د. منى فياض/العلاقات السورية اللبنانية وتهافت مقولة “لبنان سلخ عن سوريا” … التغريبة السورية 4

99

العلاقات السورية اللبنانية وتهافت مقولة “لبنان سلخ عن سوريا” … التغريبة السورية 4

د. منى فياض/استاذة جامعية/النهار/23 آب 2017

نسمع ونقرأ لمعارضين سوريين أعزاء، كتابا وصحافيين و”فايسبوكيين” وعاملين في مجال حقوق الانسان، مواقف تعبر عن عدم رضاهم عن تعامل اللبنانيين مع اللاجئين؛ مطلقين صفة العنصرية على لبنان وابناءه. وبالرغم من الاجحاف الذي يشعره واحدنا المشمول ظلماً في هذا التعميم، نتفهم غضب السوريين من الظلم الواقع عليهم ومن أوضاعهم غير المقبولة في لبنان وتركيا والاردن او أي بلد آخر؛ ونندد بكل أنواع العنصرية والاساءة المقصودة منها وغير المقصودة. كما ندين كل من اقتطع لنفسه من مساعدات المنظمات الدولية سواء من الجمعيات او السلطة.

مع ذلك يظل أول ما يتبادر الى الذهن: ألا يعطون، في توجيه غضبهم نحو لبنان حصراً، العذر للمسبب الأساسي لتهجيرهم وهدم بيوتهم أي نظامهم ورئيسه؟

لفهم هذا الاستسهال في نقد اللبنانيين ولومهم لا بد من العودة الى تاريخ العلاقات المتغيرة والتي شهدت تجاذبات وسادتها التوترات منذ تكوّن الدول الوطنية في المنطقة بحيث ترافقت مع اعتراضات القوميين العرب الذين رغبوا بالوحدة العربية و والاسلاميين في حنينهم للخلافة. من هنا مقولة البعض أن لبنان جزء من سوريا “سلخ” عنها.

ربما هناك من يوردها عن قناعة، وربما ينجرف البعض الآخر خلف بروباغندا النظام السوري الذي برر هيمنته على لبنان في مقولته الشهيرة: “شعب واحد في بلدين” مضمراً “شعب واحد، بلد واحد”. وربما يكون هذا الموقف تبريرا اخلاقيا للبعض الآخر لخضوعهم ولصمتهم عن الهيمنة على لبنان.

فهل حقاً ان لبنان “سلخ” عن سوريا التي هي الأصل ؟ ثم أصل ماذا؟

لن أعود هنا الى أدبيات القوميين اللبنانيين ولا الى لبنان المذكور أكثر من 70 مرة في التوراة وأرزه وانه أزلي ، ولا الى فينيقيّة لبنان ( والتي خففت من الغربنة المسيحية على كل حال) ولا الى الفحص الجيني مؤخراً الذي جعل من لبنان كنعاني الجذور وليس عربياً….

سأنطلق من الفكرة القائلة أن سايكس بيكو قسّم المنطقة، التي يتخيلونها في أذهانهم وكأنها كانت دولة وطنية بالمعنى الحديث بحدودهاً ودساتيرها وهويتها الثابتة!! أنها غير دقيقة وتحتاج الى إعادة صياغة. ففكرة ان سايكس بيكو رسم خطوطاً في الرمال وجعلها بلداناً وأوطانا، فكرة مجحفة وغير دقيقة ويجري إعادة نظر فيها. لأن ترسيم الحدود راعى وجود بلدان عريقة لها اسماء محددة: العراق وفلسطين ولبنان او سوريا ، كما راعى المكونات الانتروبولوجية وولاءات العشائر ورغباتها. وما رسم على الخرائط ليس هو تماما ما نفذ…الخ كما راعى مصالح انجلترا وفرنسا.

وكما هو معلوم ان السلطنة العثمانية التي لم تكن دولة وطنية بالمعنى الحديث. لقد ضمت فيما ضمّته ما يعرف بالهلال الخصيب او بلاد الشام، لكنها كانت دائما مترجرجة الحدود ومكوّنة من أقاليم وولايات وسناجق تتوسع او تضيق وتتغير حدودها جراء تجاذبات الحكام المحليين المعينين وتبديلهم وقوتهم (فسلطتهم المستمدة من الضرائب تجعلهم يحاولون ضم مزيد من الاراضي).

من هنا الحاجة الى التدقيق في التاريخ والتحقيب. فولاية عكا مثلا الحقت بولاية بيروت التي امتدت عام 1888 حتى دمشق وشمالا حتى اللاذقية. ومعركة الجرود ليست بعيدة عن هذه الحدود. دون أن نغفل أن لبنان وجد بخصوصياته منذ المتصرفية والقائمقاميتان وأخذ استقلاله قبل الجمهورية السورية!!

ما يعني ان لبنان دولة مستقلة شرعية قائمة بذاتها ولا تقل شرعية عن أي كيان آخر.

لذا لا طائل الآن من إثارة الحساسيات بين اللبنانيين والسوريين بعودة مجتزأة الى “تاريخ” قديم في مقابل التغافل مثلاً عن القهر الذي شعره اللبنانيين ابان الهيمنة السورية والغضب الذي يشعرونه الآن تجاه محاولات إعادتهم بالتشبيح الى الوصاية عينها.

اللبنانيون احتضنوا السوريين، ولا يزالون، ولم يحمّلوا اللاجئين وزر ممارسات النظام السوري في فترة احتلاله لما يزيد عن ربع قرن مارس خلالها جنوده فنون القمع فأهانوا اللبنانيين العاديين على الحواجز وأساؤوا معاملتهم واعتدوا على ممتلكاتهم وأن ضباطهم ومسؤوليهم اهانوا معظم أفراد الطبقة السياسية وألحقوها بهم في تبعية لا تزال تجرر أذيالها عند البعض منهم!!

