إستشعار سياسة الإدارة الأميركية في عهد ترامب (الجزء الأول)
خليل الحلو/نائب رئيس حركة لبنان الرسالة/23 كانون الثاني/17
يهدف الجزء الأول (من أصل أربعة) في هذه المقالة التحليلية إلى تسليط الضوء على سياسة الإدارة الأميركية الجديدة من خلال تصاريح ومواقف ومنشورات الرئيس دونالد ترامب أثناء حملته الإنتخابية، ومن خلال مواقف إدارته الجديدة خلال الفترة الإنتقالية، خصوصاً منطقة الشرق الأوسط.
نتناول في هذا الجزء، السياسة الداخلية وإنعكاساتها الخارجية على منطقة شرقي آسيا تحديداً، التي تعتبر اليوم “مصنع العالم”.
إستراتيجيات دونالد ترامب
إستلم الرئيس الـ45 للولايات المتحدة الأميركية دونالد ترامب مهامه في العشرين من كانون الثاني 2017 وسط تساؤلات المراقبين عمـّا ستكون سياسة إدارته الخارجية وتحديداً فيما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط، خصوصاً وأن شعاره خلال حملته الإنتخابية كانPeace through strength أي “السلام من خلال القوة”، وأن رؤيته الإستراتيجية التي أعلن عنها هي السعي لإستقرار عالمي وتخفيف حدّة ووتيرة الأزمات، والدفع بإتجاه مساحات مشتركة أكبر بين الدول، كل ذلك من خلال تقوية قدرات الولايات المتحدة العسكرية والمعلوماتية والنووية الكفيلة بردع أي جهة تسعى للنيل أو تقويض قوّة أميركا. هذا يعني أن ترامب يسعى إلى التخلي عن الإستراتيجية الأميركية الحالية القائمة على بناء الدول وتغيير الأنظمة، والإكتفاء بالقوة الرادعة وحثّ الحلفاء على تحمل مسؤولياتهم الأمنية والدفاعية والإتكال بوتيرة أقل على واشنطن.
هذه السياسة الخارجية المعلنة ستكون متزامنة ومتناغمة مع سياسة داخلية قائمة على إنعاش الإقتصاد الأميركي وتحقيق النمو، وهي الأهم بالنسبة لترامب، وهي التي جذبت الناخبين إليه، إذ ان الولايات المتحدة منهمكة منذ 26 عاماً في حروب دائمة، فمنذ إنهيار الإتحاد السوفياتي في العام 1990 أتت حرب العراق الأولى ثم حروب البلقان في البوسنة وصربيا وكرواتيا وكوسوفو ثم حرب أفغانستان التي هي أطول حرب خاضتها أميركا والتي لم تنته بعد، ثمّ حرب العراق الثانية والحرب المستمرة ضد القاعدة والنصرة وداعش وغيرها من التنظيمات المتطرفة في العراق وسوريا وليبيا واليمن وفي مناطق أخرى من العالم … . هذه الحروب التي أتعبت الرأي العام الأميركي وجعلته يتوق إلى من يهتم بمعالجة مشاكله الداخلية وأوضاعه الإجتماعية والإقتصادية، وهذا الوعد حقّق الربح لترامب اتجاه الناخبين، أكثر بكثير من خطابه الشعبوي والقومي.
سياسة داخلية ذات إنعكاسات خارجية
تستحوذ السياسة الداخلية على الجهد الأساسي للإدارة الجديدة، ولا يمكنها إلا أن تنعكس عالمياً كون الولايات المتحدة قوة عظمى، وإنعاش الإقتصاد الأميركي هو الأولوية القصوى بالنسبة لترامب، رجل الأعمال الناجح، وينوي تحقيق ذلك عن طريق تطوير البنى التحتية من طرق مواصلات وقطاعات خدمات، وإصلاح ضرائبي، والأهم بنظره تفعيل وتطوير الصناعة في إعادة المصانع الأميركية إلى الداخل بعد عقدين من العولمة وإنتقال قسم كبيرمنها إلى الخارج، خصوصاً إلى شرقي آسيا حيث اليد العاملة والتصنيع أقلّ كلفة.
توقعات ترامب في عودة الصناعة إلى الداخل بعد هجرتها الخارجية، ستؤدي إلى ارتفاع فرص العمل وانتعاش الإقتصاد، ومن اجل بلوغ هذه الغاية، تنوي إدارته زيادة الرسوم الجمركية على السلع المصنعة في بلدان تعتبر شريكة تجارية للولايات المتحدة كالصين وفيتنام وكوريا الجنوبية وماليزيا، حيث تنتشر المصانع الأميركية داخل أراضيها.
