انتقال البطريرك مار نصر الله بطرس صفير إلى بيت الآب الخوري: غطاس خوري
راعي أبرشية سيدة الوردية في سكرامنتو/كاليفورنيا/الولايات المتحدة
سنة واحدة بقيت قبل اكتمال اليوبيل المئوي لإعلان دولة لبنان الكبير وكأن الزمن هجع فوقف إجلالاً للبطريرك الكبير الذي ولد متواضعا وعاش في ظل الكبار ثم رفعه الرب ليسطع نجما عظيما في سماء الشرق الداكنة سماؤه بالإرهاب ونيران الحروب.
وسطع قبله نجم عظيم ففرحنا بظهوره وما لبث أن اختفى.
أما الشيخ الجليل فقد سطع نجمه ليبقً منيرا في هذا الشرق كما سطع النجم منذ ما يزيد عن الألفي سنة في سماء بيت لحم.
نبت كبنفسجه متواضعة في ارض ريفون القرية الكسروانية لأب تقي هو مارون نصرالله صفير ولأم مؤمنة هي حنة فهد من بلدة غسطا الكسروانية أيضاً.
تنشق هواء القرية الجبلية التي أعطت لبنان طانيوس شاهين الذي كان على رأس ثورة الفلاحين.
طبيعته الهادئة وإيمانه المتوقد وفكره النير جذبوه إلى الحياة الكهنوتية وكان نسيبة الخوري منصور صفير مثاله الأعلى في تفانيه في خدمة الكنيسة.
تعلم في مدرسة القرية وفي مدرسة البطريرك مسعد في عشقوت حيث كان يتنقل سيرا على الأقدام، ثم قرر الأهل أن يرسلوه إلى معهد الأخوة المريميين ومن بعدها دخل مدرسة مار عبدا وعقب ذلك دخل المدرسة اليسوعية في غزير حيث تعلم اللغات الحديثة إضافة إلى اللاتينية، لغة الكهنوت في التنشئة اليسوعية.
فيما بعد قررت الكنيسة أن تنقله إلى المعهد الشرقي للاهوت ليدرس اللاهوت والفلسفة.
كان والده يأمل أن يتزوج ابنه نصرالله، وكيف لا وهو ابنه الوحيد لكنه خيب أمله ولذلك رفض الوالد استقبال ابنه بعد رسامته كاهناً.
هذه عادة حميدة تبعها الموارنة على مر العصور بحيث يعطون أهمية للعائلة وللنسل، وغالبا ما يشعرون بقرب الكاهن منهم لأنه يقاسمهم همومهم.
لا اعرف كيف تعرف البطريرك المعوشي على الكاهن الشاب الذي اختاره ليكون أمين سره ويستقر في البطريركية المارونية وليصبح ذاكرة البطريركية على ما يقارب الستين سنة.
وما يُعجب له معاصروا البطريرك المعوشي كيف أن الكاهن نصرالله صفير استمر مخفيا وصامتا ووديعا أمام أمراء الكنيسة المارونية وعلى رأسهم المعوشي نفسه.
وما يُعجب له أيضاً معاصروا البطريرك المعوشي كيف أن الكاهن نصرالله أصبح مرشده الخفي وكاتماً لأسراره بالرغم من طبع البطريرك الصلب والعنيد.
نجح الكاهن نصرالله في أن يدخل إلى عقل وفكر البطريرك المعوشي وعرف كيف يتعامل معه بنجاح وهو، “الذي في نظراته ساعة الغضب قسوة الفولاذ، وساعة الرضا رقة النسيم كأنه شلال جزين الهادر في الشتاء،ء ورقراقا في الصيف، وهو البطريرك الذي اختلف الناس في مواقفه وامتدحوا رجولته”
إن الهدوء والبعد عن الأضواء جعل من الكاهن نصرالله صفير والذي رقي فيما بعد إلى رتبة مطران وأصبح مستشارا حقيقيا للمعوشي ليس في الكلام فحسب بل بالمسلك أيضًا وبطريقة أخرى في معرفة التزام الحدود كما كانت ردة فعل الرسول بطرس عندما شاهد الصليب العجيب فركع هاتفا أمام قدمي يسوع قائلاً: ” ابتعد عني يا رب فأنني رجل خاطيء”
كان البطريك صفير بنكا كبيرا لا للمال، لكن للمعلومة التي ترد إلى بكركي، هو المراسل الذي يُترجم ويجيب على الرسائل. أضف إلى ذلك اتقانه اللغات ولاسيما العربية الذي درّسها مترجماً في مدرسة فرير جونية.
