وقع اللبنانيون في شباك أوهام حاكتها جمهورية الطائف على مدى ثلاثة عقود في حين ان الحقيقة تقع في دائرة تفكيك ما تبقى من الكيان الوطني والدولتي لجمهورية تحتضر منذ ٥٦ عاما، على وقع أزمات سياسية وأمنية متوالية أفرغت مؤسساتها من مدلولاتها وحولتها الى هيكليات مجوفة وأسمية. إشتباكات الضاحية كسواها من الاشتباكات الشائعة في الاوساط الشيعية تعيدنا الى الواقع الذي احالتنا إليه سياسة النفوذ الشيعية، تكملة لما تأسس مع سياسات التيارات القومية العربية والتحالف الفلسطيني-اليساري من تفكيك منهجي للحيثيات الوطنية والدولتية للجمهورية اللبنانية، وتحويلها الى رقعة نزاعية مفتوحة تتداخل فيها الصراعات العشائرية وسياسات النفوذ بابعادها الداخلية والاقليمية، وصولا الى حرب الكل ضد الكل التي تأتي نتيجة لهذه المناخات النهيلية المديدة، وما استحثته من ديناميكيات تذررية لم تترك لهذه البلاد أي كيان معنوي يؤهلها لإعادة تكوين ذاتها على أسس بنيوية متماسكة.
ان المناخات التي تحكم الديناميكيات السياسية في هذه الجمهورية الاسمية المتداعية، على وقع الساعات والايام، هي عدمية بإمتياز تحكمها نزاعات نفسية وسياسية متداخلة تسترجع وقائع التآكل المتعدد الجوانب (المعنوي والنفسي والاجتماعي والسياسي والمالي والاقتصادي…) لمنطقة فشلت في الدخول الى منطق الحداثة وعاشت على تخومها على وقع نزاعات وانفصامات وعنف معمم. ان مجرد استرجاع الأحداث المتوالية على أرضنا كفيل بانبائنا عن تبدد أي شكل من أشكال العقود والتفاهمات السياسية والاجتماعية الناظمة، لحساب ديناميكيات همجية تترنح في توصيفاتها بين النزاعات البقائية بين قوارض تحكمها مقولات “البقاء للأقوى”، و”العنف الثوري” والاسلام السياسي بتصريفاته الشمولية والارهابية، والمخاوف والانكفاءات الأقلوية، وانهيار مفهوم الدولة بحدها الأدنى، لحساب ترهات ايديولوجية مضللة تغلف واقع الحروب الاهلية القائمة والآيلة. هذه الخلاصات تتبلور في واقعنا انطلاقا من الوقائع التالية:
أ-سياسات ” تناسل الازمات” وواقع “الدولة المستحيلة”، لقد أثبت حكم الطائف أن الجمهورية اللبنانية هي وهم قانوني لا وجود له الا على خط تقاطع سياسات النفوذ الداخلية والخارجية، وعلى وقع صراعاتها المتحركة، وضمن حدود تفاهماتها المتقلبة، وديناميكياتها الانقلابية، وتسويات اوليغارشياتها على مستوى تقاسم المقاطعات السلطوية، وتوزع الريوع والحيازات والزبائنيات، والتموضعات النزاعية التي تمليها المحاور الاقليمية الناظمة للحركة السياسية في الدواخل اللبنانية.
لقد نجحت الفاشيات الشيعية في صياغة سياساتها الانقلابية على قاعدة تحالفات انتهازية مع مختلف اجنحة الاوليغارشيات الحاكمة، لجهة إدارة سياسة توزيع المسالب على تنوع موضوعاتها (المالية والسياسية، Spoils System)، عند استعادتها للدور التحكيمي الذي لعبه النظام السوري، والنهج المالي والاقتصادي الذي تأسس مع رفيق الحريري وربطه بسياسة القضم الشيعية، لجهة توسيع دائرة نهب الاموال العامة والخاصة، وتحصين السياسة الانقلابية المبنية على خط التواصل مع سياسة النفوذ الايرانية التي يلعب فيها حزب الله دورا مركزيا، سواء لجهة دوره العسكري، أم السياسي، أم لجهة حماية نظام الملالي والاوليغارشية الحاكمة في إيران وسياسة النفوذ الشيعية التي يقودها في المنطقة.
