تتشابه معركة تورا بورا في أفغانستان 6 ديسمبر 2001، التي أطلقتها الولايات المتحدة بعد هجمات 11 سبتمبر، على معقل تنظيم القاعدة واستهدافها لقادتهم وعلى رأسهم أسامة بن لادن، مع اقتحام قوات التحالف الدولي بالتعاون مع قوات سوريا الديمقراطية حصن داعش الأخير “الباغوز” شرق دير الزور في سوريا، مطلع مارس الماضي. ولعله من الأرجح، ووفقاً لما يبدو أن تصورات السيناريو متقاربة، فالاختلاف يكمن فقط بالتفاصيل والمسارات تبقى واحدة، وإلى أن تتكشف أحجية تنظيم “داعش”، ومصير قياداته البارزين وعلى رأسهم إبراهيم البدري، تبدو بالمقابل اليوم الصورة أكثر جلاء مع مطاريد تنظيم القاعدة مع تبيان جزء غير يسير من أحجيته بعد 20 عاما. فلم يعنِ القضاء المادي من قبل على وجود القاعدة في معقله الأفغاني تورا بورا نهاية التنظيم، كما أنه لا يعني اليوم القضاء على معقل داعش الباغوز السوري ذات النتيجة، فمن قبل تسبب هروب أو “انسياح” كما في أدبيات القاعدة مقاتلي التنظيم، بانتشار بؤر واسعة للقاعدة في أكثر من مكان في الدول الاسلامية. اليوم ربما يتكرر نفس المشهد مع “انسياح” جديد لدواعش سوريا، بعد القضاء العسكري على معقله فتنتشر شظايا تنظيم داعش في أكثر من مكان في الدول الإسلامية، عوضاً عن تمركزها في معاقلها السورية والعراقية.
وكما استفادت دول من هذه الجماعات الأصولية المسلحة لمصالحها الخاصة، وفي مقدمتها قطر وإيران من تنظيم القاعدة من قبل، وهو في حالة قوته الأفغانية، ثم استفادت منه لاحقاً في حالة انسياحه وانتشاره سيتكرر نفس المشهد مع داعش، أكان هو في حالة “الدولة” المسيطرة على الأرض، أو في حالة الانسياح بعد هزيمة “الباغوز”؟ فهاتان الدولتان تريدان الاستفادة من هذه التنظيمات في حالة اجتماعها أو تفارقها.
العلاقة القديمة بين طهران والدوحة
وبإعادة تجميع وترتيب بعض من قطع أحجية “القاعدة” ما بعد تورا بورا، تتجلى الصورة المغلقة لقصة يبدو أنها قديمة بين طهران والدوحة من طرف، والجماعات الأصولية المسلحة من طرف آخر، أشبه ما تكون بعلاقة “القوس بالسهم”. فمنذ أن داهم الجيش الأميركي في عملية أشرفت عليها الاستخبارات الأميركية مخبأ زعيم القاعدة في أبوت اباد – باكستان في مايو 2011، ونشر ما بات يعرف بوثائق أبوت آباد، بعد كشف السرية عن عدد منها، برز جلياً معالم الاتفاق المبرم ما بين تنظيم القاعدة وإيران وحرسها الثوري، الذي كان أحد بنوده استضافة كافة المقاتلين العرب والأجانب في مدن إيرانية مختلفة، من بينهم كانت قيادات الصف الأول لتنظيم القاعدة وأسرة زعيم القاعدة “ابن لادن”، وباقي الجماعات الأصولية المسلحة. اللافت كان في جلاء دور المفاوض القطري وإمدادات التمويل لتنظيم القاعدة في غضون إقامتهم في إيران، الأمر الذي كشف عن طبيعة التنسيق الثنائي في توظيف الجماعات الأصولية المسلحة السنية والشيعية، وتعزيز شبكاتها في منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا وأفغانستان وباكستان، ولأكثر من عقدين.
القصة تبدأ مع تقرير لصحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية نشر في فبراير 2003 للصحافي “باتريك تيلر”، وحمل عنوان: “THREATS AND RESPONSES: TERROR NETWORK; Intelligence Break Led U.S. to Tie Envoy Killing to Iraq Qaeda Cell
نقل الكاتب فيه تصريحات لكولن باول وزير الخارجية الأميركي آنذاك، بشأن ما تم الكشف عنه من خلال نائب أبو مصعب الزرقاوي بعد القبض عليه في تركيا قادما من العراق، والمتعلقة بشبكة تنظيم القاعدة في العراق ومنطقة الشرق الأوسط وأوروبا. إلا أن الزرقاوي في ذلك الوقت كان قد وفد حديثا إلى بغداد قادما من إيران بعد إقامته ومجموعته فيها إلى جانب قيادات الصف الأول لتنظيم القاعدة منذ 2001، مكونا ما بات يعرف بجماعة أنصار الإسلام في شمال شرق العراق قبل أن يصبح اسمها جماعة التوحيد والجهاد، الذي تبعه مبايعة أسامة بن لادن.