وكان ملفتاً في كلامه المشبع بروحانية الكتاب المقدس وخبرة الحياة.
كان المطران صفير لا يأبه بالمناظر وكان شماسه جورج صليبا متواضعا مثله يحسن الخدمة أكثر مما هو حسن الصوت وغالباً ما كان يأتي إلى المشاركة في مراسم الدفن في مطلع حبريته بسيارة الأجرة.
يوم انتقل البطريرك المعوشي إلى بيت الأب توجهت الأنظار إلى أساقفة معروفين بتدخلاتهم السياسية ونفوذهم ليخلفوه في السدة البطريركية، لكن العناية الإلهية شاءت أن تقدم للكنيسة المارونية بطريركا متواضعا هو مار انطونيوس بطرس خريش الذي واجه وضعاً صعباً لا يحسد عليه بعدما تكاثر الطامعون والغزاة للاستيلاء على لبنان وإذلال شعبه بشتى الوسائل من خلال الحروب المحلية والخارجية وهنا كلنا نذكر ظروف مجزرة اهدن وكيف خسر الموارنة عنفوانهم بعدما أذلوا بعضهم البعض.
لم يستطع الأقوياء حقن الدماء والوقوف بوجه الشر العاتي الذي أرهق قوانا وزد على ذلك عدم التطلع إلى البعيد بعدما أصبح القريب حربا ونارا ودما ودخانا.
شعر البابا القديس يوحنا بولس الثاني عندها بان الكنيسة المارونية بحاجة للتغير بعدما تفاقمت الأمور، فنادى إلى استقالة الأساقفة الذين بلغوا العمر القانوني وعين المطران الصامد في أبرشيته إبراهيم الحلو مدبرا رسولياً، وكما حدث في السابق تنافس المطارنة الصقور فيما بينهم ولم يصلوا إلى انتخاب أي منهم بطريركاً.
وعند ذلك وربما بوحي من الروح القدس تم الاختيار من الصف الخلفي واجمع الأساقفة على النائب البطريركي نصرالله صفير ليكون بطريركا على الطائفة وهو الذي لم يكن معروفا إلا من قبل النيابة البطريركية.
البطريرك الجديد كان في منتهى التواضع والانسحاق وهنا تعود بي الذاكرة إلى احد الانسباء الذي شاهده يتنقل بين “الحفافي” وقد قال [إن هذا المطران يشبهنا في حياته.
واجه البطريرك الجديد شعبا لا يعرفه وفراغاً في الرئاسات الرهبنية وانقساما بين المسيحيين في الشمال والمتن، وكذلك فراغا في رئاسة الجمهورية بعد الاتفاق الثلاثي المشؤوم.
العماد عون، قائد الجيش والرئيس العسكري في تلك الحقبة لم يتصرف بروية كالمدبر الرسولي إبراهيم الحلو، لكنه سعى إلى اقتلاع المليشيات من جذورها وعلى تحرير لبنان من الاحتلال السوري بالقوة، ففشل لأنه لم يهيئ نفسه بالتعبئة العامة التي كانت سبب نجاح الموارنة في مواجهة المماليك.
كان البطريرك صفير غير مسموع الكلمة بمواجهة قوى عسكرية مارونية شرسة حاربت بعضها البعض وكادت أن تقضي على ما تبقى من وجود للمسيحيين في لبنان.
في هذا الوقت انعقد مؤتمر الطائف وكان البطريرك صفير في طليعة المؤيدين له والمدافعين عنه بهدف إنقاذ ما تبقى من شعبه ومن وطن يحترق ويزول.
