من بشار الإيراني إلى بشار الروسي
عمر قدور/المدن/الثلاثاء 13/10/2015
على التوالي التقى الرئيس الروسي بوتين، يوم الأحد الماضي(11 تشرين الأول)، ولي عهد أبو ظبي وولي ولي العهد السعودي، وبحسب ما تسرب من أخبار ثمة ليونة في مواقف البلدين إزاء التدخل الروسي في سوريا. الموقف الإماراتي كان متوقعاً، وراجت تسريبات صحافية من قبل عن دعم الإمارات تدخل موسكو، بخاصة عندما التقى بوتين ولي عهد أبو ظبي وملك الأردن والرئيس المصري قبل نحو ثلاثة أسابيع. الذي تخلله بعض من التغيير هو الموقف السعودي، فبحسب ما نقلت هيئة الإذاعة البريطانية عن وزير الخارجية السعودي: السعودية ترغب في تشكيل حكومة انتقالية في سوريا، ستقود في نهاية المطاف إلى رحيل بشار الأسد عن السلطة. بيت القصيد في التصريح السابق هو استخدام تعبير “حكومة انتقالية” بدل “هيئة حكم انتقالية” كاملة الصلاحيات، بحسب التفسير السعودي المعهود لبيان جنيف1، وأيضاً الإشارة إلى رحيل بشار في نهاية المرحلة الانتقالية، لا تعني اشتراطا لرحيله الفوري، أو خلال مدة قصيرة جداً. لكن الدلالة على التقارب في الموقفين الروسي والسعودي لا تقتصر على تلك التصريحات، بل تتعداها إلى المضي في العديد من مشاريع التعاون المشترك، بما فيها التعاون العسكري في سوريا بحسب تصريح لافروف!
لقد كُتب سابقاً الكثير عن يأس خليجي من إدارة أوباما التي أدارت ظهرها لحلفائها كرمى للاتفاق النووي الإيراني، ما دفع دول الخليج إلى المبادرة تجاه موسكو لإيجاد نوع من التوازن في علاقاتها الدولية، وأيضاً محاولة منها لاستمالة موسكو وفكّ تحالفها الوثيق مع طهران. في الجانب السوري، سيكون مفيداً هنا تذكر زيارة المسؤول الأمني البارز في نظام الأسد “علي مملوك” ولقائه ولي ولي العهد السعودي في الأسبوع الأول من شهر يوليو الفائت. فبحسب ما سرّبته وسائل الإعلام السعودية عُرضت عليه مقايضة مفادها انسحاب ميليشيات حزب الله والميليشيات الشيعية الأخرى من سوريا، مقابل وقف السعودية دعمها المعارضة. المطلب الذي عدّته الأوساط السعودية إحراجاً لنظام الأسد أمام موسكو، تستطيع الأخيرة القول بأن تدخلها يحققه الآن. فبشار المرتهن تماماً للحرس الثوري الإيراني لم يعد كذلك بعد أن أصبح في عهدتها. تستطيع موسكو أيضاً تأييد مزاعمها بأنها بدأت فعلاً بتفكيك ميليشيات الدفاع الوطني، وهي ذراع إيران في سوريا، وبأنها الآن هي التي تدير غرفة العمليات العسكرية من دون مشاركة الحرس الثوري. ما تبيعه موسكو هو التالي: لقد جربتم بشار الإيراني، ولم يكن مسموحاً لكم إسقاطه، بل رأيتم كيف تغلغل النفوذ الإيراني في المنطقة، إذاً عليكم المفاضلة بين بشار الإيراني وبشار الروسي. مع بشار الروسي تتخلصون من التبعات المرهقة للصراع الشيعي السني، من دون أن تخسروا شيئاً بما أن سوريا لن تكون لكم ولن تكون لإيران. هو أيضاً ذاته ما تبيعه موسكو لإسرائيل، فموسكو الممسكة تماماً بالنظام، والتي تربطها علاقة ممتازة بتل أبيب، أفضل للأخيرة من طهران، وقد لا تحتاج مع وجود ضمانة روسية أكيدة إلى قصف شحنات أسلحة تشك في وجهتها. تل أبيب التي لا تريد إيران على حدودها، وتخشى سيطرة جماعات متطرفة على الجانب السوري من حدودها، لا يُستبعد أن ترى في الجار الروسي الجديد حلاً أمثل حالياً.
