وهج إيران يخفت في العواصم التي سبق لطهران أن أعلنت سيطرتها عليها.
تعمل إيران على الإيحاء بأنها ممسكة بزمام الأمور فيما أوراقها تتساقط واحدة تلو الأخرى.
يتصرف العالم وفق روحية الصبر والتمهل، تاركا للضغوط المتوالية أن تُحدث فرقا نوعيا في قواعد مقاربة “الحالة” الإيرانية.
وفي هذا أن العالم متحرك ذو دينامية شديدة الحيوية، فيما طهران تدور حول نفسها، تكرر عناوينها، وسط ارتباك واضح في التصدي للتطورات التي اجتاحت ميادين نفوذها الأساسية في المنطقة.
تسعى طهران لمداهمة العالم بضجيج يُراد منه إخافة العواصم من احتمال عبور الجمهورية الإسلامية نحو العصر النووي.
يخرج رئيس الجمهورية الإيرانية حسن روحاني بالإعلان عن وجبة جديدة تُسقط طهران من خلالها بنودا جديدة من الاتفاق النووي.
يعلن الرجل أن أنشطة مفاعل فوردو لم تعد مقتصرة على أعمال البحث وفق اتفاق فيينا، وأن أجهزة الطرد التي كان ممنوع عليها تخصيب اليورانيوم، ستتحول إلى آلات ترفع من قدرة إيران على التخصيب بمعدلات لا تسمح بها الصفقة التي سهر الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما طويلا على نسجها وإبرامها.
تسجل الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن إيران بدأت تخصيب اليورانيوم بنسب تتجاوز المسموح به (3.67 بالمئة)، وأن أجهزتها تسعى لتجاوز عتبة الـ 5 بالمئة.
في التفاصيل التقنية أن إيران تنتج يورانيوم مخصب وتراكم كمياته بأحجام تتجاوز أيضا ما تتيحه اتفاقية عام 2015 (300 كيلوغرام من المخزونات).
يبتسم روحاني ومن ورائه وزير خارجيته محمد جواد ظريف وخلفهما مرشد “الثورة” علي خامنئي. تنتشي طهران بـ “جرأتها” لعل في ذلك من يقنع الرأي العام في إيران، كما ذلك لدى ميادين محور الممانعة، بأن نظام الولي الفقيه يمضي قدما في مقارعة الاستكبار وتقويض جبروته.
بيد أن نظام إيران يعرف أن العالم يعرف أنه ممنوع عليها اختراق خطوط حمر، وأن ما فرضته الاتفاقية بين إيران ومجموعة الـ 5+1 يبقى بعيدا عن تلك الخطوط.
لن يخاف العالم من أعراض مقلقة تصدر من إيران إلا إذا ذهبت إيران باتجاه تخصيب عال المستوى وجب أن يصل إلى 95 بالمئة حتى تتحول أغراضه إلى عسكرية بإمكانها إنتاج قنبلة نووية.
وما بين معدلات التخصيب “الثورية” (أقل من 5 بالمئة) التي تصدح لها منابر إيران في إيران وخارجها، ومعدلات إنتاج سلاح دمار شامل، بون شاسع لن تسمح به الصين وروسيا قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
لم تعمل إدارة أوباما إلى دفع العواصم الكبرى إلى الانخراط في اتفاق مع إيران حول برنامجها النووي إلا لتجنب حرب كبرى تعمل على حرمان طهران من صناعة قنبلة نووية.
كانت واشنطن تسعى لطمأنه إسرائيل ومنعها في الوقت عينه من القيام بضربات عسكرية جراحية تبعد الخطر النووي عنها.
لم تكن همّة أوباما تحرص على تجنيب إيران والمنطقة الحرب الكبرى، بل كان همُّه ينصبُّ على تجنيب الولايات المتحدة حربا ستضطر إلى خوضها إذا ما تحولت ضربات إسرائيل الوقائية إلى حرب شاملة.
وعلى هذا فإن أي محاولة تلمّح بها إيران للهرولة نحو القنبلة النووي، ستقابل بردّ ناري دولي فوري شامل. إيران تعرف ذلك، والعالم يعرف أن إيران تعرف ذلك.
يجدر في هذا السياق التنبه إلى صمت إسرائيل حيال ما تريد إيران أن يُحدث جلبة كبرى، خصوصا لدى الإسرائيليين. ينكشف بشكل واضح أن “الخطر” الإيراني على أمن إسرائيل لم يكن حقيقيا، وأن إسرائيل كانت تنتشي بما يصدر عن منابر الحرس الثوري من تهديدات بإزالة إسرائيل عن الخارطة، وتعيد تسويق ذلك داخل منتجاتها الدبلوماسية في أسواق العالم.
