بعض الأصوات الحاقدة والشامتة بحريق كنيسة نوتردام، تبعث على الخزي من أصحابها، ولا تستحق سوى الاستنكار وإدانة مُطلقيها، مع وصمهم بعار الإنسانية جمعاء
أولاً: حريق كنيسة نوتردام…
لم يُصدّق العالم بأسره رؤية احتراق أهم معلم ديني وحضاري وتاريخي وفنّي، في أعرق مدينة أوروبية (باريس)، نعم لم يستوعب حتى الآن احتراق كنيسة نوتردام التي تعني “كنيسة سيدتنا مريم العذراء”، ويقف عاجزاً عن القيام بحماية واحدة من أشهر كاتدرائيات العالم، وأهم معلَم باريسي يُعتبر قمّة الفنّ والعمارة القوطية، الفنّ القوطي الذي يتميز بالاشكال المتناقضة، والتي تختلف عن فنّ عصر النهضة الذي كان يُبشّر بالبساطة والتناغم، الفن القوطي الذي نجد فيه تمجيد الحياة، كما نجد فيه الطرف الآخر النقيض: أي نفي الحياة والزّهد في العالم، ولعلّ أهم شعارات العصر القوطي هي التي تنبّأت بمأساة الكنيسة المحترقة في الخامس عشر من نيسان ٢٠١٩: “memento mori” اي: “تذكّر أنّك ستموت يوماً ما”.
ثانياً: مآسي المعالم الأثرية…
أمام هول المصاب وثقل الفاجعة التي أصابت وتصيب المعالم الأثرية والتاريخية والثقافية في كافة أنحاء المعمورة، لا بدّ لنا من تذكُّر الأحداث المأساوية القريبة من بلادنا، فقد فجّر الإرهابيون من الطالبان تمثال بوذا في أفغانستان، ودمّر الدواعش ومعهم سائر الإرهابيين معالم الحضارات الاشورية والبابلية في العراق، ودمروا واحرقوا المسجد الأموي في حلب، وكنيسة أم الزنار في حمص، والمسرح الروماني في تدمر، فضلاً عن الاعتداءات المتكررة على معالم البيئة الجغرافية نتيجة الحروب والدمار واستعمال كافة الأسلحة بما فيها أسلحة الدمار الشامل.
ثالثاً: فلتخرس أصوات الحقد والكراهية…
حبذا لو تصمت وتلوذ بخزيها كافة المقالات والتصريحات والتعليقات التي تنُمّ عن حقدٍ دفين ضد قِيم الإنسانية السمحاء في المحبّة والتسامح الديني والحدب على الذخائر وكنوز الاسلاف والأجداد.
للأسف الشديد تعالت بالأمس بعض الأصوات الحاقدة والشامتة بحريق كنيسة نوتردام، إلاّ أنّها على ندرتها تبعث على الخزي من أصحابها، ولا تستحق سوى الاستنكار وإدانة مُطلقيها، مع وصمهم بعار الإنسانية جمعاء.
رابعاً: فرنسيس المراش وباريس…
كان المفكر العربي السوري الحلبي فرنسيس المراش (١٨٣٦-١٨٧٣) معجباً بمدينة باريس التي “تموج فيها الناس موج البحور وتصبُّ إليها الركبان صبّ النهور، وترنُّ في أسواقها قعاقع الآلات، فتكون مرسحاً لضوضاء البشر وموقعاً لوقائع الصُّور”، إلاّ أنّ المراش كان قد رأى بحدسٍ ثاقب أنّ “هذه العظمة والسّطوة لا بدّ أن يحقد عليها الزمان، وتنهرها طوارق الحدثان فتأخذ بالرجوع القهقرى ونقصان العبقري( الكامل من كل شيء) حتى تصبح رمّةً في البوادي ومندب الروائح والغوادي، وهاك بابل ونينوى وصُور وما شاكلها من ربّات السور” ليُضيف بعد ذلك مُتسائلاً “ومن يعلم ما ستؤول إليه مدينة باريس، هذا المقام الأعلى والبلد النفيس حيثما أنا الآن، أسحب مطارف المرح وأحتسي كؤوس الفرح مُتمنطقاً بعجائب الآثار”.
على أمل إنقاذ ما يمكن إنقاذه وترميم ما يمكن ترميمه، والحسرات على ما ضاع واندثر، ستبقى باريس منارة العالم الحديث وقبلة المدنية الواعدة.