في هذا السياق، يخشى بعض المراقبين أنه مع زيادة الرسوم على السلع المستوردة، من المتوقع أن ترتفع الأسعار بشكلٍ حاد وصولاً إلى فقدانها من الأسواق الأميركية والدولية. هذا الأمر إذا حصل سوف يضع العديد من الشركات الأمريكية وسط حروب تجارية خارجية مزعجة وربما كارثية، وستكون هذه الشركات أول المتضررين من جراء هذه السياسة الجمركية، والتي تطال السلع التي تصنّعها، وربما تضطر إلى الإقفال وحرمان الأسواق العالمية من انتاجها، كما يمكن للصين أو أيّ دولة أخرى إتخاذ إجراءات ضرائبية أو مالية بحق الشركات التي لها مصانع أو مصالح على أراضيها.
هذا التصعيد المتوقّع من بعض المراقبين، يمكن أن يتفاقم في حال اعترف ترامب بالصين الوطنية (المعروفة بتايوان) كدولة ذات سيادة إلى جانب الصين الشعبية مما يدفع الأخيرة إلى صراع مع تايوان، ينتج عنه بلبلة ونقص في الأسواق العالمية للجزئيات الإلكترونية والمعلوماتية والحواسيب، نظراً إلى ترابطهما في تصنيع هذه الجزئيات، خصوصا الاستثمارات التايوانية داخل الصين.
وفي حال نشوب هذه الأزمة، يُمكن للبحرية الأميركية (الأقوى في العالم)، أن تعرقل الملاحة في بحر الصين شمالاً لجهة تايوان، وجنوباً لجهة مضيق مالاكا بين ماليزيا وإندونيسيا وسنغافورة، والذي يربط شرقي آسيا بالهند والخليج العربي وأوروبا. بمعنى آخر، عرقلة وصول المواد الأولية والنفط إلى الموانئ الصينية، وتصديرها عبر المحيط الهادئ، مع الإشارة إلى أن الصين تعتمد بشكل أساسي على التصدير لتأمين مداخيلها.
هذا هو المنطق الذي يمكن أن يسود جراء سياسة حماية الأسواق الأميركية الذي تحدث عنها ترامب خلال حملته الإنتخابية، وما يمكن أن ينتج من إرتدادات على مستوى العالم ويجعل من المحيط الهادئ وبحر الصين الجنوبي منطقتي توترات ساخنة، مما يجبر واشنطن على التورط في نزاعات ربما عسكرية لا تريدها أصلاً.
إستشعار سياسة إدارة ترامب: الشرق الأوسط (الجزء الثاني)
الثلاثاء , ٢٤ كانون الثاني ٢٠١٧
يتناول الجزء الثاني من المقال مستقبل العلاقات الأميركية الروسية على ضوء تصاريح بوتين وترامب وأيضاً على ضوء ثوابت الجغرافيا السياسية.
العلاقات الأميركية –الروسية في عهد ترامب
لا يرى ترامب في روسيا خطراً وجودياً على الولايات المتحدة فهي ليست الإتحاد السوفياتي السابق وقوتها الحالية أدنى بكثير مما كانت عليه ابان الحقبة الشيوعية، كما أن حلف “وارسو” لم يعد موجوداً، والخطر العقائدي على الدول الغربية بات من الماضي.
في المقابل يرى ترامب أن روسيا هي التي تشعر بالخطر الوجودي اليوم في ظل تعدد الإتنيات على أراضيها الواسعة، والأزمة الإقتصادية – الإجتماعية التي تعيشها، والتهديدات من الدول الحدودية على مرأى القيادة الروسية.
بعد سقوط جدار برلين في العام 1990 وانهيار الإتحاد السوفياتي، إنضمت معظم دول أوروبا الوسطى والشرقية (الشيوعية سابقاً)، إلى “حلف الناتو” ما عدا أوكرانيا وبيلوروسيا وجورجيا، وقد رأى بوتين في ذلك كارثة كبيرة وتطويقاً لروسيا تمهيداً لتفكيكها من الداخل، لذلك عندما سعت جورجيا للإنضمام إلى حلف الناتو قامت موسكو بغزو أراضيها في العام 2008، وفي العام 2014 عندما بدت ملامح تقارب جدّي بين أوكرانيا والناتو، أرسلت روسيا جيشها إلى الأراضي الأوكرانية لمساندة ميليشيات الأقلية الروسية في مقاطعة “دونباس” التي تسعى للإنفصال عن كييف، كما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم، مما دفع الغرب إلى فرض عقوبات إقتصادية كبيرة عليها، سارية المفعول حتى الآن وخانقة ومسببة لأزمات إجتماعية – إقتصادية حادة في الداخل الروسي.
