خيرالله خيرالله: لماذا الدولة العلوية ليست خياراً/وسام سعادة: فسادُ الفساد كمقولة: أحد عشر سبباً

329

فسادُ الفساد كمقولة: أحد عشر سبباً
وسام سعادة/المستقبل/03 آب/15
الفساد كلمة فَسُدَت لبنانياً لكذا سبب. أوّل الأسباب طبعاً تخمة الفساد نفسه بحيث ما عاد المصطلح كافياً لاستيعاب شتى أنماطه وأنواعه.
وثاني الأسباب انشطار الحالات النفسية للناس بازاء ملفات الفساد وقضاياه بين تسليم قدري باستشرائه، وباستحالة مواجهته، وبين نوبات ارادوية تعتبر أنه يمكن تطهير قطاع ما، الأدوية الفاسدة أو الأغذية غير المطابقة مثلاً، أو مراعاة تطبيق قانون ما، كمنع التدخين في الأماكن العامة المغلقة مثلاً، ومن بعدها يصير بالمقدور توسيع تجربة الاستقامة والنزاهة والشفافية وتحكيم القوانين وضابطتها. قسم كبير من الناس يتنقل ليلاً ونهارا بين التسليم القدري بالفساد وبين الحماسة التطهيرية له في قطاع بعينه، وهناك من يزيد على ذلك رغبات متوترة بقطع رأس الفساد بضربة واحدة، وهذه في العادة النغمة التي تعتاش عليها البيئات الحالمة باقامة حالات سلطوية أمنية من أي شكل كان، ويفترض ان تكون التجارب اللبنانية في هذا المضمار كافية لاقناع الناس بعدم تكرارها.
وهذا هو ثالث الأسباب، فالتحريض على فساد الطبقة السياسية في هذا البلد لم تحمله بعد الحرب قوى مهمومة بحماية مرادها من ألاعيب الأجهزة السورية واللبنانية، بل حملته الأجهزة نفسها، وبالاشتراك مع شبكات مافيوية بها الفساد يفترض أن يُعرّف. فبدل أن تكون هناك قوى شعبية، تواليها بعض الأجهزة، وتتقاطع معها بعض المافيات، وهذا بحدّه أمر اشكالي، فقد جاء الهرم مقلوباً: مافيات تتخذ من أجهزة بعينها سلاحها الضارب، وتواليها بعض القوى السياسية وبعض الشرائح الشعبية.
ويقابل ذلك السبب الرابع. وهو ان كل نقاش في هذا البلد يغرق في لغة لا تعني كلماتها شيئاً محدداً وواضحاً وله دلالة سياسية. خذ مثلاً شعار «قانون انتخابي عصري يضمن صحة التمثيل«. هل هذا معيار لاختيار القانون؟ هل هناك قانون سيقدّم نفسه مثلاً أنه باطل وغير تمثيلي؟ الأمر نفسه بالنسبة الى الفساد ومكافحته. هناك اجماع وطني وسياسي ضد الفساد بالشكل الذي يجعل من الفساد نفسه شراكة وطنية. الجميع ضد الفساد الى ان يعود القانون يحكم الجميع. هذا ما يردّده الجميع وهذا ما يضمن لكل من يريد تهميش مساحة الاحتكام الى القوانين فرصة سانحة لفعل ما يشاء.
السبب الخامس. الفساد، وخصوصاً في اللغة العربية وبالشكل المتداول كلمة يطغى فيها الأخلاقي على القانوني، وبخلفية «أحكام الطهارة والنجاسة« أكثر منها الواجب الأخلاقي كما نحت شروطه عصر التنوير وايمانويل كانط. ولأجل ذلك الفساد هو بالنسبة الى جمهور الناس ثنائية بركة ولعنة. بركة حين تكون استفادة منه ولعنة حين تبطل هذه الاستفادة. بركة حين يستفيد منه القريب ولعنة حين يستفيد منه المختلف. بركة حين يعرف الفاسدون كيف يسيّرون أمورهم من دون الاصطدام بالحائط أو التسبب بفضائح نافرة، ولعنة حين يفشل الفاسدون في تجديد دورتهم بطمأنينة وسلام.
