مشاريع وطروحات جديدة ومتطورة تأخذ كل هذه بالحسبان.
فما كان يصلح قبل اكتشاف طريق الهند لا يصلح لما بعده، ولا ما قبل اكتشاف أميركا لما بعده، وبالتالي ما كان يصلح قبل الثورة الصناعية الكبرى ليس كما بعدها، وما كان مهما قبل اكتشاف النفط لم يعد كذلك بعده، لنصل إلى انفلاش الدول الأوروبية وزيادة الاسكان فيما سمي بالمستعمرات، ونشوء الامبراطوريات الحديثة حتى الحرب العالمية الأولى، حيث تغيرت الخرائط والقوى ومن ثم حالة الدول بين الحربين العالميتين، وظهور الحركة الشيوعية وصولا إلى الأزمات المالية التي أدت إلى تبلور الطروحات النازية واعادة تشكيل القوى العالمية ما بعد الحرب العالمية الثانية. ومن ثم تجربة القوانين الدولية ومؤسسة الأمم المتحدة والحرب الباردة. وخلال هذه برز التطور التقني وتداخل العالم ومصالحه وتنقلاته واختصار المسافات ووسائل الاتصال المتاحة للجميع، والتي أوصلتنا إلى مفهوم القرية العالمية بكل تناغمها وتداخلها وذلك الجهاز الصغير الذي لم تعد تستغني عنه ويوصلك بالعالم لحظة بلحظة.
من هنا لا يمكن لنظريات قامت قبل اكتشاف أميركا أن تستوعب ما حصل بعده، ولا ما بني عليه قبل الثورة الصناعية يصلح لفترة ما بعدها، كما ذكرنا أعلاه، وحتى النفط وما سيستبدله غدا، وبالتالي لا يمكن لنظريات بنيت على القومية ومصالحها في الربع الأول من القرن العشرين أن تعيش في عالم اليوم (القرن الواحد والعشرين) المتداخل في كل تفاصيل الناس اليومية.
ونحن إذ نحترم الفكر البشري منذ ما وصلنا من تسجيلات؛ من حضارات ما بين النهرين إلى مصر ووادي الغانج وحتى الصين وما بعدها، وحضارات المتوسط الفينيقية واليونانية والرومانية، وما ارتكزت عليه المسيحية ومن ثم الاسلام من تعاليم دينية ساهمت أيضا في رسم مفاهيم ومسارات مرحلة مهمة، نجد بأن الفكر الانساني الحديث يجب أن يأخذ بتجارب الشعوب ولا ينحصر بتطلعات الأجيال القديمة، كون الانسانية تسير إلى الأمام، وعيوننا، منذ الولادة، باتجاه واحد لا يمكن تجاهله، حتى ولو حاولنا ادارة رؤوسنا صوب كل النواحي.
كل هذا الشرح لكي نصل إلى موضوع تعليق من أحد الذين كنت أعتقد بأنهم تقدميون بفكرهم، وإذا بي أكتشف بأنه صحيح كان تقدميا زمن الحرب العالمية الثانية وثورة هتلر الصناعية والتنظيمية وقيادته، بواسطة فن الخطابة واللعب على المشاعر، لشعوب مبدعة أعطى ما تبقى منها البشرية جمعاء الكثير من الاختراعات والدقة في البحث، ولكنها للأسف أفقدتها الملايين ودمرت قارات وبلدان وأنبتت الكثير من الأحقاد التي لا نزال نعاني منها إلى يومنا هذا، وهو اليوم يعتبر متأخرا عن ركب الحضارة فقد سبقه الزمن وتجاوزته الشعوب والتجارب والتطورات.
فإذا كان الزعيم انطون سعادة مثلا، قد نقل بكل أمانة الفكر النازي وطبقه على بلادنا، لنصبح بين ليلة وضحاها سوريين نتساوى في الحقوق والواجبات ونتبادل خيرات ما بين النهرين مع شح البادية الشامية وفقرها، ونتميز عن عرب صحراء الجزيرة وأتراك ما بعد جبال ثوروس وجيراننا الفرس في الشرق والمصريين في الغرب، في هذا الكيان الجغرافي الذي يشبه إلى حد ما البرازيل، التي ولد فيها الزعيم، حيث تتعدد الأقاليم الطبيعية صحيح، ولكن الشعب بمجمله جديدا على تلك البلاد، ولا يشكل سكانها الأصليين نسبة كبيرة، ما يسمح بقبولهم الانتساب إلى وطن واحد وقومية واحدة، فإن الوضع في بلادنا يختلف.
