قمة واشنطن تطوي إعلان بوتين ومسودة دي ميستورا؟
جورج سمعان/الحياة/07 أيلول/15
مبادرة الرئيس فلاديمير بوتين تستدعي سيلاً من الأسئلة. حظها ليس أفضل من حظ مسودة الخطة التي طرحها المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا. قوى المعارضة في «الائتلاف الوطني» طرحت أكثر من أربعين سؤالاً على المبعوث شكلت مع التحفظ نوعاً من الرفض الديبلوماسي للمسودة. سيد الكرملين أعلن أن الرئيس بشار الأسد مستعد لإجراء انتخابات نيابية مبكرة، ولاقتسام السلطة مع «معارضة بناءة». وهو يعلم بالتأكيد أن الانتخابات العادية يفترض أن تُجرى في الربيع، بعد أشهر. فهل يقصد تقريبها؟ ومن يقصد بالمعارضة البناءة؟ كيف تُجرى انتخابات نظيفة وحوالى عشرة ملايين سوري يهيمون في بلادهم بعدما أخلوا مدنهم وقراهم هرباً من الحرب؟ كيف تُجرى انتخابات بتمثيل حقيقي وحوالى خمسة ملايين سوري باتوا لاجئين في دول الجوار، ويطرق مئات الآلاف منهم أبواب أوروبا بحراً وبراً؟ ومن يقصد بالمعارضة «البناءة» التي ستجلس في صفوف الحكومة «البناءة» التي انعقدت قبل أيام لتناقش «ملف الهجرة» وأسبابها، ودانت «التعامل المخزي» لبعض الدول الأوروبية مع المهاجرين؟!
يعرف الرئيس بوتين بالتأكيد أن الرئيس الأسد لن يسلم السلطة، ولن يشرك فيها أحداً. رفض حتى «المبادرة الإيرانية». ونقل إليه ديبلوماسيوه حتماً ما أبلغهم به وزير الخارجية وليد المعلم في زيارته موسكو أخيراً. رئيسه لن يسلم السلطة، لا عسكرياً ولا سياسياً. أبلغهم خوفه هو السنّي الدمشقي من «اليوم التالي»، فأين منه موقف العلوي؟! أسئلة كثيرة يستدعيها تصريح سيد الكرملين. ولا حاجة إلى أجوبة. صحيح أن المبادرة إلى انتخابات نيابية مبكرة روجت لها موسكو منذ أكثر من شهرين. لكن ما استدعى إطلاقها علناً قبل يومين مستجدات سياسية وتداعيات أزمة اللاجئين ومآل الأزمة السورية برمتها. استهلك الروس لافتة رفعوها منذ بيان جنيف في حزيران (يونيو) 2012. رددوا بلا ملل ولا يزالون يرددون إلى اليوم أن التسوية ومستقبل الرئيس الأسد يقررهما السوريون أنفسهم بلا تدخل وبلا شروط مسبقة. لكنهم تناسوا أن بيان جنيف الذي يريد الجميع اعتماده مرجعية للتسوية أقره وزراء خارجية الخمس الكبار من دون أي حضور ودور للسوريين، أصحاب الشأن والمعنيين الأساسيين!