السبب السادس متّصل بكون الفساد في آن واحد شكل من أشكال الاثراء والتملك غير المشروعين قانونياً لقلّة، وانطلاقاً من تطويعهم او استباحتهم للقوانين والمرافق والوظائف العامة، وبين كونه شكل من أشكال السلّم الاجتماعي واعادة توزيع الثروة، في بلد لا تعرف قوانينه وسياسات حكامه أي هامش لاعادة توزيع الثروة أو لتطبيق «العدالة الاجتماعية« المنصوص عنها في مقدمة الدستور، غير توسيع القاعدة الاجتماعية للمستفيدين الثانويين من عمليات الفساد الجارية على قدم وساق.
السبب السابع الذي يجعل الفساد كلمة فسدت هو انّ المستخدمين اليوميين بشكل محموم لها، سواء في النخب أو بين القطاعات الأوسع، يهرعون اليها كما لو لم يكن هناك سياسة في هذا البلد، كما لو ان السياسة هي فقط للتستر على عمليات الفساد، كما لو انّ العلاقات بين الطوائف هي أمور واهية، يراد منها فقط الهاء الناس، كما لو ان سلاح «حزب الله« هو قضية مفتعلة، بل ان بعض «اللا – فساديين« يأخذ على هذا السلاح أنه لم يستخدم لمحاربة الفساد كما يجب! كل هذا تهريج.
السبب الثامن هو الغرق في تهويمات مرضية. هذا يقول لذاك «الكل فاسد«. وذاك يقول لهذا «نعم ولكن لا تجوز النسبية«. هناك كبار الفاسدين وهناك صغارهم. صاحبنا هنا يحسب انه يسدّد ضربة قاضية. في حين انها الحيلة التي يعتمدها كل طرف للقول بأن فساده رحيم، و«مهضوم«، وانّ العتب على شراهة «الشريك في الوطن«، وهكذا.
السبب التاسع انّ ليس كل ما نسميه الفساد فساداً. المحاصصة مثلاً ليست فساداً بالضرورة. يمكن ان تقونن المحاصصة بين الطوائف بشكل يجعلها أكثر مناعة بوجه عمليات الفساد. محاصصة في بلد يتوسع في لامركزيته بشكل واسع النطاق، يفترض ان تكون اقل «فسادية« من محاصصة في بلد يصرّ على مركز متضخم لتوزيع واعادة توزيع كل الحصص.
السبب التاسع ان «الطبقة السياسية« المشهر بفسادها ليس بمصطلح له حيثية سوسيولوجية ما مثل الطبقة الاجتماعية، وليس له أي حيثية قائمة بذاتها، وهو مصطلح يستخدمه فريق سياسي ضد فريق آخر، وقسم من الطبقة السياسية ضد القسم الآخر، كما ان كل حديث عن الاوضاع الاقتصادية والمالية، على قاعدة تفضيل المافيات التي لا تخوض رأساً في السياسة، أو لا تتمحور فيها، افضل الذين يزاوجون الاعمال والسياسة، هو تفضيل فاسد. الطبقة السياسية يجوز استخدامها كمصطلح تقريبي، سياقي، اما استخدامها بشكل مطلق وكما لو كانت تعني رهطاً من الناس مفصولين عن مجتمعهم، كما لو كانوا يشكلون ادارة كولونيالية فوق هذا المجتمع، فكل هذا لا يخدم تحسين زاوية النظر.
السبب العاشر هو مفاهيم سحرية عن «الرأي العام« و«المجتمع المدني«. مثلاً: المجتمع المدني يفترض فيه ان يكون فضاء للطاقات الشعبية المراقبة عمل السلطة القضائية، كما باقي السلطات، لكنه لا يمكن أن يحل محلها. عندما يسمح ناشطون مدنيون مفترضون لانفسهم بتوجيه التهم ليس فقط بلا دليل ولكن قبل كل شيء من خارج او من فوق الآليات القانونية، فهذا قد يسوّغ لنفسه بعدم فعالية المؤسسات القضائية، لكنه تسويغ جزئي ويرتد سلباً عندما يستخدم بشكل اطلاقي، فيصير التشهير صنو التخوين في مجتمع كل شيء فيه حدس وغيب وتخمين بلا دليل، ولا آليات، ولا مؤسسات. اذا كان القضاء عاجزاً عن التصدي لقضايا الفساد، فان «القضاء البديل« المزعوم، سواء اتخذ لنفسه حلة برامج تلفزيونية او تحركات ميدانية، هو افساد محض لأي طريق ممكن لمعالجة قضايا الفساد.
السبب الحادي عشر، «السبب الكافي« المتضمن في كل هذه الاسباب ويجوز افراده لوحده، يبقى طبعاً، انه عبثاً تعالج أي كبيرة وصغيرة في هذا البلد، وعبثاً يأخذ على خاطرك من هذا السياسي أو ذاك الرأسمالي، وهناك في البلد شيء اسمه «حزب الله« في مقاسه الحالي.

