عن العلاقات السيئة والمديدة بين العرب والغرب
حسام عيتاني/الحياة/المستقبل/11 تشرين الأول/15
ليس هناك في قاموس انتهاكات حقوق الإنسان والجرائم ضد الإنسانية مفردة أو ممارسة لم تشهدها البلدان العربية التي تعيش حالياً حروباً أهلية. وللقاموس هذا تاريخ ومؤلفون وأصحاب وأهل. نشرة أخبار تلفزيونية واحدة تكفي لمعرفة الفارق الشاسع بين المواثيق والمعاهدات العالمية وبين ما يجري في الواقع. التدمير المنهجي للمجتمعات والتغيير القسري للتركيبات السكانية تمهيداً لتغيير هويتها السياسية وما يرافقهما من أعمال قتل واسعة النطاق، على ما نشهد في سورية والعراق، الإعدامات الكثيفة للمدنيين في السجون والبراري سواء بسواء، الترحيل الجماعي والتطهير الطائفي والعرقي لمناطق بعينها، الاعتماد على فرق موت محترفة، اللجوء إلى الاغتصاب كسلاح في الحرب واستعادة مفردات السبي والأنفال، نهب الآثار وتفجير ما لا يمكن نقله وبيعه في الخارج، وغيرها الكثير تقول كلها إن الانهيار الحاصل في هذه المنطقة من العالم تخطى بأشواط بنى مشاريع الدول الوطنية وأطاح بإمكان ترميم ما تهدم.
والجلي أن العالم، أي الغرب ممثلاً بحكوماته الأوروبية والأميركية الشمالية – حيث ينحصر أثر باقي مكونات العالم المعاصر الآخر في ميادين بعيدة عن السياسة- غير معني بتطبيق ما اعتبر نفسه رائداً في وضعه من تشريعات وأخلاقيات تحكم العلاقة بين الفرد والجماعة من جهة والسلطة القائمة من الجهة المقابلة، في زمني الحرب والسلم. بل أنه لا يبدو ككيان قابلاً للتأثر بالأهوال الجارية على بعد مئات قليلة من الكيلومترات عنه. فلا صور الآلاف من السجناء الذين قضوا تحت التعذيب وهربها «قيصر»، قد صدمته أو حملته على اتخاذ إجراء ملموس واحد، ولا موجة اللجوء التي بدأها السوريون الهاربون من جحيم الحرب والمخيمات أقنعته برفع مستوى تدخله إلى ما يزيد عن أعمال الإغاثة بل إن استقباله اللاجئين وضع في خانة الإحسان والشفقة، من دون النظر إلى الأسباب التي ولدت هذه الموجة ولا إمكان عكسها.
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يُفترض أنه ضم الدروس المستخلصة من فظائع الحرب العالمية الثانية، لا يبدو قابلاً للتنفيذ في بلادنا. ثمة قدر من «السينيكية» في مقاربة الأزمات الحالية تتراوح مبرراتها بين الانكفاء الأميركي الاستراتيجي عن المنطقة بعد صدمتي أفغانستان والعراق والفشل المدوي فيهما، وبين تغير طبيعة المصالح الأميركية هنا وهبوطها في لائحة المؤثرات على الأمن القومي الأميركي إلى مراتب جد متدنية.