وواضح أن التهديدات التي كان يطلقها بنيامين نتنياهو لشن حرب ضد إيران ومنعها من تهديد أمن إسرائيل بالسلاح النووي المقبل، لم تكن إلا ابتزازا يمارسه لأغراض المنافسة السياسة داخل إسرائيل، كما لأغراض تحسين وضعه ووضع بلاده داخل المجتمع الدولي.
كانت “شراسة” إسرائيل المزعومة تتعاظم على خلفية معدلات تخصيب متواضعة وعلى قاعدة عدم قدرة وكالة الطاقة الذرية على إصدار تقارير دقيقة، وعلى خلفية ما يصدر عن طهران من جرعات وعيد لتغذية خطابات الضرورة.
بيد أن هذه الشراسة مفقودة هذه الأيام في وقت تعلن فيه إيران رسميا، وعلنا، ومن على لسان أعلى المراجع، أنها تعمل على رفع نسب التخصيب وتخزين اليورانيوم، وهو أمر مفترض أن تخشاه إسرائيل، لما قد يخفي من سلوكيات نووية خفية لا يُفصح عنها مرشدٌ أو رئيسٌ أو وزير.
وعلى هذا، فإذا كانت إسرائيل غير مكترثة للانتهاكات التي تجاهر بها إيران للاتفاق النووي، فإن العالم، على الرغم من النفاق الذي يبديه عن قلق من مغبة خفض طهران لالتزاماتها، ما زال بعيدا عن اعتبار “جرأة” روحاني وصحبه مهددة للستاتيكو العالمي الراهن.
وعلى هذا أيضا فإن العواصم في تقييمها للموقف من إيران، باتت تكثف النظر على إيران والعراق ولبنان بصفتها ميادين إيرانية مشتعلة تنذر بانتهاء “زمن إيران” في المنطقة، والعالم.
ينبغي أيضا ملاحظة أن العالم يتعاطى مع التطورات في البلدان الثلاث (تاركة لروسيا معالجة أمر الميدان الإيراني في سوريا) بصفتها شأنا مرتبطا مباشرة بمستقبل الحجم الإقليمي لإيران في الشرق الأوسط.
وفيما تعوّل طهران كثيرا على هذا الثقل، الذي يكاد العالم يعترف به لها، فإن حراك الشارع في العراق وفي لبنان، كما استعادة الشرعية اليمنية لزمام الأمور (بعد الاتفاق الذي تم إبرامه برعاية السعودية مع المجلس الانتقالي الجنوبي)، يصدّع شكل وهياكل النفوذ الإيراني في الدول الثلاث.
والظاهر أيضا أن طهران التي تعيد وتكرر وتلح بأن اليمن مفتاح أي حوار بين الخليج وإيران، تدرك في الساعات الأخيرة، أن رهانها على تحول الصراع هناك إلى رباعي، ما بين الحوثيين، وحزب الإصلاح، والمجلس الانتقالي الجنوبي، وحزب المؤتمر الشعبي، قد انهار تماما، وعادت بوصلة الصراع إلى مربعها الأول بين يمن الدولة ويمن الميليشيا.
تكشف المرونة الطارئة التي داهمت مقاربة حزب الله وزعيمه السيد حسن نصر الله للأزمة التاريخية في لبنان، كما ارتباك كل أحزاب العملية السياسية التي تحكم العراق منذ عام 2003 (بما في ذلك لعب رئيس الحكومة عادل عبدالمهدي على وتر غياب البدائل في حال استقالته)، أن إيران باتت عاجزة عن معالجة معضلاتها بسلاح المكر والقوة.
لم تعد الشيعية السياسية في العراق، كما في لبنان، سلاح إيران الضارب في المنطقة.
يبدو واضحا في العراق أن التمرد شيعي بامتياز على واجهات الهيمنة الإيرانية داخل نظام بغداد، فيما أن شيعة لبنان ينضمون إلى طوائف البلد الأخرى في تعرية “فائض القوة” التي يملكها حزب الله الذي يقلق ربما إسرائيل، لكنه لا يرعب المتظاهرين العزل في شوارع البلد.
يخفت وهج إيران في العواصم التي سبق لطهران أن أعلنت سيطرتها عليها.
تعيد الجمهورية الإسلامية تسليط الضوء على طهران فقط، لعل في تهديد روحاني ووعيد خامنئي ما يمكنه أن يوقظ إسرائيل وينبه العالم إلى أخطار لا يراها العالم أخطارا.