 

لماذا الدولة العلوية ليست خياراً
خيرالله خيرالله/المستقبل/03 آب/15
خلاصة الخطاب الأخير لرئيس النظام السوري أنّه لا يزال لديه خيار الإنكفاء إلى الشاطئ السوري وأن يقيم دولة ذات امتداد في لبنان عاصمتها دمشق. هذا يفسّر إلى حدّ كبير التركيز المستمرّ منذ اندلاع الثورة السورية على حمص التي تقف عائقا دون ربط دمشق بالساحل السوري. كذلك، يفسّر التركيز على عرسال وضرورة إزالتها من الوجود نظرا إلى أنّها عقبة بين ربط دويلة «حزب الله» في البقاع اللبناني والمناطق المحيطة بدمشق، مثل القلمون، وصولا إلى حمص…ومنها إلى منطقة الساحل.
هذا الكلام عن الدولة العلوية، ذات الإمتداد اللبناني، تجاوزه الزمن، كما تجاوزته الأحداث، لا لشيء، سوى لأنّ الشرخ الطائفي والمذهبي في سوريا صار واقعا أليما بعدما عجز النظام عن فهم أنّه إنتهى منذ فترة طويلة. لم يستوعب النظام أنّ ايران لن تكون قادرة على إنقاذه، لا عبر خبرائها، ولا عبر ميلشياتها المذهبية العراقية واللبنانية والإفغانية، ولا حتّى عبر صفقات السلاح مع روسيا…ولا عبر الفيتو الروسي والصيني في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
معروف أنّ خيار الدولة العلوية كان دائما مطروحا لدى الأسد الأب والأسد الإبن. الباحث الأميركي جواشوا لانديس، المتزوّج من علوية، والذي عاش طويلا في سوريا يقول أنّ الجيش الذي أنشأه حافظ الأسد، والذي يسيطر عليه الضبّاط العلويون، إنّما أنشئ استعدادا للوصول إلى اللحظة الراهنة. الجيش تحت السيطرة العلويّة لا اكثر ولا أقلّ. كلّ الشعارات المستخدمة عن العروبة والبعث، بشعاراته الفارغة، وتحرير فلسطين ليست سوى غطاء لهذا الواقع.
ليس سرّا ما تحدّث عنه الملك عبدالله الثاني في إحدى مقابلته الصحافية عن الإنكفاء العسكري للعلويين في إتجاه الساحل عندما اقترب الجيش الإسرائيلي من دمشق في حرب العام 1973. كانت هناك دائما خطة بديلة لدى النظام الذي أقامه حافظ الأسد الذي سعى دائما إلى اكتساب شرعية على الصعيد السوري والعمل، في الوقت ذاته، على أن يكون الخيار العلوي، خيار حلف الأقلّيات، مطروحا وفي متناول اليد. كان مطلوبا في كلّ وقت المتاجرة بالفلسطينيين وقضيتهم بغية تغطية المشروع الأصلي للنظام، أي المشروع العلوي.
كلّ ما يستطيع أن يفعله بشّار الأسد الآن، هو المساهمة في تفتيت سوريا. في النهاية، ما الذي يمكن أن يفعله بشّار في الساحل السوري حيث لا توجد مدينة كبيرة واحدة ذات أكثرية علويّة؟
لعلّ أخطر ما في الأمر أن الأسد الإبن يُستخدم حاليا، من حيث يدري أو لا يدري، في الإنتهاء من سوريا. سيحاول الإيرانيون إنقاذه. الكلفة بالنسبة إليهم كبيرة ماديا، علما أنّ هذه القدرة المالية لإيران ستزداد في حال رفع العقوبات عنها نتيجة توقيع الإتفاق النووي. لكنّ هذه القدرة تبقى محدودة من الناحية البشرية. عدد الإيرانيين الذين يُقتلون في سوريا قليل جدا. أين مشكلة ايران عندما يُقتل مئات الشبان اللبنانيين أو العراقيين أو الأفغان من أجل تحقيق ما تصبو إليه، أي دولة علوية تدور في فلكها؟ إنّه رهان يستأهل ما تدفعه ايران من مليارات من أجل بقاء سوريا جسرا إلى الداخل اللبناني…
لا يعكس الخطاب الأخير لبشّار الأسد سوى الحال النفسية لرجل معزول عن العالم وعن سوريا نفسها، يرفض الإعتراف بالواقع. يتجاهل إنّه على رأس نظام لا يمتلك أيّ شرعية من أي نوع كان. النظام مرفوض من شعبه أوّلا. هناك أكثرية سنّية في سوريا. امتلك حافظ الأسد ما يكفي من الدهاء للتعاطي مع الموضوع المذهبي بطريقة ذكّية. راهن أوّلا على شقّ السنّة بتفريقه بين سنّة الأرياف وسنّة المدن.