ما أعلنه الرئيس بوتين لن يصرف في أوساط المعارضة ولا في أوساط جميع المعنيين بالأزمة. ما أراده هو الإيحاء بأن بلاده تسعى فعلاً إلى دفع النظام السوري إلى تقديم تنازلات لا تمس النظام والحكم، بل تحفظ رأسه وتحميه. تماماً كما ضيعت مسودة دي مستورا بند هيئة الحكم وصلاحياتها الكاملة في المرحلة الانتقالية في جملة من البنود واللجان. كأن المطلوب في هذه المرحلة تقطيع الوقت. فالمبعوث الدولي يدرك جيداً أن خطته لن ترى النور. ولا أحد ينتظر أن يقدم «إنجازاً» عندما يعود إلى مجلس الأمن منتصف تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، ما لم يكن هناك توافق بين الكبار المختلفين على مستقبل الرئيس الأسد ومصيره ودوره. وهو يعرف حتماً أن بيان جنيف الذي أعده سلفه الأمين العام السابق كوفي أنان كان ترجمة لتوافق دولي ابن لحظته، خصوصاً بين أميركا وروسيا، ما لبث أن سقط في حمأة التفسيرات المختلفة لمضمونه. الواقع أن الكرملين بدأ يشعر بأن الساحة التي أخليت له طويلاً من أجل إنجاز اختراق لم تعد تتيح له حرية الحركة كما في السابق. ثمة تطورات ضاغطة. لا بد إذاً من مناورة جديدة تواكب تحرك دي ميستورا وتستبق ما قد تحمله الأيام المقبلة قريباً. أراد الإيحاء بأن النظام في دمشق مستعد لتسوية سياسية تواكب الإعداد لتحالف واسع لمحاربة «داعش». لم تعد هذه الحرب أولوية وحدها. بات المساران، الحرب والتسوية، متوازيين. يحاول الرئيس الروسي أن يطرق بجديده السوري أبواب أوروبا والولايات المتحدة أولاً وأخيراً. يريد المقايضة بين أوكرانيا وسورية: قدموا تنازلات هناك أقدم مثيلها هنا. ويأتي جديده أيضاً في إطار إعادة النظر في مواقفه ومواقعه ومصالحه وشبكة علاقاته في الشرق الأوسط وغيره، في ضوء تداعيات الاتفاق النووي. توقيت إعلان هذا الجديد كان لافتاً. واكب محادثات القمة الأميركية – السعودية. ربما أراد زجه في برنامج المحادثات بين الرئيس الأميركي باراك أوباما والملك سلمان بن عبدالعزيز. تقلقه سلفاً نتائج هذه القمة، خصوصاً توافق الزعيمين على التأكيد أن لا دور للرئيس الأسد في مستقبل سورية. وهو ما كرره وزير الخارجية عادل الجبير أمس بعدما كان أبلغ موسكو به علناً في حضرة نظيره الروسي سيرغي لافروف قبل أسابيع.
تدرك موسكو أن الوقت داهم. فإدارة الرئيس باراك أوباما تسعى لإرساء الاستقرار في الشرق الأوسط، عبر تجديد علاقاتها مع إيران وإقامة نوع من التوازن في النظام الإقليمي. ومثل هذا النهج لا يمكن تطبيقه فيما طهران توغل في خرق المنطقة ومجتمعاتها، من العراق وسورية إلى فلسطين واليمن وشرق شبه الجزيرة العربية. ولا شك في أن هذه الإدارة عليها بعد قمة واشنطن ترجمة حرصها أقله على هذا التوازن. والاختبار الأول هو الأزمة السورية. والثابت المعلن حتى الآن أن الجمهورية الإسلامية ليست في وارد المساومة في القضايا الإقليمية. المرشد علي خامنئي اتهم الولايات المتحدة بأنها «تسعى إلى القضاء على المقاومة والهيمنة على سورية، وتتوقع أن تدخل إيران في هذا الإطار». وشدد على أن «هذا الأمر لن يحدث أبداً».
موقف المرشد لا يساعد واشنطن على تصحيح مسار علاقاتها بشركائها الخليجيين. الكرة في ملعب إدارة الرئيس أوباما بعدما تحررت من عبء الجمهوريين وتهديداتهم بإسقاط الاتفاق النووي. لم تعد أسيرة المرحلة الماضية. يبقى أن تبدي لأصدقائها التاريخيين في المنطقة أنها لم ولن تنجرف وراء مشاريع إيران ومخططاتها في المنطقة. علماً أنها لا يمكن أن تسلم باليد المطلقة لإيران في دمشق وهي تعمل على تقليص نفوذها في بغداد. كانت طوال السنوات الثلاث الماضية حريصة حرصاً مبالغاً فيه على عدم إزعاج طهران في أي مسألة لئلا تجازف بدفعها إلى وقف المفاوضات النووية. أما اليوم فلا عذر لها. رفضت دعوات تركيا المتكررة إلى إقامة منطقة آمنة شمال سورية، بل طلبت دفع مشروع المنطقة غرباً بعيداً من مناطق الكرد. لا تريد إضعافهم. ولا تريد المجازفة بسقوط مفاجئ للنظام السوري من دون جاهزية بدائل فاعلة وقادرة. مثلما لا ترغب أيضاً في إطلاق يد أنقرة وتعزيز نفوذها في سورية. ولا تزال عند هذا الموقف.