إن النظام الپوليارشي الذي تأسس دستوريا وسياسيا مع جمهورية الطائف قد جعل من لبنان متغيرا تابعا لسياسات النفوذ الاقليمية من خلال آليات التعطيل على مستوى السلطة الاجرائية، والتداخل بين السلطات الاجرائية والتشريعية والقضائية على قاعدة الالغاء الفعلي لمبدأ فصل السلطات (Conflits de juridiction)، والاحتكام لسياسات النفوذ الخارجية والداخلية بديلا عن الآليات الدستورية والأحكام السيادية. إن التحالف بين التيار الوطني وحزب الله ما هو الا توسيع لتطبيقات ما جرى على مستوى الاتفاق الرباعي وتفاهم بعبدا وطاولات الحوار، والتصدي العنيف لثورتي الأرز في ال ٢٠٠٥ و١٥ آذار ٢٠١٩، وتسليم مختلف اطراف الاوليغارشيات بمقولة “الشعب، الجيش والمقاومة”، ومحاولة ادخال البطريركية المارونية ضمن لعبة التغطية في مرحلتي صفير والراعي (كنت شاهدا لأن وساطتي طلبت زمن البطريرك صفير في ٢٠٠٥ غداة اغتيال الحريري)، والتسويات والمقايضات المصلحية والامنية التي تمت مع كل من اقطاب الاوليغارشيات افراديا، او من خلال سياسات الاغتيال أو الترهيب كما جرى مع اغتيالات فريق ١٤ آذار المتلاحقة، وهجوم ٧ اب ٢٠٠٨.
ب-سقوط المنظومة الحاكمة لجهة شرعيتها الادائية، وبفعل المفارقات الدستورية والممارسات السياسية التي لازمت حكم الطائف، وتشاركها على مستوى سياسات النهب المنهجي للاموال العامة والخاصة، وتحويل موارد الدولة واداراتها الى روافد لتحفيز السياسات الريعية والحيازات والزبائنيات، والمقايضات السيادية مع سياسات النفوذ العربية والاسلامية المتنازعة (سوريا، العراق، السعودية، قطر، ايران، تركيا، والحركات الارهابية الاسلاموية… ).
إن الشعار الذي رفعته الحراكات المدنية “كلن يعني كلن ” لم يكن تعميمًا خاطئا او تجنيًا عليهم او على بعضهم، بل كان توصيفا واقعيا وصريحا لما انطوت عليه هذه الممارسات من مكابرة ودوس مبرح لكل المعايير الاخلاقية والقانونية والادائية التي يجب ان تحكم الممارسات السياسية في النظام الديموقراطي الذي ارتضيناه لانفسنا، استثناءً وحيدا في هذه المنطقة من العالم. تقع محاولات البري والحريري وجنبلاط والميقاتي والصفدي وحزب الله استثناء انفسهم من هذا التوصيف لطبيعة اداء الاوليغارشيات الشيعية والسنية والدرزية ومواليها داخل دوائرها المذهبية وخارجها، ضمن دائرة الانكار الإرادي وسوء النية، وواقع الانقطاع النفسي والفعلي وانعدام المحاسبة المتولدين عن ثلاثة عقود من الاستباحات المعنوية والسياسية والمالية، وما آلت اليه من انعدام للحس الأخلاقي الأولي.
اما السياسيون في الاوساط المسيحية “فقد استعادوا حيثما تركوا”، كما قالها لي البطريرك صفير غداة عودتهم للحياة السياسية، لجهة صراعات النفوذ العبثية، والالتحاق بسياسات النفوذ الشيعية والسنية على مقلبيها الداخلي والخارجي، وعلى قاعدة التسليم بمقاطعة النفوذ الجنبلاطية في منطقة الشوف الاوسع، فدخل ميشال عون في التسوية مع حزب الله على أساس مقايضات مالية وسياسية مفخخة، وسمير جعجع في معادلات النفوذ المتقاطعة من الباب السعودي تأمينا للريوع السياسية التي افتقدها بفعل المحاصصات القائمة.
أما بقية الاقطاب السياسيين الظرفيين (الياس الهراوي،اميل لحود، ميشال سليمان واصناؤهم على المستوى النيابي أو السياسي)، فلا شأن لهم الا بقدر ما رسمت لهم من الادوار من قبل النظام السوري ومراكز النفوذ السنية والشيعية والدرزية، في حين أن الكتائب وعائلة الجميل احيلوا الى سياسات التبعية السورية ( جورج سعاده، منير الحاج، كريم بقرادوني ١٩٩٠-٢٠٠٥)، والتفتيش عن دور عبر احياء ماض مندثر، والبحث عن تحالفات لم تتوافر بالقدر المطلوب، او من خلال وهامات وحراكات غير متماسكة، والتفتيش الحثيث عن مصادر للتمويل (أمين وسامي الجميل، ٢٠٠٥-٢٠٢١)، تليها حركة اقطاع سياسي ضيق النطاق وهامشي ومافيوي الطابع ومرتهن لسياسات النفوذ السورية والايرانية (سليمان فرنجية)، وحزب الاحرار الذي احيل الى الهامشية السياسية طوال الثلاثين سنة الماضية.