غير أن ما تسوقه موسكو إقليمياً لا يملك القيمة ذاتها سورياً. فالسوريون لا يضعون أنفسهم أصلاً على خط الصراع السني الشيعي في المنطقة، لسبب بسيط هو أن عدد الشيعة في سوريا هو من التواضع بحيث لا يثير أدنى مشكلة. المشكلة بدأتها إيران عندما وضعت السوريين في خانة أعدائها السنّة. بخلاف لبنان والعراق، لا تملك إيران في سوريا قاعدة مذهبية تمكّنها من بسط نفوذ مستدام. ولم يكن السوريون عموماً ينظرون إلى طهران وحزب الله كعدو قبل أن يضعا ميليشياتهما في هذا الموقع. أي أن القضية السورية منفصلة إلى حد كبير عما يسمى صراعاً سنياً شيعياً في المنطقة، وإن تحولت سوريا إلى ساحة معركة لذلك الصراع فهذا لا يحجب الصراع الأصل، وهو صراع داخلي على نوعية السلطة وعدالة تمثيلها. حتى المسألة الطائفية في سوريا يصعب إدراجها ضمن الصراع الطائفي الإقليمي على المدى البعيد، لأن المظلوميات الأقلوية السورية التاريخية لا تتغذى من فكرة الثأر المقدس المرتبطة بحرب يزيد والحسين.
الجانب الأهم هو أن السوريين غير معنيين بالفوارق التي تريد موسكو ترويجها بين بشار الإيراني وبشار الروسي. مشكلة السوريين هي مع بشار الكيماوي وبشار البراميلي… إلى آخر ما هنالك من أصناف الأسلحة التي استخدمها ضد إرادتهم. ولو أصبح بشار الأسد غداً أمريكياً أو سعودياً أو إماراتياً، على سبيل المثال، لما انتفت المشكلة ولن يتوقف سعيهم إلى التغيير. والحل الذي يطالب به السوريون، وإن بدأ برحيل بشار فهو لا يتوقف عنده، هو الحل الذي يضمن حقوقهم وكراماتهم التي لا ينبغي أن يُنتقص منها في أية تسوية دولية أو إقليمية. إذا كان النظام قد أصبح وكيلاً للاحتلال الإيراني والروسي على التوالي فالسوريون لم يرهنوا إراداتهم على نحو ما فعل النظام، ولا تستطيع أية قوة إقليمية أو دولية المباهاة بسيطرتها عليهم، حتى إذا سيطرت على بعض أطر المعارضة أو بعض الفصائل المقاتلة على الأرض. نعم، يحدث في أية حرب أن يكون هناك تقاطع في المصالح، ويحدث أيضاً أن تفترق مصالح الحلفاء، وربما لا يرى بعض القوى الدولية والإقليمية ضرراً في منح موسكو مهلة لاختبار النوايا. السوريون لا يملكون ترف الانتظار، فهم قد خبروا نوايا موسكو منذ بدء الثورة.
