قبل أن نتحول إلى دولة أمنية قمعية
د. منى فياض/النهار/07 كانون الأول/17
هل سيصبح التبلد ملاذنا؟
سوف اشارككم مشاعر انتابتني في الاسبوع الماضي والذي قبله، معتبرة نفسي cobay، للدلالة على ما وصلنا اليه من لامبالاة – او جلد التمساح – على الرغم من “الاستقرار” المزعوم الذي يحدثنا عنه البعض.
قبل عدة ايام ركنت سيارتي على حافة الطريق بدلاً عن الموقف، قريبا من مستديرة الطيونة. ومن ثم أضعتها لفترة قبل ان اعثر عليها مجدداً. مرّت عليّ لحظات اعتقدت فيها انها سرقت. لمت نفسي على عدم ركنها في موقف في منطقة مقلقة أمنياً. وصدقوني في الوقت المستقطع هذا لم اشعر سوى بندم طفيف؛ وسرعان ما قلت في نفسي لن اهتم ولن ابحث عنها فما الجدوى!! ونويت أن استقل تاكسي واتحمل نتيجة غلطتي.
التجربة الثانية كانت في الايام البسيطة التي تلت استقالة الرئيس الحريري. وصلتني رسالة على الواتس اب تتوقع (confidentiellement) بأن حدثاً أمنياً كبيراً سيحصل في اليومين القادمين. وكانت الشائعات في أوجها. لم أشعر بأي ذعر، فقط نظرت حولي وفكرت انني حسنا فعلت انني سهوت واشتريت بعض المؤن الفائضة بالصدفة. وقررت اني لن اتحرك من مكاني مهما حصل.
هذه ردود فعلي اللامبالية على التهديدات والمخاطر المحيطة بنا.
فهل هذه اللامبالاة سوية؟ وهل من “الصحي” أن نرفع عتبة تسامحنا أمام المخاطر الاستثنائية التي تهددنا الى هذا الحد؟ لاحظ رايش، المعاصر للنازية ومنظرها السيكولوجي، انه عند تلاحق الاحداث يزداد الشعور بالعجز.. ويتم التعلق بالمعادلات الفارغة – جزئيا – لتجنب هذا الاحساس، ما يعطي الجماهير الوهم بالأمن.
لذا اعتقد أن ردود افعالي تعود الى المنظومة السياسية – الاقتصادية – الامنية الهشة والمهددة التي تغرقنا. لقد فقد المواطن قدرته على التحمل وافتقد الشعور بالأمن في بلد صارت الحوادث والجرائم تحصل فيه يومياً. وعندما يتعرض للسرقة لم يعد يكلف نفسه بالشكوى – وهي حالات تحصل امامي – نظرا لان اقصى ما سيحصل عليه مساءلته هو لإثبات براءته وتضييع وقته و”سُجِّل ضد مجهول”. ناهيك عن “امكانية الحرب” كاحتمال قائم على الدوام.
نعم لم يعد ممكناً ان نعيش “متأهبين” أو “stressé” الى الابد. فلا بد من ان نحمي انفسنا بهذا التبلد والتجاهل تحديداً.
لكن حذار فان هذا تحديداً مدخل وقوعنا في ظل الاستبداد. ومن هنا خطر استغلال البعض لهذا الوضع لتحويل لبنان دولة أمنية على غرار ما كانته حال جارتنا السورية. فكيف يتم وضع اليد على بلد ما؟
يكتب السوري عبد الحيّ سيد: “تفيد التجربة السورية عند التحليل المعمق للدستور السوري أنه صيغ لكي يحقق الغلبة التامة لحالة الاستثناء ولسلطات الحاكم المطلقة على الدستور. وبدل ان يشكل الدستور المنطلق والاساس للحكم، جرى مسخه الى جملة قواعد يستخدمها الحاكم كأداة سيطرة وتكتيك سلطة لفرض الانصياع على الجموع. وفيما يمكن لمجلس الشعب إجراء تعديل دستوري يسمح بانتخاب وريث للرئيس الراحل الاسد خلال أقل من نصف ساعة يتذرع الحاكم “المنتخب” على هذا الاساس بالدستور نفسه الذي يمنعه من إجراء الاصلاحات المطلوبة من الجماهير السورية المنتفضة بالسرعة المطلوبة”!!
ان مراجعة تدرج سيرورة القمع البطيئة في النظام السوري تنبئنا ان وضع اليد على هذا البلد تمت ببطء منذ بداية صعود الأسد الأب سلم السلطة الى حين استتب له الأمر واستكانت غالبية الشعب السوري – بعد مجزرة حماة وحمص وبصمت مريب من الغرب – توفرت للشعب السوري حاجاته الاساسية قابل تخليه عن حريته. ولقد طالنا من هذه المرحلة نصيبنا الوافي في الثمانينات والتسعينات حتى العام 2005.