اعتبر بوتين أنه في حال إنضمت أوكرانيا وجورجيا إلى حلف الناتو، سيكون ذلك خطراً وجودياً على روسيا، وهو لم يتردد في إستعمال القوة العسكرية لمنع ذلك، ويركز إستراتيجيته على نقطتين أساسيتين:
الأولى، بناء الهوية الوطنية الروسية لتمتين التماسك الداخلي الذي يمتدّ على مساحات شاسعة، ولكي يتحمل الشعب الروسي الضائقة الإقتصادية والإجتماعية ويتخطاها بروحٍ قومية، لكنّ هذا العامل غير كاف لتحقيق الاستقرار والوحدة الداخلية.
الثانية، حماية حدود روسيا من الغرب ومن الجنوب الغربي بالقوة العسكرية، وبسط نفوذ روسيا داخل الدول المحيطة بها لتخفيف خطرها، بشتى الوسائل واهمها: سلاح النفط والغاز وخلق لوبي موالٍ لموسكو داخل هذه الدول، يتكون من الأقليات الروسية التي تعيش فيها منذ أيام الإتحاد السوفياتي. بتعبير آخر يسعى بوتين لإستعادة نفوذ روسيا في الدول التي كانت تحت النفوذ الشوعي وتحديداً في جورجيا وأرمينيا وأوكرانيا ودول أوروبا الشرقية، وذلك، تمهيداً لإنتزاع إعتراف بهذا النفوذ من قبل الدول الغربية في مرحلة لاحقة، من أجل ضمان عدم التدخل الخارجي في شؤون بلاده، كي يتفرغ لمعالجة المشاكل الداخلية الضاغطة.
ترامب وبوتين والشؤون الأوروبية
ما يقلق بوتين هو أن إدارة ترامب أوضحت على لسان وزير خارجيته ركس تيلرسون ومندوبة واشنطن الجديدة في الأمم المتحدة نيمراتا هالي، التي تعتبر أن الخلاف مع روسيا يخص الشؤون الأوروبية.
بالمقابل، وفي سياق الغزل المتبادل على وسائل الإعلام بين ترامب وبوتين هناك إحتمالات كبيرة في أن تخفف واشنطن من لهجتها حول مسألة ضم شبه جزيرة القرم من قبل روسيا وإزالة هذه الإشكالية من أولويات سياستها الخارجية، وهناك إحتمال أن تعترف واشنطن بنفوذ موسكو في شرقي أوكرانيا. هذه الخطوات المحتملة هدفها التمهيد لتخفيف العقوبات الأميركية والغربية المفروضة على روسيا، وهذا ما يمكن أن يدفع بترامب لبدء حوار مع روسيا لهذه الغاية، خصوصاً وأن وزير خارجيته ركس تيلرسون يعرف جيداً الشخصيات النافذة في الكرملين على مدى سنوات خلال توليه إدارة شركة أكسون موبيل النفطية ومفاوضاتها على إستثمار حقول نفطية روسية في المحيط المتجمد الشمالي، ولكن من المعروف أن مفاوضات الأعمال مع روسيا تختلف عن مفاوضات تحجيم النفوذ الغربي عن محيطها.
وأصبح واضحاً أن إدارة ترامب لن تستعمل القوة العسكرية الأميركية المنتشرة في أوروبا وعلى الحدود الغربية لروسيا، والتي هي ضمانة لحلفاء الناتو. هذه القوى العسكرية تشكّل ورقة ضغط على موسكو التي تبذل جهوداً كبيرة لإظهار نفسها كقوة دولية عن طريق التدخل العسكري في سوريا وحشد قواتها البحرية مقابل الساحل السوري، كما أن موسكو لا تخفي ما تقوم به من تطوير لقدراتها العسكرية والنووية والصاروخية التي تشكل تحدياً للقوة العسكرية الأميركية.
تحافظ روسيا على موازنة عسكرية كبيرة رغم ضائقتها الإقتصادية وحاجتها الماسة لإستثمارات أجنبية وسيولة نقدية. هذا التطوير لقوتها العسكرية وعرضها يصبّ في سبيل تحقيق إستراتيجية بوتين القائمة على تنمية الشعور القومي والوطني من جهة والدفاع عن حدوده الشاسعة من جهة أخرى. بالإضافة إلى عاملٍ آخر يشجع موسكو على المضي قدماً في هذه السياسة، ألا وهو، احتمال التفكك الأوروبي بخروج بريطانيا من الإتحاد وتصاعد نزعة القوميات في فرنسا وألمانيا وإيطاليا، مما يضعف حلف الناتو. وتجدر الإشارة إلى أن روسيا تُدرك تماماً، أنها لا يمكنها أن تراهن على تفكك هذا الحلف. بإختصار، هناك ثوابت تفرضها الجغرافيا السياسية، نتيجتها خلافات استراتيجية أميركية – روسية، لا يمكن للإدارة الاميركية الجديدة تخطيها مهما كانت العلاقات جيدة بين ترامب وبوتين.
(يتبع في الجزء الثالث)