ارتباك حكومي وأمني وفوضى فكرية وفجور تظاهرة السبت: شعارات الأحزاب ستطغى ولا نتيجة
ايلي الحاج /النهار/28 آب 2015
الحكومة مرتبكة لا تعرف أن تدافع عن نفسها، كل طرف فيها يتبع شعار “يا رب نجّ نفسي”، وكيف تدافع فيما فريق من داخلها يشارك في إطلاق النار السياسية عليها؟ عندما ترتبك ترتكب أخطاء، لا مفر من الإقرار بأن موجة فوضى فكرية ضربت الناس ووسائل إعلام إثر تحرك الشارع السبت والأحد الماضيين وما تلاهما. موجة أشاعت جواً من عدم ثقة وخشية عند الجميع، رؤساء ووزراء وسياسيون ووجوه جديدة في “المجتمع المدني” تضرب بمواقفها وتنظيراتها في السياسة المنطق والعقلانية معاً بعرض الحائط. مثلاً تنادي باستقالة الحكومة وتشكيل حكومة انتقالية تضع قانوناً للانتخابات النيابية تجري على أساسه الإنتخابات، بعد ذلك يُنتخب رئيس للجمهورية وتشكل حكومة جديدة طبيعية. أصحاب هذه الأفكار تعطى لهم الميكروفونات والشاشات ولا يكلفون أنفسهم عناء السؤال إلى مَن تقدم الحكومة الحالية استقالتها، ومن يُشكل الحكومة الإنتقالية في غياب رئيس للجمهورية؟ هل هذا جهل أو تواطؤ مع فريق من قوى 8 آذار؟ “الإثنان معاً” يجزم سياسي بارز لـ”النهار”، من غير أن يذهب إلى مهاجمة تحركات الشارع والداعين إليها علناً.
لكن كيف اندلع الحريق السياسي وهل انحسرت ناره ؟ “الناس غاضبون وعن حق ولا أحد يريد أن يسمع فماذا يفيد الكلام، حتى لو حلفنا على الكتب المقدسة؟ ” يقول مرجع بارز في الدولة في مجلسه . النفايات هي الفتيل، تكاد أكوامها تقتحم المنازل، وأيضاً الكهرباء المقطوعة وظروف الحياة الصعبة، ووُجد من يدعو الناس الغاضبين إلى التحرك احتجاجاً، وعندما تحركوا ارتفعت شعارات سياسية بلا أفق بلغت السماء، مثل تغيير النظام السياسي. نعم هو يحتاج إلى تغيير، ولكن هذه التحركات في الشارع لن توصل إلى شيء منه، يكفي أن قوة طائفية مسلحة ومن قلب النظام تستطيع التحكم فيها أو حرف مسارها حين تريد. ثبت ذلك بوضوح وتكراراً في الأيام الماضية.
مَن نفخ في النار؟ مروحة واسعة من السياسيين والشخصيات والمواقع الطامحة في الدولة وخارجها. “لا أستطيع أن أسمّي علناً ولا مصلحة. الأكثر سوءاً تحميل القوى الأمنية المسؤولية بعد الإعتداء عليها والسعي إلى الإستمرار في سحب ثقة اللبنانيين بها. ارتكبت أخطاء هي أيضاً؟ بالطبع ولكن ليس جرائم. من الأخطاء مثلاً في تظاهرة ليلة السبت الشهيرة تركيز عناصر مكافحة الشغب أمام الأسلاك الشائكة ، تمزق أجسادهم إذا تراجعوا فاضطروا إلى الضرب بقوة دفاعاً عن أنفسهم عندما هوجموا، وأيضاً أوامر صارمة بمنع المتظاهرين من تخطي شارع المعرض حتى لو كلف الثمن غالياً، لذلك أُطلقت النار ترهيباً. وزارة الداخلية تحقق جدياً في الأخطاء هذه وغيرها. وهي أخطاء إدارية إن جاز التعبير. المصابون؟ 169 قوى أمن بقي منهم اثنان في المستشفى، والمقابل 62 جريحاً من المتظاهرين بقي منهم اثنان في المستشفى، أحدهما أصيب برصاص مطاط عن قرب، والآخر بجسم صلب لكنه كان بعيداً عن مكان المواجهة، والتحقيق يتواصل لمعرفة الظروف. الموقوفون بلغ عددهم 60 أُطلق منهم 53 بسرعة وبقي 7 لأسباب غير التظاهر والإعتداء والتخريب.