آمن البطريرك صفير بلبنان السيد والحر ووطن التعايش الذي كانت فكرته تبلورت في عهد فخر الدين مع تلاميذ المدرسة المارونية وتحققت من خلال إعلان دولة لبنان الكبير وقد كانت البطريركية المارونية الراعية دائماً لهذا الحلم لإيمانها بالحرية والكرامة هما في صلب الدعوة الإنجيلية.
قام الغيارى من الموارنة بالانقضاض على بكركي وعلى سيدها لأنه تبنى اتفاق الطائف ولم يسمع صوت الزعماء، بل استلهم ضميره وأمانته حافظا الأمانة البطريركية.
هاجمه رعاع القوم وأهانوه وأذلوا من أُعطي مجد لبنان فانكفئ إلى الديمان حيث تجذرت الكنيسة هناك وترعرع مجد لبنان في ظلال الأرز والصخور.
لم تكن حادثة التعدي على البطريرك صفير لتسلمه إلى اليأس والقنوط لكنها بقوة الإيمان قوت عزيمته، وهنا أتذكر ما حدث للأب يعقوب الكبوشي الذي تعرض لحادثة قضت على معظم من كان بمعيته، أما هو فنجا بأعجوبة وقد زادت من رجائه وعزيمته، وكذلك كان حال البابا القديس يوحنا بولس الثاني الذي نجا من الاغتيال وشعر بان الله معه. أما الرئيس ريغن الأميركي وبعد محاولة لاغتياله وكما الأبرار اخذ المطرقة وضرب بها حائط برلين وحطمه.
هكذا شعر البطريرك صفير بقوة مركزه وسطوة سلطانه وتكلم بنبرة عالية ولاسيما بعد لقاء المطارنة وبيانهم الشهير وكيف لا ، وكان المونسينيور طوق رحمه الله يتلو البيان وكأنه بلاغاً عسكرياً.
تميز البطريرك صفير بالصلابة والعزم والقوة وكذلك بالتواضع والوادعة والبساطة ومن أشهر أقواله، “لقد قلنا ما قلنا وكفى”.
فشل المغرضون في إيقاعه في أي تجربة، وكما حدث للسيد المسيح حيث أراد الكتبة والفريسيين أن يصطادوه بكلمة فلم يفلحوا.
قرر الكتبة والفريسيين في لبنان وخارجه اللعب على العواطف وسعوا جاهدين استدراجه لزيارة سوريا يوم زارها قداسة البابا السعيد الذكر يوحنا بولس الثاني، ففشلوا ووقف في وجههم كالصخرة رغم كل المغريات والتهديد.
نجح البعض بإقناعه بالتنحي والاستقالة وهو على عتبة التسعين، فاستجاب بتواضع ودون ضجيج.
يبقى أن العظماء غالباً ما يستريحون بعد رحالات النضال لأنهم إلى وجه ربهم يطمحون، كما فعل البابا بنيدكتوس الثالث عشر، وكما فعل مؤرخ حياة مار مارون تواريدتس القورشي حيث قرر العزلة ليتفرغ أكثر للصلاة والكتابة وهو كاتب “تاريخ أصفياء الله”.
هذا البطريرك الذي ولد في أول أيام الانتداب، وترعرع في زمانه، وارتسم في أول عهد الاستقلال، وصار بطريركا في عز الأزمات عاصر باباوات عظام، وفي زمانه طوب الحرديني، وتقدس الأخ اسطفان نعمة، وفي زمنه أيضاً تحولت بكركي إلى مركز الثقل بعدما كان اختفى دورها في السبعينيات.
في زمن العولمة والانتشار وزمن التحديث والابتكار، وفي زمن قالوا فيه لقد خفت وهج المسيحيين في لبنان، ها هم مع البطريركية المارونية يتطلعون إلى اليوبيل الكبير المئوي على إعلان دولة لبنان الكبير إلى بطريرك الاستقلال والأمل الجديد الذي لبس سلاح البر وحمل سيف الروح.
إلى بيت الأب أنت ذاهب أيها البطريرك العظيم، ونحن نتطلع إلى المجد الذي أعدته إلى البطريركية المارونية، ونحن نعلم أن الله يستجيب لتضرعات شعبه وهو وحده القادر أن يبقي أرض لبنان أرض قداسة وحرية وإيمان وصلاة.