تركزت عندها الدولة الأمنية التي تقوم على بنية شاملة مستترة خلف بنية الدولة الرسمية المعلنة، حيث تتحكم الأجهزة الأمنية وتبسط سيطرتها على البلاد والعباد، وتفرض سيادتها التي تنزع كل سيادة أخرى، بما فيها وأساساً سيادة السلطة الرسمية. وفي لبنان هناك تمرينات على ذلك عندما يستدعى اشخاص للتحقيق دون إذن قضائي كما حصل مع الاسير المحرر أحمد إسماعيل.
يفيدنا هذا ان الاستبداد يسلك خطان متلازمان: أولاً مصادرة القوانين بوضع اليد على الدستور وتطويعه بحسب مقتضيات حاجة النظام الحاكم وتكميم الافواه تدريجياً وعبر تمرينات واهنة في البداية تتكشف شراستها مع الوقت. وثانياً القمع عبر رقابة تطال مختلف نواحي الحياة.
لم تستطع الانظمة الديموقراطية المعاصرة، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، وقف دورات العنف سوى عن طريق وضع دساتير وقوانين أدى احترامها الى ممارسات ووسائل تعبير سلمية تحفظ الحق بحرية الرأي ما سمح بتداول السلطة سلمياً.
هناك في لبنان من يحاول محاكاة تجارب الاستبداد بصورة تبدو كاريكاتورية. فمن بهلوانيات التعامل مع القوانين والدستور، التي صارت قراءته وفهمه استنسابيان تماماً، الى محاولات تكميم افواه المواطنين على وسائط التواصل حيث لا يملكون سوى الكلمة وإخضاعهم للتحقيقات التي تستخدم في سياق تخويفي – “عماحكيكي يا كنة حتى تسمعي يا جارة”- هناك تصاعد ملحوظ لعمليات التدجين والترغيب والترهيب ضد الاعلام عموماً ودون توقف.
لا شك اننا في لبنان بأمس الحاجة الى إعلام يحترم القواعد المهنية والموضوعية ولا يتخطى القانون الاخلاقي (اطيقا) ولا يروج للأكاذيب ولا يستخدم القدح والذم. وفيما عدا ذلك نحن بلد حريات ينص عليها الدستور بصراحة. فلقد لاحظنا في سياق تغطية استقالة الحريري انتشارا واسعا لنشر معلومات في وسائل الاعلام التقليدية دون أي دليل على صحة ما تم تناقله؛ مع ظهور وثائق مزورة (انظر مقالة لينا الخطيب في الحياة في 24 نوفمبر) تم تداولها عبر الانترنت وتم تعقبها وتبين ان مبعثها ايران.
هناك صحف ومطبوعات معروفة تروّج أخباراً مزيفة وتبث الشائعات والتهديدات والاخبار المفبركة دون ان تجد من يحاسبها.
تفيدنا آذر نفيسي الايرانية – الاميركية المعارضة، عن خطر السكوت:
“هنالك أشكال كثيرة من السكوت: السكوت الذي تفرضه بالقوة السلطات الاستبدادية على مواطنيها وتسرق ذكرياتهم، وتعيد كتابة حكاياتهم، وتفرض عليهم هوية بلورتها الدولة. او سكوت الشهود الذين يفضلون تجاهل الحقيقة أو عدم التحدث عنها، سكوت الضحايا الذين يصبحون غالباً شركاء في الجرائم التي ارتكبت ضدهم. ومن ثم هناك أنواع من السكوت نطلق لها العنان لها تتعلق بذواتنا، والقصص التي نفرضها بالقوة على حيواتنا الحقيقية”.
وكي لا نصل الى مرحلة لا يعود ينفع معها الندم، لن نكف عن المطالبة باحترام دستور البلاد الذي ينص بوضوح في مقدمته:
لبنان بلد سيد حر مستقل، وطن نهائي لجميع ابنائه.
لبنان عربي الهوية والانتماء وهو عضو مؤسس وعامل في جامعة الدول العربية وملتزم مواثيقها.
لبنان جمهورية ديموقراطية برلمانية، تقوم على احترام الحريات العامة، وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد، وعلى العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمايز او تفضيل.
وهذا ما يريده كل مواطن لبناني لا يقدم على ولائه لجنسيته اللبنانية أي ولاء آخر. وكل من يحتفظ بهوية ولديه ولاء يتعارض مع هذا الولاء للوطن فليحتفظ بهما لنفسه ولا يعلن علينا الحرب من أجل فرضهما علينا بالقوة.