تعي موسكو معنى هذا التبدل. وتخشى أن تعدل واشنطن موقفها مجاراةً للعرب القلقين من هيمنة إيران، وتأكيداً لحرصها على علاقاتها التاريخية والتزاماتها معهم. وتعي أن أزمة سورية على رأس اهتمامات الإدارة بعد تمرير الاتفاق النووي مع إيران في الكونغرس. وإذا كان الضغط العربي على واشنطن ليس كافياً، فإن الضغط الأوروبي سيكون أكبر. لذلك، واكب إعلان الرئيس بوتين أيضاً التخبط الأوروبي في معالجة أزمة اللاجئين والمخاوف التي تثيرها. فجيش الفارين من أتون الحروب والويلات في سورية وغيرها لا يصل عملياً إلى حدود روسيا أو الولايات المتحدة. لكن صور المآسي والويلات التي يقاسيها هؤلاء، غرقاً في البحر أو اختناقاً في شاحنات التبريد، ولدت موجة من التعاطف في الشارع الأوروبي الذي بدأ الضغط على حكوماته. ولا مفر أمام هذه الحكومات سوى تحويل هذا الضغط نحو واشنطن، الشريكة الكبرى، لتعديل موقفها والانخراط فعلياً في البحث عن حلول سريعة. الدوائر المعنية في القارة العجوز تعلم جيداً أن المعالجة المجدية لمواجهة هذه الموجة الواسعة من المهاجرين فاقمها إحساس السوريين بأن لا أمل لهم بالبقاء في بلادهم، وهم يعيشون عذابات استعصاء الحسم في الميدان العسكري واليأس من إمكان التوافق في الساحة السياسية، محلياً ودولياً. إلى كل هذه العوامل المستجدة الضاغطة، تشعر موسكو بأنها باتت هي نفسها تحت الضغط. التأثير الواسع الذي كانت تملكه على النظام في دمشق يفلت من بين أصابعها لمصلحة إيران التي يساهم تدخلها في تفكيك ما بقي من مؤسسات الدولة، بل يجد النظام مصلحته في مجاراة تيارها المتشدد الذي لا يلتفت إلى انهيار الدولة والمؤسسة العسكرية. هناك إذاً مصلحة ملحة لبوتين في تحريك المسار السياسي في سورية، والاحتفاظ بأرجحية بلاده في رسم مآلات التسوية. وهو ما يستدعي ليس مغازلة الولايات المتحدة وأوروبا واستدراجهما إلى مقايضات معقدة، بقدر ما يتطلب منه مبادرة «بناءة» قبل البحث عن «معارضة بناءة»! وهناك مصلحة ملحة مماثلة للولايات المتحدة في ترجمة حرصها على إقامة توازن في علاقاتها بالشرق الأوسط. وترجمة حرصها على منع إيران من الهيمنة على المنطقة، وتهديد جيرانها، ووقف تدخلها، والحؤول دون تفردها برسم خريطة النظام الإقليمي الجديد وتفتيت بلاد الشام. لم يعد التردد يجدي. وسورية هي المحك والامتحان بعد تحرر أوباما من الملف النووي وتهديدات خصومه الجمهوريين… بانتظار أن تطيح نتائج قمة واشنطن وزحف اللاجئين إلى أوروبا زحف إيران ومعه مناورات موسكو ومسودة ديستورا؟
الاستقرار والأخطار
غسان شربل/الحياة/07 أيلول/15
لم يكن الشرق الأوسط سابقاً بحيرة سلام. كانت الحروب العدوانية الإسرائيلية تُسمم أيامه. وكانت تُسممها أيضاً ممارسات المستبدين. لكنهم كانوا في معظم الأحيان يمارسون انتهاكاتهم داخل الخرائط. وحتى حين كانوا ينزلقون إلى مغامرات خارجها كانت ركائز الاستقرار تسمح بامتصاص تهوراتهم والحيلولة دون حدوث الانهيار الكبير. كان هناك الحد الأدنى من ركائز الاستقرار. وكان عدد الحكماء يزيد على عدد المراهقين. وعثر العرب أحياناً على صيغ لامتصاص الهزات. بينها المثلث السعودي – المصري – السوري. وعلى رغم التمايزات والتباينات كانت هناك رغبة عميقة في تفادي سياسة الطلاق ونسف الجسور. كان الدور السعودي أحد صمامات الأمان. وهو ينطلق من الثقل الذي تمثله السعودية عربياً وإسلامياً. ثقل سياسي واقتصادي وديني أيضاً. وكانت العلاقات السعودية – الأميركية تزيد من ثقل هذا الدور الضمانة الذي وظف في خدمة مطالب الفلسطينيين وفي جهود المصالحة السعودية في أكثر من دولة وأكثر من أزمة.لا غرابة إذاً، أن يكون الدور السعودي مستهدفاً من جانب كل من يحاول فرض انقلاب في الإقليم أو انتزاع زعامته. ولا غرابة أيضاً أن يستهدف من يحاول إحداث تغيير في موازين القوى في العلاقة السعودية – الأميركية التي كانت تشكل سداً في وجه مشاريع الانقلابات الكبرى.