اما الاحزاب القومية العربية والسورية فقد احيلت الى الموت لصالح الاسلام السياسي والحركات الارهابية وسياسات النفوذ الاسلامية (الايرانية والتركية والسعودية والقطرية…) الملازمة له مداورة او مباشرة، بفعل انفجار النظام الدولتي العربي و اندثار روايته الايديولوجية وتبدد مراكز نفوذه، والتحاق الحزب القومي السوري بمنظومات انقلابية جديدة من خلال دوره المتجدد في عمليات الاغتيال السياسي واستهداف السلم الاهلي في البلاد.
ختاما نصل الى وسائل الاعلام على تنوع منابرها المكتوبة والمسموعة والمرئية، وعلى خط التقاطع بينها في الزمن الرقمي. على الرغم من التطورات التقنية والعلمية في المجالات الاعلامية، ودخول وسائل التواصل الاجتماعي الى لب العمل الاعلامي ومنافسته المؤسسات الاعلامية لناحية مصادر المعلومات ومقاربتها النقدية، بقي الاعلام والاعلاميون في لبنان أداة تستعملها مراكز النفوذ السياسية-المالية من أجل تسويق وتمويه ارائها ومصالحها.
ج-الأزمات المالية والايكولوجية على خط التقاطع بين المصالح الاوليغارشية وسياسات النفوذ، لا امكانية لفهم الازمات الحالية وتداخلاتها ان لم نعي أن جمهورية الطائف بنيت على أساس موت الحيثيات السيادية وتحول لبنان الى امتداد استراتيجي تستعمله مراكز قوى اقليمية وداخلية من أجل ترفيد سياساتها ونفوذها. لقد أتي برفيق الحريري رئيسا للوازرة في العام ١٩٩٢ من أجل قيادة مرحلة اعمار البلاد بعد الحرب المديدة (١٩٧٥-١٩٩٠) على قاعدة تفاهمات ومحاصصات مالية وسلطوية تمت بين السعودية وسوريا، ووضع اليد على القرار المالي والاعماري والمدني من قبل المقاول-السياسي ذي التفويضات المتقاطعة.
لقد وضعت سياسة الديون الرديئة وأتي بالصناديق الانتهازية من اجل القيام بسياسة اعمارية غير متماسكة في قطاعاتها وأولوياتها، وخارجا عن اي سياق تداولي وتقريري ديموقراطي مع المجتمع المدني والمعنيين في مختلف القطاعات والمناطق. لم يشرح أحد لنا لما اختيرت سياسة الاستدانة عبر الاكتتابات بسندات الخزينة على حساب سياسات القروض الميسرة التي تعطيها المؤسسات الدولية والدول، مدغمة بسياسات شرطية تحول دون سرقة واساءة التصرف بالاموال العامة عبر الاختلاسات او عبر المشاريع المشبوهة في أولويتها ومقاولتها، أو على حساب تثبيت الاستقرار السياسي كمدخل أساسي من أجل تحفيز الاستثمارات وتنويع قطاعاتها ومصادرها.
لقد عمدت سياسات النفوذ التي تلت اغتيال رفيق الحريري الى مصادرة القرار المالي والاقتصادي من قبل ناد سياسي-مالي مغلق، قوامه اعضاء الاوليغارشيات السياسية-المالية وشركائهم ومرجعياتهم الاقليمية والدولية، من أجل متابعة نهب الاموال العامة والخاصة من خلال سياسة اقراض الدولة بفوائد ريعية مضخمة (١٢-٤٢ / ١٠٠) ، بدل من توظيفها في سياسات انمائية قائمة على التداخل بين الاقتصاد المعرفي وتطبيقاته الخدماتية والزراعية والصناعية والايكولوجية، وتطوير تقسيم القطاعات التربوية والبحثية والمهنية.
د-السياسة الانقلابية ومحاور الصراع الاقليمي، ان التعايش مع السياسات الانقلابية التي خبرها لبنان مع القوميين السوريين (١٩٤٩ ، ١٩٦١)، والتيار الناصري(١٩٥٨)، واليساري-الفلسطيني( ١٩٦٥-١٩٨٢)، ووضع اليد السورية من خلال سياسات السيادة المحدودة والمعطلة والاستنسابية (١٩٨٢-٢٠٠٥)، وسياسة النفوذ الايرانية (٢٠٠٥-٢٠٢١) قد اصبح مستحيلا خاصة مع الاعلانات الصادرة عن حزب الله، والمقولات السائدة في الاوساط الشيعية لجهة شرعية الكيان الوطني اللبناني، والحيثية الدستورية والفعلية للدولة اللبنانية، وحقائق الاجتماع السياسي اللبناني العائدة لبنيته التعددية وخياراته الليبرالية والديموقراطية والميثاقية.
