لماذا يثق الناس بمار شربل؟ الياس قطار/الياس قطار/26 كانون الثاني/17
لستُ مدّعيًا التبشير وما أنا كذلك. لستُ مدّعيًا التعمّق في الكتب السماوية وما أنا كذلك. لستُ مدّعيًا الغوص في نقاشات دينية والمُحارجة حدّ الوقوع في فخّ اللامعرفة أو اللاقراءة وما أنا كذلك. جلّ ما في الأمر أن العينَ متصلةٌ في مكانٍ بأنسجة القلب والعقل الإيمانية. يعزز فيك ذاك العضو الصغير الذي يمنحُ بصرًا، بصيرةً دينية قد تحتاجُ الى التماسها لتصدّق على غرار توما.
على الدين تحفظاتٌ جمة. على بعض رجالاته تحفّظاتٌ جمة. ربما يمنح بعض أولئك ممن ليسوا على صورة الله ومثاله سلاحًا للمشككين، سلاحًا للقائلين إن الدين وُجِد لإخافة الشعوب. لا يهمّ. ليس العقل نقيضًا للإيمان كما صوّره الفلاسفة، ولا هو عدوًا لما زرعه الباري في كلّ إنسان، ولو لم يُرِده لما جعل أبناءه ناطقين متعقلين ولاكتفى بخلق غير العاقل. هي الحكمة التي تدفعنا الى تسويغ كلّ حالاتنا البيولوجية والنفسية، الى الاقتناع بالموت والحياة، الى البحث عن خلاصٍ لتلاشياتٍ جسديّة عابرة، الى الإيماء والتمتمة بما حفظناه مذ كنا يفعةً نتبرعم على الأبانا والسلام والفاتحة.
هي “أنانا” البشعة التي تتخمّر الى أن تستولد أنانيةً كريهة بكلّ صيغها. ربما لا عيب في ذلك والأمُّ ربة الأنانية عندما تفكّر في الإنجاب لانتشاءٍ ذاتي بغضّ النظر عن إمكانية فلاحها في ذلك أم لا. هي “أنانا” التي يحتملها الدين منّا. نرمي عليه كلّ بلاءاتنا، لا ندع الخالق يتنفّس بكثرة مشاكلنا. نظنّ أنه وُجِد لهذه الغاية، نقتنع بأنه أذنٌ مصغية للجميع حتى لو كان الملايين يناجونه معًا. لم يعد الخوف أحجية. هي الحاجة اليه، الى تلك السلطة العليا القادرة على تبسيط الأمور في وجه فلسفات الحياة وميتافزيقيّتها؛ القادرة على إبقاء الأوكسيجين حيًا في عروقٍ يائسة.
ليس ذاك الراهب الغريب من هذا العالم لا بل هو منه ومن صلبه، يزرع في كلّ متضرّع رجاءً، يوعز الى كاهن الدير بألا يحرم محجّبة من نعمة المناولة وينظرُ أخرى تسجد كسواها فاتحةً يديها الى السماء طالبةً شفاعته، وثالثة تحمل طفلها ولا تخشى تخبئة حجابها في طريقها الى المحبسة لأن هناك من قال لها إنّ شربل يستجيب ولا يفرّق، إنّ شربل لا يؤمن بالجغرافيا ولا باللون ولا يميّز بين وشاحٍ مريمي وحجابٍ محمّدي. اقتنعت تلك السيّدة، آمنت ولو بتمثالٍ لا تأخذ على نفسها وضعه في منزلها، آمنت فقصدت. آمنت فأضاءت وجهها بشمعةٍ، ولامست ثوبه، وتذوّقت ترابَه، ورسمت إشارة لم تعتَد رسمَها بزيته.
رهيبٌ حجم الثقة فيه. رهيبٌ حجم تحمُّله لهذا الكمّ الهائل من المتقاطرين اليه، المعوّلين عليه. رهيبٌ حجمُ الحبّ والتقدير اللذين يعششان في نواصي عنايا.
هذي ليست شهادة حياة ولا هو استعطاء إيمان ممن لا يريدونه أو يريدونه ويخجلون به أو يشككون فيه. هذا حكمُ العين بالنسبة الى كاتبٍ عادي وحكمُ العين والقلب بالنسبة الى مبتدئٍ بسيط لكن مقتنع في مفاهيم الإيمان. هذي ليست مواعظَ من قبيل تلك التي اعتادها الناس مقرونةً بكثير من عواطف الدفاع عمّن أهان قديسَ لبنان أو استخفّ بأعاجيبه، هي مجرّد قناعة. هو مجرّد حبٍّ ينمو بصمتٍ من حيث لا يدري بنو الإنسان. هو مجرّد فعلٍ نمارسُه صغارًا من دون أن نفهم سوى أنه واجبٌ علينا، ونبقي على ممارستِه كبارًا بعد أن نفهم أنه أبعد من واجب؛ أنه صلبُ يومياتٍ يخترقها بسُبحةٍ وصلاة صاحبُ الرداء الأسود والذقن المهيبة والعينين شبه المغمضتين… شربل، ابن الدين كلّ الدين، والجغرافيا كلّ الجغرافيا.