يوسف بزي: في استعادة 14 آذار المغرية/لم يبق من 14 آذار 2005 إلا أمرين: الابتذال السياسي لها من قبل أحزابها وقادتها، والنوستالجيا العاطفية

96

في استعادة 14 آذار المغرية
يوسف بزي/المدن/14 آذار/19
لم يبق من 14 آذار 2005 إلا أمرين: الابتذال السياسي لها من قبل أحزابها وقادتها، والنوستالجيا العاطفية

عند جمهورها المتنوع الأهواء والمتباين في تأويل تلك اللحظة.
لو سئل أكثر من مليون ونصف مليون لبناني شاركوا في ذاك النهار الربيعي المجيد، عن أهم يوم في حياتهم وذاكرتهم، فستكون إجابتهم: 14 آذار 2005. فذاك الاجتماع بوسط بيروت، شبه المعجزة الوطنية، حقق أمنية مستعصية طوال تاريخ الاستقلال اللبناني، أي أن تتقدم “الهوية” اللبنانية وحدها، خالصة ونقية ومتفوقة على الهويات الطائفية والأهلية.
كان ذاك وجيزاً وهشاً، ولم يدم وقتاً طويلاً، رغم قوّته العاطفية والسياسية، ورغم وضوحه الجذّاب ووعده الخلاصي. ففي قلب هذه المرآة الكبرى للمشهد العظيم، كان يقبع التشقق غير المرئي، الذي سيتحول إلى صدع يهشّم الصورة برمتها. فالسذاجة الكرنفالية أعمتنا عن رؤية الضعف وخطر الانكسار، أعمتنا عن الانتباه إلى نقصان فادح يعتري هذا الاحتشاد البشري المنتشي بعنفوانه وبهجته: كانت الطائفة الشيعية، ككيان سياسي، ممتنعة عن الحضور. بل وعلى الضد منه.
ما بين 14 شباط و8 آذار 2005، نجح حزب الله في استنفار طائفته والتوحّد بها. وما ظنناه مجرد تباين سياسي بين جمهور اللبنانيين وخطاب الحزب إزاء “نظام الوصاية السورية”، كان وهماً أو إنكاراً لواحدة من أكثر حقائقنا الوطنية إيلاماً، هي حقيقة الترابط العضوي والعميق بين الشيعية السياسية والنظام السوري، والأسوأ هو شبك مصير لبنان على يد حزب الله، وعلى غفلة من اللبنانيين حينذاك، بمشروع صلب وعدائي بات يسمى “محور الممانعة”، الذي يتنكّب حروباً وصراعات تمتد من كوريا الشمالية إلى فنزويلا، وتقبع إيران وسوريا في نواته.
غفلتنا عن استلحاق لبنان بهذا المحور، جعلتنا أقل قابلية للتصديق أن حزب الله “متورط” كشريك أصيل في خطف “السيادة والحرية والاستقلال”، وأنه هو على قدم المساواة مع “الحرس الثوري” ومع نظام آل الأسد، على استعداد للذهاب في المواجهة إلى حد افتعال الحرب الأهلية وتجديدها إن لزم الأمر.
ما أن اكتشفنا ذلك، حتى انتهت عملياً الفعالية السياسية لـ 14 آذار، مكتفية بكرنفاليتها أو حُلميتها.
الاصطدام بتلك الحقيقة الصعبة، أي أن تتحوّل “انتفاضة الاستقلال” (أو “ثورة الأرز”)، رغماً عنها، إلى حرب أهلية طائفية، أيقظت اللبنانيين مجدداً من الغفوة “الوطنية” لتعيدهم إلى وعي الطوائف.
هكذا حلّ الخواف الطائفي مجدداً. وبه سجل حزب الله أولى انتصاراته.
أي أن تمتثل الطوائف الأخرى لنموذج الطائفة الشيعية: الاعتصاب بالنفس والاستنفار بهوية الملّة وسلاحها، وإشهار الريبة والخصومة بوجه الجماعات الأخرى.
وكان التيار العوني أول المستجيبين لهذه الدعوة. ومعه كانت الاستجابة الانتخابية، إثر ما سمي “التحالف الرباعي”، الذي كان بدوره اقتراحاً قائماً على وهم “لبننة” حزب الله تحت شعار رفض “عزل الشيعة” (رفض تكرار خطيئة “الحركة الوطنية” عام 1975 بعزل حزب الكتائب).
فحينها، كان المبدأ الجوهري الذي راهنت عليه النخبة السياسية لحركة 14 آذار، هو إزالة التناقض المصطنع بين “التحرير” (عام 2000) والاستقلال “الثاني” (2005)، واعتبارهما حدثين متلازمين ومتسقين تماماً مع الطموح الوطني. لكن حتى هذا الرهان أسقطه الحزب عمداً لحظة اندفاعه إلى حرب تموز 2006، التي كان مآلها، في خريف ذاك العام، التلويح مجدداً بالحرب الأهلية واحتلال وسط بيروت، واستمرار نهج العنف والاغتيال.
لم يبق من 14 آذار 2005 إلا أمرين: الابتذال السياسي لها من قبل أحزابها وقادتها، والنوستالجيا العاطفية عند جمهورها المتنوع الأهواء والمتباين في تأويل تلك اللحظة.
صحيح أن اليوم المشهود كشف عن وجود كتلة “مواطنين” ينحازون إلى الفضاء الرحب لفكرة لبنان، ويصنعون مثالات الحياة المشتركة، وتلاوينها، لكن ذلك ارتكز سياسياً على شراكة مع المجتمع الدولي وقراراته الأممية، بل وعلى استدعاء مساعدته، مثلما ارتكز بعنوان بسيط وبديهي هو رفض الوصاية السورية، وبالتأكيد على تضامن مسيحي إسلامي، يرفض بقاء السلاح خارج الشرعية الرسمية، عبوراً نحو سيادة الدولة المستقلة. بمعنى آخر، كانت “ميزة” 14 آذار بوصفها أولاً حركة رأي عام، وحركة مواطنين لهم إرادتهم الحرّة، وحركة أفراد يقيمون ولاءهم السياسي وفق “قناعات عقلانية ونقدية”. وهذا كان لا شك، من صنيع جمهور 14 آذار.
بالتأكيد، ليس ناس 14 آذار كلهم “أفراداً” و”مواطنين مستقلين” و”رأياً عاماً”، بل هم تجاورات لجماعات وطوائف وعصبيات أهلية ومحازبين تقليديين.
لكن الإنجاز هو في صنع هذا التجاور والمجاهرة به وعدم تمويهه، وفي نواة هذا التجمع “أقلية” الأفراد والمواطنين. فبفضل تلك الأقلية تمت صياغة ذاك “التجاور” ولغته وصورته.
وتلك الأقلية هي التي تتردد وهي التي تستجيب وهي التي تسبب القلق وهي التي يتبدل مزاجها أو تصاب بالحيرة، وهي تعريفاً “ميزة” 14 آذار.
إذ أن “جماهير” الممانعة و”جماهير” 8 آذار و”جماهير” البعث و”جماهير” القائد الملهم.. لا يصيبها تردد ولا يقربها الضعف ولا تتنوع أهواؤها ولا تنقص ولا تحتار، فهي كتلة مرصوصة كجسم واحد ورجل واحد في نسخ لا نهائية، وفي لون واحد لا يحول ولا يزول.
وتلك “النعمة” لا تنالها 14 آذار. وهذا جزاء من ينحاز لمسالك الديموقراطية المضطربة والهشة دوماً.