نعم حصل ارتباك ، بدليل وضع جدار الإسمنت ثم سحبه، لكن المسؤولية عن ذلك سياسية. ثم إن قوى الأمن اعتدي عليها قصداً وعمداً. على من نعتمد في الأمن إذا استمرت محاولات تصويرها كعدوّ؟ ثمة فارق بين شكوى على مسؤول أمني أو عنصر، وبين إدانة شاملة لكل النظام. إلى أين يريد المشككون الوصول؟ بالطبع هناك قوى محددة أحاطت بالحركة المطلبية الاحتجاجية، وسيّرت مجموعات معينة في الساحة لإشعال نار الصدام من جهة. دفعت القوى هذه من جهة إلى رفع شعارات استفزازية تصعيدية تخوينية ومطالب بتغيير تعانق السماء ولا تصل إلى نتيجة. ما حصل ويحصل ليس ثورة ولا يشبه الثورات. أصلاً ليس في لبنان نظام قمع يستدعي الثورة عليه كما في سوريا والعراق وكما شاهدنا سابقاً في تونس ومصر وليبيا وسواها”.
الحكومة مرتبكة نعم والسياسيون أيضاً. ساهم في ارتباكهم جميعاً بعض الإعلام الفاجر والخوف من اتهامات بفساد ومحاصصة. كان يجب أن تقر التلزيمات لشركات جمع النفايات ومعالجتها. ليس صحيحاً أن المناقصات تضمنت مخالفات والنتائج أغلى مما يجب، ولكن من يسمع ومن يصدق إذا قلت هذا الكلام ؟ هناك سوء إدارة ربما وليس صفقات، يقول السياسي. ماذا عن تظاهرة السبت؟ “شعارات الشباب الأبرياء سوف تذوب في شعارات الأحزاب”.
انهيار النخبة السياسية في لبنان
نديم قطيش/الشرق الأوسط/28 آب/15
ثورات كثيرة تتراكب فوق بعضها البعض في المشهد اللبناني. ليست ثورة واحدة. ليست أجندة واحدة. وككل الانتفاضات أو الثورات أو الحراكات الشعبية ثمة رهانات كثيرة ومحاولات استغلال وخطف لا حصر لها. غير أن الحراك الذي اندلع بسبب أزمة النفايات والإدارة الفاشلة للملف، أكان إدارة الوزير المعني أو سياسات التعطيل التي مارسها حزب الله والتيار الوطني الحر بزعامة الجنرال ميشال عون بغية شل الحكومة. السيد محمد المشنوق، وزير البيئة، وهو مقرب من رئيس الحكومة وأحد ثقاته لم يفعل ما يكفي قبل حلول الأزمة حتى لرفع مستوى الإنذار بشأنها، وكسب المعركة الشعبوية، معتمدًا على منطق التسوية واللفلفة والاتفاق السياسي مع النائب وليد جنبلاط الذي وعد بإبقاء أحد المكبات الرئيسية في «منطقته» مفتوحًا. نام الوزير على حرير الوعد الجنبلاطي الذي لم يتحقق. وانفجرت الأزمة. ومضى الوزير من ارتباك إلى آخر ومن فشل إلى آخر، آخرها فضيحة دفاعه عن فض العروض، ثم انتقادها والمطالبة بتحسينها بعد تراجع الحكومة عنها!! شراكة فريق حزب الله في الفشل ليست قليلة. فالحكومة التي أمر حسن نصر الله بتشكيلها بعد الإطاحة بحكومة الرئيس سعد الحريري، ورثت من الحريري خطة متكاملة ومقرة لمعالجة ملف النفايات، لكنها منعت التنفيذ أو تغاضت عن تنفيذ مقررات مجلس الوزراء السابق لحسابات تتصل بشراكة الرئيس نجيب ميقاتي في شركة سوكلين التي تتولى ملف النفايات منذ نحو عقدين. ثم تحالف حزب الله مع عون في الحكومة الحالية على تعطيل عمل مجلس الوزراء لحسابات تتصل بمعركة ميشال عون الرئاسية، وأخرى تتصل بمعركة حزب الله لتعديل النظام وانتزاع حصة أكبر في قرار السلطة التنفيذية.