«لعبة الوطن» في «الحرب اللبنانية الباردة»
فـــؤاد مطـــر/الشرق الأوسط/14 تشرين الأول/15
افترض اللبنانيون، المكتوون بنار المتلاعبين بهم من معظم رموز العمل السياسي الحزبي والحركي والتياري، أن «لعبة الوطن» المتفرعة من «لعبة الأمم» التي كثيرًا ما أفرزت مغامرات انقلابية في بعض دول العالم العربي أسست لما باتت تعيشه المنطقة لاحقًا، ستضع حدًا لها بعدما تهادن النظام الإيراني مع الإدارة الأميركية، ويطلب الذين يمعنون في الإساءة للوطن الصغير الاعتذار من اللبنانيين على ما ألحقوه بهم من أذى متلاعبيهم طوال عشر سنين ذاق المواطن اللبناني فيها مرّ العيش. ولكن الضجيج الإيراني الذي يتواصل بعد إبرام الاتفاق النووي، وإطلاق الكثير من الكلام الذي يرمي منه قائلوه، ومن بينهم المرشد خامنئي وبعض رجال الدين الممسكين بمناصب دينية إرشادية وسياسية وكذلك رموز التشدد المتحالف مع جنرالات الحرس الثوري، التغطية على القبول الضمني والاضطراري بالاتفاق، جعل «لعبة الوطن» في الميدان اللبناني لا تتوقف، ويزداد تبعًا لذلك التعطيل على الصعيد الاقتصادي والتجاري والسياحي، حيث شبح الإفلاسات يخيم في محيط الأسواق الكبرى والصغرى على حد سواء، وعلى الصعيد الدستوري حيث خلا موقع الرئاسة الأولى (حصة الطائفة المارونية) في النظام من الشخص الذي عطَّل المعطِّلون، ومن بينهم أقطاب موارنة أبرزهم الجنرال ميشال عون المتحالف مع «حزب الله»، انتخابه وفْق الأصول، بحيث يجتمع مجلس النواب وبكامل أعضائه في الموعد المحدَّد دستوريًا، ويتم في الجلسة انتخاب رئيس للجمهورية، وبعد ذلك فليتواصل الصراع إلى أن يحل التعب على همة المتصارعين. لكن الغرض هو إلحاق المزيد من الضرر بمصالح الناس، والكثير من الإساءة إلى الأصول. ولو أن المؤسسة العسكرية في لبنان ليست على شاكلة المؤسسات المدنية من حيث المحاصصة الطوائفية لكان اللبنانيون المكتوون بنار المتلاعبين من معظم رموز العمل السياسي والحزبي والحركي رحبوا خير ترحيب بعملية انقلابية تنهي هذا الجنوح المؤذي نحو تعطيل البلد من جانب رموز قيادات سياسية وحزبية يؤدون أسوأ الأدوار في «لعبة الوطن» السيئة بامتياز.
وافترض اللبنانيون، المكتوون إياهم بعد مناشدة طيِّبة أتتهم من السعودية في الوقت الذي بلغ الضيق أشده، أن نشطاء «لعبة الوطن» سيتصرفون بما من شأنه تحقيق انفراج في الوضع الذي بلغ درجة عدم التحمُّل، خصوصًا مع حلول استحقاقات الأقساط والالتزامات المدرسية، تزامنًا مع أزمة النفايات المتكدسة في معظم شوارع العاصمة والبلدات، فضلاً عن أزمات كثيرة معيشية وأخلاقية وصحية تتنقل من سنة إلى أُخرى نتيجة أن نشطاء «لعبة الوطن» أو فلنقل التلاعب به لا يتوقفون عند حد. وهذه اللعبة أفرزت حالة أكثر سوءًا جديدة على الأحوال العامة في الأوطان، ذلك أن المتعارَف عليه هو أن الشعوب تكون عادة هي المشكلة في وطن من الأوطان، وتكون مؤسسة الحُكْم هي الحل. لكن الوضع في لبنان ونتيجة «لعبة الوطن» انتهى إلى العكس حيث إن المشكلة الحقيقية تكمن في مؤسسة الحُكْم، لأن كثرة من أعضاء البرلمان إما لا يحضرون إلى جلسة تم تحديدها لانتخاب الرئيس، وهو حضور واجب ينص عليه دستور البلاد، وهم إذا حضروا فإنهم للتعطيل وليس لأداء الواجب، وحيث قلة من الوزراء في الحكومة يتصرفون ضد ما يطلبه المواطن أو ينتظره منهم. ومثلما أنه لو كانت المؤسسة العسكرية عكس ما هي عليه، بمعنى أنها ليست انعكاسا لظاهرة المحاصصة الطوائفية، لوضعت حدًا لكل سياسي أو حزبي يمارس دورًا تعطيليًا مكلَّفًا به من خارج الحدود، فإن الحكومة لو أن تشكيلها يتم خارج ما هو حاصل، أي أن من يترأسها يكون واجبه خدماتيًا أكثر منه سياسيا ويكون هو مَن يختار فريق عمل ينفِّذ خريطة طريق إصلاحية وتطويرية، وليس كما الحال المألوف تنفيذ مضامين بيان وزاري في معظمها مطالب تعجيزية لأطراف تشارك في الحكومة… إنه لو كان أمر الحكومة على نحو ما نشير إليه فإن المواطن سيشعر أن الحكومة حكومته وليست حكومة طرف خفي، أو أنها بالمشاركين فيها وبما يمثِّلون لهذا الحزب أو التيار أو الحركة ليست حكومة تسيير أمور العباد وتنشيط الازدهار في البلاد.