لا يرمي هذا الكلام إلى وسم الغرب مرة جديدة بالسمة الاستشراقية أو الكولونيالية ولا يسعى إلى اجترار أي حديث عن عطب غربي أصلي ومؤامرة مستمرة منذ أيام الاسكندر الأكبر، بل يحاول أن يقول إن الشكل الحالي من تعامل الغرب مع انهيار مجتمعات ودول المشرق العربي ينتج أساساً من أزمة عميقة في النموذج الغربي الديموقراطي الليبرالي ذاته. علامات الأزمة هذه لا تحدها المعاناة الاقتصادية التي اتخذت منحى مزمناً في أوروبا منذ منتصف العقد الماضي ولا التقلص المستمر في القاعدة الانتخابية التي يتضاءل اهتمامها بطروحات أحزاب لا تفرق برامجها عن بعضها بشيء يذكر وحيث لم يعد من السهل التمييز بين يمين الوسط ويسار الوسط، وغير ذلك من آليات تجديد النخب السياسية، بل تصل إلى أعماق المجتمعات الغربية ومعنى الديموقراطية والسلطة والفوارق الطبقية فيها التي تتزايد على نحو لا سابق له، بحيث تبدو الآمال التي طرحتها مشاريع ليندون جونسون ببناء «المجتمع العظيم» على سبيل المثال، شديدة البعد عن الواقع الحالي. جمود النظام السياسي واستعصائه أمام طموحات التغيير حتى عندما يحملها رئيس تخلى عن أداء مهمات تقليدية في السياسة الخارجية أو على الأقل بدل تبديلاً ملموساً أساليب مقاربتها، ليركز على الوضع الداخلي مثل باراك أوباما، واقترابه الدائم من حالة شلل ناجمة عن استقطاب لا فكاك منه بين الجمهوريين والديموقراطيين في الولايات المتحدة وبين تنويعات تقترب من هذا النموذج أو تبتعد عنه، في أوروبا، يساهم في رسم بعض وجوه المشكلات متعددة المستويات التي بلغها الغرب وتشمل بين ما تشمل العلاقات مع العالم غير الغربي والاقتصاد والثقافة. من هذه الظاهرة المركبة، لا يلاحظ العرب سوى الجانب الذي يمسهم مساً مباشراً والمتعلق بقدر كبير من اللامبالاة الغربية بأحوالهم الراهنة وبما ترى الدول العربية محقة أنه انحياز ضد مصالحها وانتقل من التأييد الكامل لإسرائيل بمبررات حل المسألة اليهودية ولو على حساب الفلسطينيين والعرب إلى الانفتاح على إيران في ذروة هجومها الامبراطوري على العرب واستغلالها الفراغ السياسي والاستراتيجي الذي يتخبطون فيه منذ عقود. لكن في المقابل، يحق للغرب القول إن صداقة العرب معه، خصوصاً على مستوى الشعوب، لم تكن يوماً بالمستوى الذي يبرر لهم لومه على تخاذله حيالهم. فلا هم بنوا تحالفاً استراتيجياً معه ولم يتخلوا عن العداء له أولاً ضمن أيديولوجيا معاداة الاستعمار ثم بسبب القضية الفلسطينية وأخيراً بفعل الإسلام الجهادي، ولا هم يشاركونه الرؤية إلى العصر وقضاياه. قد يبدو الغرب أوضح اليوم في نبذه العرب وقضاياهم واعتبار المساحة التي يقيمون عليها مصدر تهديد أمني لا أكثر. لكن الوضوح هذا يشكل قمة علاقات سيئة شملت جميع النواحي التي قد تتفاعل فيها شعوب ودول، وعلى مدى عقود على الأقل، منذ بداية ظهور العرب كقوة مستقلة سياسياً في هذه المنطقة. خراب هذه المنطقة ليس وليد عنصر واحد ولا يتحمل مسؤوليته فاعل مفرد. كذلك عواقبه ستكون عريضة.