توزيع المسؤوليات هنا ليس حصرًا للإرث. إنما إشارة إلى أن ثمة شيئا كبيرا حصل في العمق عبرت عنه المظاهرات الأخيرة في لبنان. كان لافتًا أن الحراك الشعبي، في أساسه وفي عمقه هو حراك في مواجهة النخبة السياسية كلها. هو إعلان انهيار الثقة بالنخبة السياسية على حلبة ملف النفايات. وهذا الانهيار سببه في الواقع فقدان الطبقة السياسية لموضوعها بانهيار ركيزتين أساسيتين نهضت عليهما الحياة السياسية اللبنانية بصراعاتها وتحالفاتها ولغتها وعصبياتها. وهما أولاً موضوع العلاقة مع سوريا وثانيًا موضوع سلاح حزب الله.
دار الجزء الأكبر من الحياة السياسية في لبنان حول سوريا والعلاقة معها، منذ تولي حافظ الأسد الحكم في دمشق. واستمر هذا المحور مقررًا للسياسة اللبنانية ومنتجًا لها ولنخبها حتى خروج سوريا من لبنان ثم اندلاع الثورة السورية عام 2011، ذوى الموضوع السوري تدريجيًا وكان يرثه موضوع سلاح حزب الله، إلى أن تحول دخول حزب الله إلى سوريا إلى حرب استنزاف طويلة ومذبحة مفتوحة بينه وبين السوريين. في عام 2015 يبدو سلاح حزب الله ذابلاً وبلا أي مشروع سوى السطو العاري على أمن الناس ومستقبلهم، وهو ما سيفاقمه التقارب الإيراني مع شياطين الأرض ومنتجي المؤامرات!! لبنان إذاك، بإزاء حياة سياسية يضربها تصحر العناوين، وبالتالي ضمور الوظيفة، وترهل النخب السياسية التي زاد انكشافها فشلها المريع في مسألة الإدارة. إدارة النفايات، والخدمات والتوظيف والأمن والاقتصاد وغيرها الكثير.
هذا هو الفراغ السياسي الذي تملأه قطاعات جديدة بعضها كان في صلب انتفاضة الاستقلال، التي ما عادت قادرة على تخيير الناس، بين وجوب القبول بقلة الكفاءة وضعف المبادرة وانعدام الابتكار وتفاهة الكثير من النخب المُنتَجة، وبين أن يسقط البلد بيد سلاح حزب الله. جزء رئيسي من هوية حراك الناس في الشارع ضد الاثنين معًا. اعتدنا في لبنان على ألا يمر أكثر من عقد إلا وتحل نقطة تحول على الحياة السياسية والوطنية. الحقبة التي بدأت عام 1969 باتفاق القاهرة طوتها الحقبة التي بدأت بالحرب الأهلية الرسمية عام 1975، وهذه طواها الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 مفتتحًا حقبة جديدة تأخرت حتى عام 1984 بانقلاب الميليشيات «الإسلامية» على النظام «الماروني»، ثم ما لبثت أن طويت هذه بمرحلة جديدة بدأت مع توقيع اتفاق الطائف وما تلاها من معالجة ذيول الحرب الأهلية وافتتاح عهد عام 1992 والحريرية السياسية. لم تمر سنوات ثمان وإلا وكانت إسرائيل خرجت من لبنان عام 2000 مفتتحة «عصرًا» لبنانيًا جديدًا عنوانه تجدد الاصطدام بسوريا. ثم اغتيال الحريري عام 2005 ثم ثم ثم.. 2015 دخل لبنان مرحلة جديدة وخطيرة، تحتاج إلى ابتكارات فذة لتجديد الثقة بين الناس وبين الدولة والنظام السياسي، وتحسين نسل النخبة السياسية، قبل سقوط الهيكل على الجميع. مسؤولية الحراك كبيرة في حمايته من الاختطاف، لا سيما من محاولات حزب الله استخدام الغضب الحقيقي والمشروع بغية قلب النظام. لكن هذا الحرص لا ينبغي أن يمنعهم من تعرية النخبة السياسية الحاكمة وجرها إلى حيث لا تريد، وهو إعادة الاعتبار للكفاءة على حساب فائض الولاء، ولفعل الإصلاح الحقيقي على حساب الشعاراتية الشعبوية والصراخ!!