موضوع يهمك ? من جامع محمد بن عبد الوهاب، في العاصمة القطرية الدوحة إلى جامع السلطان سليم الأول في إسطنبول بتركيا، تضاعفت وتيرة فتاوى…قصة قره داغي .. رجل القرضاوي وسفير الدوحة لنشر التطرف الخليج العربي
وقال باول: “هؤلاء الأعضاء المنتسبون إلى تنظيم القاعدة، المتمركزون في بغداد، يقومون الآن بتنسيق حركة الأشخاص والأموال والإمدادات إلى جميع أنحاء العراق وشبكتها، وهم الآن يعملون بحرية في العاصمة لأكثر من ثمانية أشهر”.
وهنا يكمل الصحافي الأميركي تقريره عن الزرقاوي، ونقلا عن مسؤول في التحالف فقد وفر للزرقاوي ملاذا آمنا، ومنح باقي التنظيم جوازات قطرية وتوفير مكان آمن له، وذلك بجانب الدعم المالي قائلا: “احتفظ السيد باول ببعض التفاصيل المهمة اليوم، مثل اكتشاف وكالات الاستخبارات أن أحد أفراد العائلة المالكة في قطر، وهو حليف مهم يوفر قواعد جوية ومقر قيادة للجيش الأميركي، قام بتشغيل منزل آمن للزرقاوي وتنقله إلى داخل وخارج أفغانستان”.
وقال مسؤول الائتلاف إن عضو العائلة المالكة القطري “عبد الكريم آل ثاني”، وأضاف المسؤول “أن آل ثاني قدم جوازات سفر قطرية وأكثر من مليون دولار في حساب مصرفي خاص لتمويل الشبكة”.
قطر وتنظيم القاعدة
علاقة قطر بتنظيم القاعدة أثناء استضافتهم في إيران، لم تكن لتنحصر على أبو مصعب الزرقاوي ومجموعته، فوفقاً لما كشفت عنه وزارة الخزانة الأميركية، يظهر المفاوض القطري في أكثر من بيان كان أبرزه شبكة عز الدين خليل خليل والملقب بـ” ياسين ياسين السوري” أو “ياسين الكردي”، وهو ميسر تنظيم القاعدة في إيران، والذي باشر أعماله من إيران منذ 2005، بعد سماح السلطات الإيرانية له بالعمل داخل حدود إيران بموجب الاتفاق مع تنظيم القاعدة. حيث تولى “ياسين الكردي” نقل الأموال والمجندين من جميع أنحاء الشرق الأوسط إلى إيران، ثم إلى باكستان لمصلحة قادة تنظيم القاعدة من بينهم “عطية الله الليبي”.
ووفقاً لما جاء في تقرير الخزانة الأميركية الصادر في يوليو 2011: “جمع خليل التمويل من مختلف المانحين في جميع أنحاء الخليج وهو مسؤول عن مبالغ كبيرة من الأموال عبر إيران، للمرور إلى قيادة القاعدة في أفغانستان والعراق، كما قام بتسهيل سفر المجندين المتطرفين لتنظيم القاعدة من الخليج إلى باكستان وأفغانستان عبر إيران، ويطلب خليل من كل عامل سليم 10000 دولار إلى تنظيم القاعدة في باكستان، وبصفته ممثلاً لتنظيم القاعدة في إيران، يعمل خليل مع الحكومة الإيرانية لترتيب إطلاق سراح أفراد تنظيم القاعدة من السجون الإيرانية، عندما يتم الإفراج عن ناشطي القاعدة، تنقلهم الحكومة الإيرانية إلى خليل الذي يقوم بتسهيل سفرهم إلى باكستان”.
الكواري والدعم المالي للقاعدة بإيران
ولتشمل شبكة الميسر لتنظيم القاعدة في إيران وبحسب تقرير الخزانة الأميركية كلاً من القطري “سليم حسن خليفة راشد الكواري”، و”عبد الله غانم محفوظ مسلم الخوار”، كمفاوضين لتنظيم القاعدة من مكان إقامتها في “قطر”.