الشرق الأوسط الذي ولد من رحم «الربيع العربي» مختلف وشديد الخطورة. إننا أمام عراق مفكك إتنياً ومذهبياً يخوض حرباً مع «داعش» بالتلازم مع حضور غير طبيعي للوصاية الإيرانية في بغداد. إننا أمام سورية مفككة إتنياً ومذهبياً مع حضور مخيف لـ «داعش» على أرضها وحضور غير طبيعي للوصاية الإيرانية في دمشق. إننا أمام يمن ارتكب فيه عبدالملك الحوثي مغامرة مدمرة، خصوصاً حين التقت مصالح ميليشياته مع الخيار الثأري للرئيس السابق علي عبدالله صالح. إننا أمام ليبيا مستباحة من جانب ميليشياتها والوافدين وتشكل مصدر إشعاعات مضرة لنفسها وجيرانها. هذا هو الشرق الأوسط الحالي. شاخت خرائط وأنظمة. وتحصن الإرهاب في أماكن حساسة فيه. وتحولت بعض ميليشياته «جيوشاً صغيرة» تلعب أدوار القوى الإقليمية حين تعبر الحدود لإسقاط نظام أو منع سقوطه. سقطت حصانة الحدود الدولية. والتعايش مريض. والأدوية المستخدمة في علاج المرضى بالإرهاب تزيد التهابات «البيئة الحاضنة».
أين هي حدود الفرس في الإقليم؟ وأين حدود العرب؟ وأين حدود الأتراك؟ وماذا عن الأكراد؟ ما هو موقع السنّة؟ وماذا عن الشيعة؟ وما هو مصير الأقليات؟ وهل مصير الحدود مطروح فعلاً أم إن الجراحات ستُجرى داخل الخرائط؟ وهل تمكن إعادة توحيد العراق إذا كان الدور الإيراني طاغياً فيه؟ والأمر نفسه بالنسبة إلى سورية؟ وماذا عن قنبلة الدور الإيراني وهي أهم بالنسبة إلى العرب من القنبلة النووية والاتفاق الذي أبرم لتأخير ولادتها؟ ومن سيدفع فاتورة إعادة الإعمار وهي باهظة أصلاً؟ وماذا عن أميركا التي رفضت الجلوس في موقع القيادة في الإقليم؟ وماذا عن السياسة الهجومية التي تنتهجها روسيا؟ إنها أسئلة ملحّة وخطرة. كأننا في الطريق إلى إعادة تأسيس الشرق الأوسط ورسم ملامحه. المسألة أبعد من مصير «داعش» الذي لا يمكن أن يقيم طويلاً مهما بدا قوياً ومتحركاً. المسألة هي أن الشرق الأوسط الحالي تحول إلى مصدر لكل أنواع الأخطار. الإرهاب ومحاولات الهيمنة والتفكك والفقر والفشل الاقتصادي والعجز عن اللحاق بالعصر. في ظل هذه الصورة الفعلية للشرق الأوسط جاءت القمة السعودية – الأميركية. لهذا، اعتبر الملك سلمان بن عبدالعزيز كلمة الاستقرار هي الكلمة المفتاح. وللسبب نفسه تحدث عن تعميق شراكة المصالح مع أميركا. لا بد من نقطة ارتكاز أساسية لمعاودة البحث عن الاستقرار عبر حلول سياسية عادلة وواقعية للأزمات الدموية التي تعصف بعدد من بلدان المنطقة. في السياق نفسه يمكن فهم موقف السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي من الأحداث التي شهدتها مصر. انعقاد القمة في أيلول (سبتمبر) يدفع إلى تذكر هجمات «11 سبتمبر» الشهيرة. إنها مجرد نموذج لما يمكن أن يكون عليه الشرق الأوسط إذا لم تتقدم محاولات البحث عن إعادة الاستقرار. الشرق الأوسط الحالي مليء بالأخطار. خطر تدمير ما بقي من مؤسسات الدول. وخطر المذابح واقتلاع مجموعات بكاملها. وخطر «المجاهدين» العائدين من الشرق الأوسط. وخطر»الذئاب المنفردة». وخطر تسلل الفكر المتطرف إلى الجاليات. وخطر أن تنوء أوروبا تحت أمواج اللاجئين.