بوتين لم يُنذر الـ «ناتو»… إذاً الحرب وشيكة
حازم الامين/الحياة/المستقبل/11 تشرين الأول/15
أطلق الجيش الروسي صواريخ «كروز» من بحر قزوين إلى سورية من دون أي إنذار مسبق لحلف شمال الأطلسي. ومن المفترض أن خط سير الصواريخ الروسية كان من بوارج حربية في بحر قزوين مروراً عبر إيران والعراق ووصولاً إلى سورية. وقال مسؤول أميركي لـ «سي أن أن» أن أربعة صورايخ منها سقط في إيران من طريق الخطأ. إذا أراد المرء أن يرتّب عناصر هذا الخبر وفق الأهمية، فإن العنصر الأول فيه هو عدم إنذار حلف شمال الأطلسي مسبقاً بالخطوة، ذاك أن خط سير الصواريخ يحفّ بمناطق عمل الحلف في العراق وفي سورية، ناهيك بأنه يستهدف مناطق محاذية لقواعد الـ «ناتو» في تركيا. إذاً ثمة قرار روسي بالمواجهة، أو باستطلاع الجاهزية الأطلسية في ظل الإنكفاءة الأوبامية. وهو استطلاع بالنار هذه المرة، ويأتي بعد خطوة ميدانية روسية في أوكرانيا كشف فيها الأطلسي تردّده وتقديمه الحصار الاقتصادي على نجدة حليفه الأوكراني ميدانياً.
يُرتّب هذا الحدث الهائل احتمالات كبرى، منها أن تصطدم الصورايخ بخطوط طيران تعتمدها مقاتلات التحالف الدولي العاملة في سورية والعراق، ومنها أخطاء في الأهداف كأن يُكمل الصاروخ سيره نحو تركيا أو إسرائيل، وهو احتمال يصبح واقعياً إذا ما تأكد خبر سقوط صواريخ في إيران.
لا يبدو أن عدم إنذار الناتو خطأ تقنياً. من المرجح أن يكون جزءاً من أهداف الحملة الروسية. وعند هذا الاحتمال المرجّح نصبح أمام حقيقة أن ما قدم الروس من أجله إلى سورية، ليس مغامرة كبرى وحسب، وإنما قرار بإحداث تغيير في المعادلات الدولية يتعدّى سورية. وإذا كان صاحب هذه الإرادة ضعيف القدرة على القيام بها، فإن احتمالات المواجهة تصبح أكبر. نعم روسيا ليست في وضع يتيح لها أن تستعيد الموقع الدولي للاتحاد السوفياتي، وفي الوقت نفسه يحثّ رئيسها فلاديمير بوتين الخطى نحو استعادة الموقع. وفي هذا الوقت لا يمكن للـ «ناتو» أن يجري حساباته تبعاً لطموحات بوتين، إنما تبعاً لتقييمه الفعلي والواقعي لحجم موسكو، اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً. إذا اعتمد المرء هذا المقياس في التوقّع فسيخرج منه بحقيقة أن المنطقة تستعدّ لمواجهة كبرى بين حلف شمال الأطلسي وبين روسيا. قبول الأطلسي بخط سير الصواريخ الروسية، وباحتمالات الأخطاء، وبعمل المقاتلات الروسية في مجالاته الجوية في سورية والعراق، وباقتراب المهمة الروسية في سورية من قواعده في تركيا، يعني قبوله بالعودة إلى قواعد لعبة الحرب الباردة التي انتصر فيها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. ومن المرجّح أن هذا القبول لا يقوى عليه الأطلسي بكل مكوّناته. فالمزاج الإنكفائي للرئيس الأميركي باراك أوباما لا يعني قدرة الأخير على الموافقة على أن تخسر أميركا إنجازها الأكبر في القرن العشرين، والمتمثل بانتصارها في الحرب الباردة.
ثم إن بوتين تجاوز قواعد عمل الحرب الباردة عبر إطلاقه الصواريخ من بحر قزوين إلى سورية، وعبر خطّه طريقاً لمقاتلاته على حدود خطوط عمل مقاتلات التحالف في سورية وفي المجال الجوّي التركي. فقواعد العمل تلك اقتضت إرسال صواريخ إلى كوبا في أزمة خليج الخنازير، وليس إطلاقها، ولم تخرق المقاتلات السوفياتية يوماً الأجواء الباكستانية في مرحلة المواجهات في أفغانستان. اذاً لعاقل أن يعتقد بأن المواجهة قادمة لا محالة. وما يُعزّز هذا الاعتقاد هو أن موسكو تتصرّف مع دخولها سورية بصفته افتتاحاً لزمن ما قبل سوفياتي. إنه زمن إمبراطوري كانت فيه منافِسة رابحة في الشرق. وهو «حرب مقدسة» وفق الكنيسة الروسية. وهي، أي موسكو، استعاضت عن آلة الترويج الإيديولوجية السوفياتية بآلة ترويج قومية ودينية نجح فيها بوتين بإقناع الروس الذين يعيشون تحت وطأة حصار اقتصادي خانق بأن جيشهم سيعيد بعث أمجادهم.