ان سياسة الحرب الشاملة بشقيها الداخلي (تدمير الشق الشرقي من العاصمة من خلال عملية المرفأ الارهابية وما تلاها من اغتيالات وتلاعب بمسرح الجريمة، والتصرف بمجريات التحقيق والحؤول دون الاشراف والمشاركة الدوليين والابقاء على الغموض المطبق بعد انقضاء ٦ اشهر عليها)، والخارجي (التوتر الاستنسابي على الحدود اللبنانية-الاسرائلية، المداخلات في سوريا والعراق والاراضي الفلسطينية واليمن والبحرين)، ووضعية الاستثناء السيادي التي يمحضها حزب الله لذاته على كل المستويات الداخلية والخارجية ( المنعزلات، العمل الاقتصادي والمالي المنحرف، المناهج الحياتية والتربوية، الأمن الذاتي، التصرفات بالمؤسسات العدلية والأمنية، خرق المؤسسات الأمنية والعسكرية من خلال تثبيت وتوزع مواقع النفوذ في داخلها، وعلى مستوى السياسات الدفاعية والخارجية، واستباحة الحقوق العقارية غير الشيعية …)، واعتماد الارهاب من خلال الاغتيالات المتنقلة، وتدمير مفهوم وحصانات دولة القانون المعنوية والمدنية والتشريعات الوضعية الملازمة لها. ان واقع الاستثناءات السيادية ثابت في لبنان ويبدو أنه الاثبت في بلد لم يبق من سماته السيادية الا الاسم.
هذا الواقع المتنامي سوف يجعل من المخيمات الفلسطينية مجددا، ومن ترسخ التهجير من سوريا، بعد انقضاء عشر سنوات على بدايته، منطلقا لنزاعات ومداخلات سوف تقضي على ما تبقى من مناعة وتماسك وطنيين في بلد متهالك ينهار يوما بعد يوم. ان عمل التدمير المنهجي لمفهوم وواقع دولة القانون والسمات السيادية الملازمة لها، هو الطريق المباشر نحو تفكيك ما تبقى من أوصال لدولة متداعية، وما سوف تستحثه من سياسات نفوذ إسلامية مضادة (تركية وجهادية وسعودية…) ونزاعات بديلة بين سياسات النفوذ الاقليمية.
ما الحل اذن اذا ما اردنا الخروج عن واقع التعطيل المميت الذي تختصره الجائحة التي اتت لتدغم هذه الوقائع وتجعل منها كابوسا نرزح تحت تردداته منذ ١٥ شهرًا، وتحالف الافاعي القائم لم ير ضرورة لكسر هذه الحلقات الجهنمية التي دفع بها على عقود من الاستباحات والنهب والارهاب والتسيب وانعدام المحاسبة وغياب الحس الاخلاقي. هذه الاوليغارشيات التي نهبت ما يقارب ال ٥٠٠ مليار دولار اميركي، وتركت بلدا منهارا بفعل مقاصد واساءات ارادية ومصالح فردية وجماعية غير آبهة لحقوق الآخرين، افرادا كانوا ام جماعات، لا امكانية للرهان عليها نظرا لعدم توافر مرتكزات قيمية مشتركة تجعل من الحوار العقلاني والمنزه سبيلا لحلول سياسية عامة ذات طابع ملح وخلاصي، نحن شعب يغرق. يجب أن يأتي تدويل الازمة تكملة لتدويل الاوضاع الامنية والاستراتيجية في جنوب لبنان، ومنطلقا لحوار حر يخرجنا من الاقفالات الاوليغارشية، يسمح لنا التداول في الحيثيات القيمية والسياسية من أجل وضع هندسة دستورية سوية وعملية تخرجنا من الواقع النزاعي المسدود، وتدخلنا في ديناميكية سلمية واصلاحية تراكمية.
على هذه النقلة النوعية في ادارة هذه النزاعات المتكاثفة ان تتلازم مع تدويل الازمات المالية لجهة التحقيق الجنائي المالي وتفعيل مقرر ماجنتسكي باتجاه اصدار مقرر مماثل لمقرر قيصر يجيز تخريج سياسة عقابية تقضي تجميد الارصدة العائدة للاوليغارشيات ومصادرتها، واعادة هيكلة النظام المصرفي بناء على مقررات بازل الثلاث. ان الفشل في الدخول في عملية التفكيك التدرجي للنزاعات هو مدخل لديناميكيات تراجعية تحيلنا الى مستنقع النزاعات الراكدة ومفاعيلها التدميرية.