إن معركة استعادة الاستقرار وإغلاق منابع الأخطار معركة طويلة ومريرة. تستدعي الصلابة والمرونة. واستنهاض قوى الاعتدال. وتوظيف العلاقات الدولية. وتستدعي مواجهة شاملة لمشاريع الهيمنة والأفكار الظلامية. إننا في البدايات.
في دلالات صورة الطفل آلان الكردي
هوشنك أوسي/الحياة/07 أيلول/15
فاق تأثير صورة جثّة الطفل السوري آلان عبدالله شنو، الغريق على ساحل بحر إيجة، كل صور المجازر التي ارتكبها نظام الإجرام الأسدي في سورية منذ أربع سنوات. كما تجاوز بكثير دور المعارضة السوريّة السياسيّة وتأثيرها في التعريف والتسويق للقضيّة السوريّة. إلى ذلك، فضحت الصورة مدى ضلوع العالم وتورّطه في محنة سورية وشعبها، المتروكين لإجرام نظام الأسد الذي أنتج وأفرز إجرام «داعش» و»النصرة» وكل التنظيمات التكفيريّة الإرهابيّة التي تفتك بالسوريين. وأكّدت عمق الشراكة الأميركيّة – الروسيّة – الأوروبيّة – الإيرانيّة… في استمرار المأساة السوريّة، وأن كل ما يقال عن خلاف غربي – روسي – عربي، حول بقاء نظام الأسد، محض هراء، وللتضليل والخداع. فحتى لو وافقت موسكو على ضرب نظام الأسد عسكريّاً، بقيت واشنطن وعواصم الغرب عاجزة أمام هذا الإحراج! ما يعني أن النيّة الأميركيّة – الإسرائيليّة – الأوروبيّة في إبقاء هذا النظام جاثماً على صدر سورية والسوريين موجودة ومستمرّة، وتختبئ خلف الممانعة الروسيّة! وفي سياق هذه الهزّة العميقة، أخلاقيّاً وسياسيّاً وإنسانيّاً التي أحدثتها الصورة الأليمة للطفل السوري، كحمامةٍ غافية على شطّ البحر، بحيث جعلت منه سفيراً لمأساة سورية، وما رافق ذلك من تغطية إعلاميّة ومتابعات تحليليّة لدلالات الحدث، لفت انتباهي تجاهل قيادات «حزب الاتحاد الديموقراطي» الكردي (PYD) هذا الحدث وصورته المؤلمة، علماً أن الطفل من مدينة كوباني التي يتحدّر منها رئيس الحزب صالح مسلم، ومسؤول الحزب في أوروبا زوهات كوباني! ليس هذا وحسب، بل تجاهل الكثير من «ديناصورات» إعلام هذا الحزب في أوروبا، هذه الصورة، ولم يعلّقوا على صفحاتهم الشخصيّة في الـ «فايسبوك» ولو بكلمة واحدة! وغالب الظنّ أن صمت هؤلاء مؤشّر ضمني إلى وجود مسؤوليّة أخلاقيّة وسياسيّة، لسلطة هذا الحزب في مأساة الطفل آلان وعائلته. هذا الحزب الذي يدير المناطق الكرديّة السوريّة، بالتنسيق الخفي مع النظام السوري، تحت مسمّى «الإدارة الذاتيّة الديموقراطيّة»، لم يثق والد الطفل بـ «أمن واستقرار» إدارته، واختار تركيا، بما فيها من ظروف شديدة القسوة على اللاجئين، ثم ألقى بنفسه وعائلته في أحضان مهرّبي البشر، بدلاً من الإقامة في كوباني أو عفرين أو الجزيرة، وفضّل الإبحار في قوارب الموت، وجرى له ما جرى.