كانت المناشدة السعودية عبارة عن كلمة من نوع ما قل ودل، وخشية على وطن عزيز من الدولة المناشِدة ألقاها سفير خادم الحرمين الشريفين لدى لبنان علي عواض عسيري مساء 17 سبتمبر (أيلول) الماضي في حفل شارك فيه بتلقائية وعفوية اللبنانيون بكافة أطيافهم وطوائفهم، الماروني إلى جانب السُني إلى جانب الشيعي إلى جانب الكاثوليكي إلى جانب السرياني إلى جانب الأرمني إلى جانب الدرزي إلى جانب الأرثوذكسي إلى سائر ممثلي المجتمع المدني. وكما أهل السياسة، كذلك أهل المؤسسة العسكرية والدينية بكافة المذاهب، جاءوا مقدِّرين نوايا السعودية وحرص الملك سلمان. ولقد سمع هؤلاء من الكلام أطيبه عن «لبنان الذي يدعو خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز إلى المحافظة على وحدته وسيادته وتحصين أمنه واستقراره والعيش المشترَك بين أبنائه ليتمكن من اجتياز هذه المرحلة الاستثنائية التي تمر بها المنطقة ويستعيد دوره الطليعي وعصره الذهبي» و«لبنان النموذج النهضوي والنهضة العربية التي كان اللبنانيون روَّادها» و«لبنان الرقي والانفتاح» و«لبنان الكفاءة والحضارة» لينتهي السفير عسيري إلى القول: «هذه الصفات هي ثروة وغنى للبنان وهي أفضل ما تورِّثوه لأبنائكم وليس الخلافات السياسية والقلق على المستقبل والتفكير الدائم بالهجرة. أرجوكم أحبوا لبنان لا تدعوه يستغيث، تشبثوا به، تجذَّروا بأرضكم، جذِّروا أبناءكم وأحفادكم بها. تعالوا على الخلافات وعلِّموهم أنه في سبيل مصلحة البلاد تهون الصعاب…».
عندما كان السفير عسيري يقول هذا الكلام الطيِّب، الذي لم يسمعه اللبنانيون من أي سفير لدى بلدهم ماضيًا وحاضرًا، كانت بعض الأصوات التي لا تريد خيرًا للبنان تقول من الكلام اللامسؤول في حق السعودية ما من شأنه تعزيز «لعبة الوطن» والإبقاء على الصراع في لبنان حربًا باردة… ويصلي الأزمة المزيد من التعقيد والبغضاء… مع أن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: «من كثُر كلامه كثُر خطؤه». والكلام هنا هو بعض ما نستمر سماعه في مسلسل «لعبة الوطن». هدى الله المكْثرين من الكلام إلى سواء السبيل ووقى لبنان من انتقال: «الحرب الباردة» الدائرة في ربوعه إلى حرب ساخنة.