الأمر الآخر المشكو منه يتعلق بالحق بالعمل. ومؤخراً اتُخِذَ من الاردن نموذجاً فيما يتعلق باستيعاب السوريين في سوق العمل. عند قراءة خبر العمالة في الاردن يتبين أنه “يخطط” لاستيعاب 50 ألف عامل سوري حتى نهاية العام في قطاع البناء وسيضم قطاع الزراعة وسيسمح لهم بالانتقال من والى مكان العمل. كما يحرص الخبر على الاشارة الى انها قطاعات غير مرغوبة من الاردنيين وبالتالي لن تنافسهم.

ماذا يعلمنا هذا الخبر ضمناً؟ انهم كانوا ممنوعين من العمل حتى في هذا القطاع ومن حرية التنقل. الامر الذي لا نسمع اعتراضات صاخبة عليه سواء من السوريين ولا من الناشطين الاردنيين ولا اشارة الى نصف المليون سوري المحتاجين الى عمل في الاردن.

واذا عدنا الى لبنان نجد انه اتبع مع اللاجئين القوانين المرعية بعمل الاجانب، الامر الذي تنص عليه الاتفاقية الدولية للجوء رغم انه لم يوقع عليها:

المادة ٧،الإعفاء من المعاملة بالمثل:١- حيثما لا تنص هذه الاتفاقية على منح اللاجئين معاملة أفضل، تعاملهم الدولة المتعاقدة معاملتها للأجانب عامة. والمادة ١٧العمل المأجور:١- تمنح الدول المتعاقدة اللاجئين المقيمين بصورة نظامية في إقليمها أفضل معاملة ممكنة تمنح، في نفس الظروف، لمواطني بلد أجنبي في ما يتعلق بحق ممارسة عمل مأجور.

وهذا العمول به، يسمح لهم بالعمل في 3 قطاعات يحتاجها وسبق ان عملوا بها: البناء والزراعة والنظافة. وفي الحقيقة لا أدري سبب هذه الضجة حول الموضوع في وقت ينوء فيه البلد تحت اعباء عجزه الاقتصادي ويعاني شبابه من البطالة والهجرة؛ خصوصاً في ظل سوء الادارة والمحاصصة والفساد المسببة لهذا الخراب!!

هذا مع العلم ان الاقتصاد الاسود او غير الشرعي صار يشكل ما يقارب 50% من اقتصاد البلاد الامر الذي يزيد من التدهور الاقتصادي والاجتماعي وانتشار المافيات الخارجة عن القانون. والاخوة السوريين متواجدين في هذا القطاع وفي غيره بطرق شرعية واخرى غير شرعية ومن ضمن منظومة الفساد المستشرية. ففتحوا المؤسسات والمطاعم والافران ودكاكين خضار ومحلات خياطة وغيرها. ففي الحي الذي اقطنه صارت جميع محال الخضر لسوريين وهم ينتشرون في المنطقة بكثافة. ومع ذلك لم اشهد اي مشكلة او شكوى او ان سلوك عنصري تجاههم. ومفهوم ان رب العمل اللبناني يلجأ الى اليد العاملة السورية لأنها ارخص. ومن الطبيعي ان يشعر اللبناني بالمنافسة وان يظهر انواع سلوك ربما تكون غير مقبولة.

انها ضريبة اللجوء الكثيف غير واضح الافق والكثافة الازدحام وتدهور نوعية الحياة للجميع وسوء الادارة السياسية. وهي ردود فعل موجودة في أرقى البلدان. وقد تؤدي الى بعض الانفجارات.

هذا ناهيك عن الاختلاف بين العقليتين اللبنانية والسورية التي يتجاهلها المجتمع الدولي حين يطالب بما يشبه التوطين؛ فبالرغم من التشابه على مستوى الماكرو، هناك اختلافات جمة على مستوى الميكرو، بسبب التجربة المختلفة والموقع ولأن الشعور الوطني بالانتماء لوطن يتطلب مجموعة عناصر من ارض واقتصاد وآمال وتاريخ مشترك. والنظامان الاقتصادي والسياسي على طرفي نقيض بين البلدين منذ 70 عاما ولهذا تبعاته الظاهرة للعيان، ولطالما كانت سويا أكثر محافظة.

كتب المؤرخ الألماني مومسن Mommsen : ان مقاطعة الالزاس هي مقاطعة جرمانية مستنداً الى العرق واللغة، فأجابه فوستيل دو كولانج سنة 1870 بأن ليس العرق واللغة هما ما سيجعلان من الالزاس جرمانية. ان الملاءمة الجغرافية او التوافق، والمصالح الاقتصادية والتجارية هي ما جمعت الناس لكي يؤسسوا دولاً. ليس لويس الرابع عشر من جعل الالزاس فرنسية، انها الثورة الفرنسية عام 1789 التي قامت بذلك. منذ ذلك الحين تبعت الالزاس مصائرنا وعاشت حياتنا وافكارنا. من السذاجة الاعتقاد انها المانية لانها كانت كذلك منذ عقود مضت”.

لذا من الأفضل للجميع العمل على مواجهة المخاطر المحدقة والمهلكة والعمل على انقاذ لبنان من العنف الحالي والقادم والتحلي بروح المسؤولية بين اللبنانيين والسوريين لتغليب نماذج القبول الناجحة بدل تعميم المشاهد المسفة والعنصرية وجعلها هي النموذج السائد والتي توزع علينا بقدرة قادر.

لنعترف ان ما يتحمله الشعب اللبناني يفوق قدرته.