وفي تقليد سعادة للقومية الألمانية فرق أيضا، لأن هتلر بحث في اصل العنصر الجرماني الغالب وقد جمعه التاريخ الموحد والمنطقة المتجانسة ولو فرقه وجود البروتستانت والكاثوليك ما يمكن تجاوزه، وبعض الحواجز الجغرافية للدول، التي قام بتفكيكها لاحقا مثل النمسا والسوديت، ولكن الأمبراطورية الألمانية كانت نشأت وخاضت تجارب وحروب قبله. بينما في سوريا التي يريد تشبيهها بها فالتاريخ يختلف كليا لأن الصراعات كانت كبيرة ولو أن فترة سيطرة العثمانيين عليها ومن قبلهم المماليك قد تسهم في اعطائها شكل الوحدة، ولكن هذه الوحدة كانت بالقوة وأبقت على تمايز المناطق وطرق العيش، ولم يحققها سوى الخضوع للمحتل ودفع الضرائب. أما عندما تريدها مستقلة فلن يبقى فيها أي نوع من الاستقرار إذا لم يكن لكل من مكوناتها الحق بادارتها. وهذا ما حاول الفرنسيون والأنكليز تجربته عندما أعطو لكل مجموعة متجانسة جغرافيا واداريا الحق بكيان مستقل. أكيد بأن الزعيم سيرد على هذا القول كونه عايش تلك الفترة، ولكن المهم ألا يكون رده مبني على خصومة بين من يحب من الألمان ومن يبغض من الحلفاء، وهذا طبيعي.
لا نريد الخوض كثيرا بتفاصيل الفكر القومي كونه لم يعد له تأثير في الواقع الحالي، ولو أنه بقي في بعض الأذهان نوعا من النوستلجيا أو الحلم الجميل، كون الأحداث وتطوراتها تجاوزت هذه الفكرة، حتى ولو بقي من يسمي نفسه تابعا لها، كونها لا تشبه البعث الذي سقط، إن في سوريا أو في العراق، ولا العروبة التي تقلصت إلى بلاد الخليج، ولا الخمينية، الظاهرة الجديدة اليوم، التي تحاول التوسع بنشر الحقد والمليشيات المدمرة، أو العراق الذي يجرّب أن يعتنق الفدرالية، وبالطبع لا تشبه حليفه في سوريا، الأسد العلوي، الذي هجّر ملايين السوريين ويحاول استقدام الأفغان والباكستانيين لاسكانهم وتغيير الديمغرافيا فيها، ولم يبق سوى لبنان، الذي يكرهه القوميون، ولكنهم لا يستغنون عنه، وقد تحالفوا مع كل مبغضيه، وحتى ذلك التابع الفارسي الذي أفقر البلد وهدم المؤسسات ليقدر على حكمه، ولن ينجح.
الواقع المرير اليوم هو أن من يدعي التقدم، وهو من الماضي السحيق، يتصدى لكل فكر منفتح تحت اسم القومية والأممية، وهو يفضّل أن يحتمي بعباءة الفكر العائد من القرون الحجرية على أن يتعاون مع من يحاول أن يبني وطنا قادرا على العيش، يتنافس بالنبوغ والابداع مع دول العالم المتطورة، بينما ينام التقدميون في جحور الماضي، يتقاتلون على فلسطين، ويتباهون بنشر الأحقاد، ويتبارزون بسيوف الحسين ومقلاع داوود، ويناصرون جوليات الذي دمر شعبه ممالك كنعان الوادعة، بعد أن اسكنهم رعمسيس في غزة ليشكلوا حرس حدود ويمنعوا وصول البدو الموسمي إلى حدود مصر.
فيا صديقي العزيز عندما تريد أن تبحث في مصير لبنان ومستقبله يجب عليك أن تعي بأن العالم يسير والأفكار تتغير والشعوب تتبدل، والغاية ليست في تحقيق فكرة ما، بل في اكتساب خبرة تسهم في خروجنا من مأزق وتدخلنا إلى ساحة جديدة من التنافس على الخير، فالخير يبقى هدف الانسانية والتقدم شعارها، فإياك أن تتحجر في رواسب الماضي فلا تعود بقادر على الولوج إلى حركة المستقبل وآلياتها.