وكما جاء في التقرير: “قدم الكواري الدعم المالي واللوجستي للقاعدة من خلال مفاوضي القاعدة في إيران ومن مقره قطر، وتقديمه مئات الآلاف من الدولارات كدعم مالي للقاعدة وتقديم التمويل عمليات القاعدة، وكذلك تأمين الإفراج عن معتقلي القاعدة في إيران وفي أماكن أخرى، كما قام بتيسير السفر للمتطوعين المتطرفين نيابة عن كبار ميسري تنظيم القاعدة المتمركزين في إيران”. وبحسب ما أوردته صحيفة ” صنداي تليغراف” البريطانية، فقد عين النظام الحاكم في قطر سالم الكواري (42 عاما)، في موقع مهم بوزارة الداخلية القطرية، مؤكدة أنه ضخ مئات الآلاف من الدولارات إلى القاعدة عبر شبكة إرهابية أثناء عمله في وزارة الداخلية. وكان الكواري قد عمل في قسم إدارة الدفاع المدني التابع لوزارة الداخلية قبل عامين من إدراجه من قبل الولايات المتحدة على قائمة الإرهاب. أما عبد الله غانم الخوار (38 عاماً)، فعمل مع الكواري لتقديم الأموال والرسائل وغيره من الدعم المادي لعناصر القاعدة في إيران، “ومثل كواري يقع مقر الخوار في قطر، وساعد على تسهيل سفر المتطرفين المهتمين بالذهاب إلى أفغانستان”. وإضافة إلى الكواري والخوار، أدرج تقرير آخر لوزارة الخزانة الأميركية صدر في أكتوبر 2014 عبد الملك محمد يوسف عثمان عبد السلام، والمكنى بـ”أبي عمر القطري”، وهو ابن أبو عبد العزيز القطري “أمير جماعة جند الأقصى” والذي قتل في سوريا في 2014 (أردنيان يحملان الهوية القطرية)، بعد أن بدأ مسيرته مع تنظيم القاعدة في أفغانستان، وكان قريباً من أسامة بن لادن وأيمن الظواهري وعبد الله عزام، وشارك في القتال في الشيشان، قبل أن ينتقل إلى مساعدة أبو مصعب الزرقاوي في إنشاء تنظيم القاعدة في العراق عبر جماعة “التوحيد والجهاد”.
أبو عمر القطري، الذي ألقت السلطات اللبنانية القبض عليه في مايو 2012 أثناء عودته إلى قطر، حاملاً مبالغ مالية كبيرة مخصصة لتنظيم القاعدة، تولى بحسب الخزانة الأميركية تقديم الدعم المالي لأعضاء القاعدة في سوريا، وتيسير نقل المتطرفين للقتال في سوريا، وتحديداً تجنيد السوريين المقيمين في تركيا، وعمل مع القطريين إبراهيم البكر وخليفة تركي السبيعي، وشركائهما في لبنان على شراء ونقل الأسلحة والمعدات الأخرى إلى سوريا. موضوع يهمك ? جاء إعلان الدول الداعية لمكافحة الإرهاب (السعودية ومصر والإمارات والبحرين) تصنيف كل من “الاتحاد العالمي لعلماء…كيف استنسخت قطر من اتحاد القرضاوي صورة لتنظيم القاعدة؟ الخليج العربي
وأضاف التقرير: “عمل عمر القطري مع ميسري القاعدة في إيران لتوصيل ايصالات تؤكد أن القاعدة تلقت تمويلاً من جهات أجنبية، وفي أواخر العام 2011 قام بتسليم آلاف الدولارات إلى الكويتي “محسن الفضلي” والمصنف على قوائم الإرهاب الأميركية والأمم المتحدة، في إيران، والتي هرب إليها بحراً من الكويت، وأقام فيها لسنوات قبل أن ينتقل إلى العراق وبعدها إلى سوريا. وكان قد وصل الفضلي وهو “اياد عاشور الفضلي” مرافق أسامة بن لادن الشخصي، إلى سوريا كمبعوث من قبل أيمن الظواهري في 2013 لحل النزاع والخلاف بين أبو بكر البغدادي، زعيم تنظيم “داعش”، و محمد الجولاني زعيم جبهة النصرة، مؤسساً لاحقاً ما عرف بجماعة “خراسان”، حتى قتل في غارة جوية أميركية 2015 استهدفت سيارة بالقرب من بلدة سرمدا في شمال غرب سوريا. وبالعودة إلى بلدة ” الباغوز”، حصن داعش الأخير في سوريا، وباختفاء قيادات الصف الأول للتنظيم، يعود السؤال من جديد عن حقيقة نجاح الحرب على الإرهاب في ظل “انسياح” المتطرفين من جديد في مشارق الأرض ومغاربها عبر مكاتب الخدمات العامة للجماعات الإرهابية، بإشراف بعض الأنظمة والحكومات.