قبل كلّ شيء، لم يتسلّم الأسد الأب رئاسة الجمهورية مباشرة بعد الإنقلاب الذي نفّذه في السادس عشر من تشرين الثاني ـ نوفمبر 1970، عيّن رئيسا موقتا يدعى أحمد الخطيب، كان مجرّد إستاذ مدرسة في الريف السوري. انصرف بعد ذلك إلى الصلاة في كلّ يوم جمعة في أحد المساجد السنّية في مناطق سورية مختلفة. أراد بكلّ بساطة توجيه رسالة فحواها أنّه مسلم وأنّ لا فارق بين السنّة والعلويين. انتظر ثلاثة أشهر كاملة كي يصبح رئيسا للجمهورية. عمل بعد ذلك، على الإستعانة بواجهات من سنّة الأرياف، هو الذي يكره أهل السنّة في المدن وقد اشرف شخصيا على استبعاد كلّ الضباط الكبار الذين ينتمون إلى مدن مثل دمشق وحمص وحماة وحلب. استخدم حكمت الشهابي وعيد الحليم خدام ومصطفى طلاس وشخصيات مثل محمود الزعبي وفاروق الشرع وغير هؤلاء، بصفة كونهم من سنّة الريف أو من مدن صغيرة. فدرعا هي من أكبر الحواضن الريفية السنّية للبعث القديم الذي استعان به حافظ الأسد في مشروعه السلطوي.
حقّق حافظ الأسد نجاحا كبيرا في المحافظة على نظامه بعدما عرف كيف يؤسس لحلف الأقليات المدعوم من سنّة الأرياف. هذا ما لم يحسنه بشّار الأسد الذي اعتقد أن العائلة أهمّ من الطائفة وأنّ شبكة العلاقات التي اقامتها العائلة، وهي شبكة قائمة على المصالح الإقتصادية التي بات الأقارب يحتكرونها، كافية لحماية النظام بطبعته الجديدة. كان التصرّف الأحمق في درعا في آذار ـ مارس 2011، الدليل الأوّل على أن بشار أخل بالتوازن الدقيق الذي أقامه والده وعمل على حمايته. هذا التوازن شمل أيضا اللعب على ايران. صحيح أن حافظ الأسد عمل على إقامة علاقة في العمق مع ايران، وهي علاقة ذات طابع مذهبي في العمق، إلّا أنّه عرف كيف يستخدم الورقة الإيرانية لإبتزاز العرب الآخرين، على رأسهم قادة الدول الخليجية.
كان هناك توازن يقوم عليه النظام السوري. في اساسه الحلف مع سنّة الريف. لم يكتف بشّار الأسد بضرب هذا التوازن، بل ذهب بعيدا في الإتكال على ايران وعلى ميليشيا «حزب الله» التي صارت جزءا من أمن النظام، خصوصا بعدما ملأت الفراغ الذي خلّفه الإنسحاب السوري من لبنان في نيسان ـ ابريل 2005. عاش النظام السوري أطول بكثير مما يجب. لم يكن نظاما طبيعيا في أيّ شكل أو مقياس. استفاد حافظ الأسد طويلا من البعثي الآخر صدّام حسين وحماقاته وغياب قدرته على التعاطي مع المعادلات الإقليمية والدولية. كان بين المستفيدين الأساسيين من مغامرة إحتلال الكويت قبل ربع قرن. الآن، لم تبق لدى النظام السوري سوى الورقة الإيرانية التي تراهن حاليا على خيار الدولة العلوية. مثل هذا الخيار يمكن أن يؤسس لحروب جديدة تستمر سنوات طويلة. كذلك يمكن أن يؤسس لتفتيت سوريا أكثر مما هي مفتّتة. لكنّه ليس خيارا قابلا للحياة، لا لشيء، سوى لأن ليس في الإمكان جعل السنّة أقلّية في أي بقعة من بقاع سوريا أو أي منطقة من مناطقها، حتّى لو كان هناك امتداد لبناني لهذه البقعة أو المنطقة…