أمام هذه المؤشرات عن الطموحات «الإمبراطورية»، لا يمكن للروس أن يبقوا في الجوّ. المهمة تقتضي «نصراً» برّياً. فالغارات الجويّة ستخسر «بريقها» الانتصاري بعد أسابيع قليلة، وجيش بشار الأسد لا يقوى على الإنجاز، والأميركيون بدأوا يتحدثون عن توقعاتهم بخسائر بشرية روسية وشيكة.
أمام الأطلسي خياران، إما المواجهة المباشرة، أو الانضواء في «حرب مقدسة» في مواجهة «حرب مقدسة». في أفغانستان جرّب الحلف الخيارين. خاض «حرباً مقدسة» أيام الجهاد الأفغاني، ما زال يحصد النتائج الكارثية لانتصاره فيها عبر ما ولّدته من خبرات «جهادية» قاتلة، وخاض حرباً مباشرة في العام 2001 أدت إلى احتلاله أفغانستان وفشله في اجتثاث طالبان. لكن أن يضع المرء حسابات الحروب ونتائجها على طاولة البحث في ظل حدث هائل من نوع العودة إلى قواعد الحرب الباردة، فإن الخيبات «الصغرى» تصبح خياراً لا بد منه. المواجهة المباشرة مع الروس لا تبدو واقعية، والقول إن العودة إلى خيار «الحرب المقدسة» بصيغتها الأفغانية لن تحصد غير الخيبات، فيه تغاضٍ عن حقيقة أن هزيمة السوفيات هناك كانت مدخلاً لهزيمتهم الكبرى لاحقاً. وصحيح أن واشنطن حصدت «القاعدة» ولاحقاً «داعش» وبينهما «11 أيلول» في سياق هذه «الحرب المقدسة»، لكنها أيضاً حصدت انتصار القرن المتمثل بانهيار الاتحاد السوفياتي.
شقّ صاروخ الكروز الروسي طريقه بين كل هذه الحسابات، والأرجح أن بوتين في مسارعته إلى طمأنة إسرائيل، عبر إرسال نائب رئيس أركانه إلى تل أبيب، إنما فعل ذلك لنقل المشهد إلى سوية مختلفة عن السويّة الأفغانية، فالحروب المقدّسة على تخوم إسرائيل ستبعث رعباً هناك، وهو يعرف ما تمثله إسرائيل في الوعي الغربي. لكن الرئيس الروسي لا يستطيع تجنّب حرب مقدسة على حدود إسرائيل، والذهاب إليها على حدود تركيا. ستجد واشنطن نفسها هذه المرة أمام خطوة لا بد منها، وهي الاستثمار بجماعات سوريّة تتولى مهمة إفشال المهمّة الروسيّة هناك. الأرجح أنها ستحاول تفادي «الأخطاء الأفغانية»، لكنها ستكتشف أنه لا يمكن ارتداء قفازات في «الحروب المقدّسة». تركيا ستكون مستعدة اليوم للمهمة التي تولّتها باكستان في تلك الحقبة، وهي أصلاً باشرتها قبل الدخول الروسي إلى سورية، وبدأت ملامح سلاح جديد تظهر في أيدي مقاتلي «جيش الفتح». ومثلما لن نشهد، نحن أهل المنطقة، أكثر من جهنم على أيدي قيصر الكرملن، فإن جنّة «جيش الفتح» لن تكون أكثر من «إمارة الرقة».