حرب تحرير الميثاق
الـيـاس الزغـبـي/لبنان الآن/17 أيلول/16
كأنّ لا شيء تغيّر منذ قرابة 28 عاماً، ولم يدُر الزمن جيلاً كاملاً، ولم تتغيّر مشاريع وتوازنات ومصالح، وتختلط أوراق، وتدوّل دول.
وكأنّنا عشية “حرب التحرير” التي أعلنها وبدأها رئيس الحكومة العسكريّة الانتقاليّة العماد ميشال عون في 14 آذار 1989، تحت شعار “تكسير رأس حافظ الأسد” وتحرير لبنان من الاحتلال السوري، مع التطابقات والفوارق الآتية:
– في التطابق، تفرّد بإعلان “الحرب”. سنتذاك، أعلن عون منفرداً وبقرار ذاتي الحرب على الجيش السوري، بدون استشارة حتّى وزيريه في الحكومة “المبتورة”، وبدون علم قوّة عسكريّة وازنة ذات دور محوري في محاربة جيش النظام السوري، أي “القوّات اللبنانيّة”، ولا المرجعيّات الروحيّة والسياسيّة، ولا الدبلوماسيّة. فجرّ الجميع إلى الأمر الواقع الذي فرضه، وكان ما كان… ممّا نذكره! واليوم، ينفرد بإعلان “حرب تحرير” الميثاق وخوضها.
– في الفوارق، لا سلاح مدفعيّة ودبّابات، بل سلاح “الأقدام” والشعار الغائم “الميثاقيّة”، وشعارات فرعيّة مفخّخة بالسمّ الطائفي. فعلى الأقلّ كان شعار حرب 1989 وطنيّاً بطابع تحريري عسكري، بينما شعار اليوم سياسي مصلحي بطابع فئوي، خارج الوحدة الوطنيّة.
– آنذاك، كان هناك تعاطف لبناني عابر للطوائف مع “حرب التحرير” ومشاركة فعليّة في وحدات الجيش المقاتلة. كان تعاطفاً مكتوماً في معظمه بسبب الترهيب والإرهاب اللذَين مارسهما نظام الاحتلال في مناطق سيطرته، وكان من تجلّياتهما على سبيل المثال، اغتياله المفتي حسن خالد والنائب ناظم القادري.
ونرى اليوم انكفاءً واضحاً من الطوائف عن تأييد “حرب التحرير” الجديدة باسم الميثاق. ولعلّ استنكاف “حزب الله” عن تغطيتها بـ”شعبه” و”مقاومته” أبلغ دليل على عزلة “المحارب”، فقد اكتفى بالتضامن المشهدي الاستعراضي الصوري في مجلس الوزراء، لمرّة واحدة وأخيرة!
– وتستنكف القوى المسيحيّة الحيّة، وفي طليعتها بكركي و”القوّات اللبنانيّة” وحزب “الكتائب” و”المردة” والشخصيّات البارزة وقادة الرأي، عن تأييد “حرب” عون الجديدة، لعلمها بعدم جدوى وسيلة “الأقدام” في تحقيق الأهداف واسترجاع الحقوق. فقد تنجح “الأقدام” في تحقيق مصالح شخصيّة فرعيّة وآنيّة عبر استرضاءات ومسكّنات، كما حصل سابقاً، لكنّها لا تصحّح مساراً وطنيّاً، ولا تُنقذ ميثاقاً، ولا تسترد حقوقاً ومواقع. وكلّ ما من شأنها أن تفعله هو فتح مصير لبنان، وتحديداً مصير مسيحيّيه، على المجهول.
وإذا كان ميشال عون قد فرض سنة 1989 إيقاعه العسكري المنفرد على “القوّات اللبنانيّة”، فساندته في الميدان وشاركت بفعاليّة في حربه ولو عن غير اقتناع بنجاحها، فإنّها تنأى بنفسها اليوم عن حراكه الدونكيشوتي الضرير، ولا ترى فيه أي جدوى، بل نتائج عكسيّة. وليس لتحالفهما الرئاسي وورقة النقاط العشر المعروفة بـ”ورقة معراب” أيّ أثر في دعم هذا التحرّك.
وقد كان تحرّك “القوّات اللبنانيّة” في الأشرفيّة قبل يومين بليغاً كرسالة تقول بأنّ الأولويّة هي لبناء الدولة بدءاً من رأسها، وتكريس السيادة باستدعاء ومحاكمة الضبّاط السوريّين الذين يفجّرون ويغتالون في لبنان، وإرساء مبدأ “شعب لا يموت” قبل أيّ متاهات أُخرى.
وأرادت أن تذكّر بأنّه من هنا يبدأ حلّ أزمة لبنان، ومن هنا تبدأ ميثاقيّته وحقوق مكوّناته، عبر تركيز الهرم على قاعدته وليس على رأسه.
فتجربة “حرب التحرير” العسكريّة أدّت إلى وبال مشترك وأنتجت كوارث ثلاثاً: “حرب الإلغاء” الداخليّة، وتنازلات “الطائف”، واستباحة جيش الاحتلال السوري ما كان تبقّى من مناطق حرّة بما فيها سيادة القصر الجمهوري ووزارة الدفاع، وما فيهما من ملفّات وأسرار… وكرامة وطنيّة. فماذا ستكون أثمان “حرب تحرير” الميثاق؟
لا يمكن لأيّ عاقل إعادة تجريب المجرّب.
هذا “العاقل” يدرك سلفاً أنّ التورّط في “حرب تحرير” جديدة ومرتجلة تحت عناوين الميثاق والشراكة والحقوق، سيؤدّي حتماً إلى متاهة يدخلها المسيحيّون ولن يخرجوا منها إلاّ بانتكاسات وخسارات جديدة، ليس أقلّها ما يلوّح به أهل “المؤتمر التأسيسي” عبر خريطة جديدة للتوازنات والصلاحيّات، وسيترحّمون فيها على “اتفاق الطائف”.
وعلى السكارى بلغة التهديد بالشارع وخبط الأقدام أن يتّعظوا من النتائج السلبيّة عليهم وعلى المسيحيّين لـ”شوارعهم” السابقة، منذ “مليونيّات” قصر بعبدا، إلى آلافيّات السنة الفائتة: عراضات شعبويّة، واسترضاءات هزيلة، وزوابع في فناجين الأزمة.
إنّهم الآن يتسلّقون شجرة شعاراتهم العالية، وقريباً سيجدون أنفسهم يستغيثون لإنزالهم عنها.
ومَن سيُلبّي نداء الاستغاثة سوى الحليفَين النقيضَين، “حزب الله” عن الميسَرة و”القوّات اللبنانيّة” عن الميمَنة؟… وكفى المؤمنين شرّ القتال !