هذه الصورة دفعت لندن وبرلين وعواصم أوروبيّة كثيرة إلى مراجعة نفسها، ولو على مستوى قضايا الهجرة، ولم تدفع قيادات السلطة الكرديّة إلى مراجعة نفسها، والبحث عن منسوب مسؤوليّتها، الذاتيّة أو الموضوعيّة، في هذه الكارثة! فهذه «الإدارة الكرديّة» السوريّة، والتي تسمّي نفسها بـ «الديموقراطيّة»، لا تسأل نفسها: لماذا يهرب المواطنون الكرد من مناطق سلطتها، بعد أن كانوا يحلمون على مدى عقود بنيل قسط يسير من حقوقهم المشروعة من النظام السوري؟! هذه الإدارة – السلطة الذاتيّة (وهي ليست ذاتية، بسبب تحكّم العمال الكردستاني (التركي) بها، من وراء الستار، مضافاً إليه تأثير نظام الأسد عليها عبر البعثيين والموالين له الموجودين في هذه السلطة)، علاوةً على أنه ليس لديها أي مشروع سياسي، اقتصادي، اجتماعي، حقيقي وعلمي، يعالج أو يخفف أو يحدّ من هجرة الكرد السوريين، أصدرت تصريحات قبل فترة على لسان نائب رئيس «حزب الاتحاد الديموقراطي»، السيدة إلهام أحمد، تقول فيها: «من لا يعجبه نظامنا السياسي والإداري، فليغادر المنطقة»! وسبقتها إلى إصدار تصريحات كهذه، قيادات سياسيّة وأمنيّة، تابعة للحزب نفسه! من ثم يأتي الحزب ويتحدّث عن أخطار الهجرة! الأنكى من كل ذلك، أن هنالك قيادات بارزة في «الإدارة الذاتية الديموقراطيّة»، أرسلت وترسل أولادها إلى أوروبا، بينما «تلعن» الهجرة من الوطن، وتثرثر حول الدور التآمري لتركيا الهادف إلى إفراغ المناطق الكرديّة السوريّة!
وإذا افترضنا جدلاً أن تركيا «متآمرة» ولها مخططاتها ومشاريعها التي تستهدف الكرد وكردستان سورية، وتريد إجراء تغيير ديموغرافي فيها… فلماذا لا يصدر «حزب الاتحاد الديموقراطي» قراراً سياسياً»، يلزم معظم قيادته التنظيميّة والسياسيّة والإعلاميّة، وكل عناصره والمؤيدين له، بترك البلدان الأوروبيّة، (وهم بالآلاف، ويحملون الجنسيّات الأوروبيّة)، وبالعودة إلى المناطق التي للحزب فيها سلطة سياسيّة وتنظيميّة وعسكريّة مطلقة؟! وبهذا يفشلون مخططات تركيا. ذلك أنه طالما بقيت قيادات الحزب في المهجر، وتقدّم طلبات لجوء سياسي، فيما حزبهم سلطة إداريّة وتنظيميّة وعسكريّة، صار معيباً ومؤسفاً أن ينتقد الحزب هجرةَ الناس من المناطق الكرديّة ومن سورية عموماً! مضافاً إليه، تناقض غريب في سلوك قيادات هذا الحزب حيال تجارب المعارضات في البلدان الأخرى. فالمعارضة، حين تصبح سلطة أو جزءاً منها، تترك قياداتُها المهجر وتعود إلى الوطن، باعتبارها أوّل من يجب عليه أن يطبّق على نفسه نظريات الحزب في الحكم والإدارة، قبل تطبيقها على الآخرين، وليس العكس!؟ يبقى أن صورة الطفل آلان التي هزّت العالم، فضحت عري المجتمع الدولي، ومجلس الأمن، وكل القوى الدوليّة والإقليميّة والمحليّة، الضالعة في تفاقم محنة الشعب السوري ومأساته. وهي صورة سيبقى تأثيرها في ذاكرة الإنسانيّة.