سيناريوات ما بعد الاتفاق النووي
عبدالله ناصر العتيبي/الحياة/20 تموز/15
يعتقد بعضهم، وأنا منهم، أن اشتباك الغرب مع إيران حول برنامجها النووي لا يمكن أن يتوقف بمجرد توقيع الطرفين على اتفاق من 150 أو 200 صفحة. المسألة أعمق بكثير من «وصايا وتعليمات» حبر مسكوب على ورق، فنوايا الفريقين الطيبة وغير الطيبة ليس من المنتظر أن تتقاطع خلال السنوات القليلة المقبلة. سنشهد خلال الأسابيع والشهور المقبلة الحديث عن خروقات للاتفاق الموقع، وستتحدث الأطراف المعنية عن الحاجة إلى صياغة ملاحق جديدة للاتفاق يكون دورها فقط ترميم ما اخترق وانتهك من بنود. ستظل الأزمة المفتعلة من الطرفين قائمة. حتى يبدأ وحش الزمن في قضمها قطعة قطعة، إلى أن يودع الجزء الصغير المتبقي في النهاية بعد 20 أو 30 عاماً في متحف المشاكل الدولية المعلقة.علّمنا التاريخ أن هذا النوع من الاتفاقات الأممية لا ينتهي بحفلة توقيع ومظاهرة فرح في شارع، وإنما هو خاضع دائماً لحلول الزمن لا الورق. لكن السؤال دائماً يبقى: ما هو تأثير هذا الاتفاق الظاهري على إيران؟ وكيف سيتفاعل الشعب الإيراني مع زوال حالة الطوارئ التي كانت تفرضها النخبة الحاكمة بحجة مواجهة المؤامرة الدولية؟ هناك سيناريوان متوقعان للحال الإيرانية بعد الأزمة، أميل إلى الثاني وأستبعد الأول. السيناريو الأول يتمثل في عودة إيران إلى مظلة الشرعية الدولية من جديد، الأمر الذي سينعكس إيجاباً على سلوكها الأمني والسياسي في المنطقة في المستقبل القريب. بعض الدول تسلك في منهجها السياسي سلوك الأفراد الاجتماعي، فبمجرد شعورها بأنها مستبعدة من الشرعية الدولية، تبدأ في خلق المشاكل في محيطها لتجبر الآخر على الخضوع للتفاوض من أجل إعادتها إلى دائرة المنفعة اقتصادياً وسياسياً، وهذا ما فعلته إيران خلال العقد الأخير. ذهبت إيران إلى العراق لتفرض هناك رؤيتها المذهبية ومنهجها السياسي بعد سقوط نظام صدام حسين، وجعلت من أرض الرافدين مستنقعاً للاستقطاب الطائفي ملغية بذلك مفهوم الدولة بالكامل. وجاءت إلى سورية لتدعم نظاماً فاشياً يقف في زاوية وكل العالم في زاوية أخرى. واخترقت اليمن لتصنع مفهوماً جديداً للتمرد الخارج على الشرعية الدولية. وحاولت أن تخترق الدولة المصرية في أكثر من مناسبة باستخدام العامل الديني. وفعلت مثل ذلك في تونس والمغرب والسودان ودول أخرى في المنطقة. واليوم بعد الاتفاق الظاهري ستتراجع إيران عن هذا المسلك بعدما حققت هدفها الاستراتيجي الرئيس. ستخرج من العراق، وتتخلى عن نظام بشار الأسد، وتوقف دعم الحوثيين في اليمن، وتتخلى عن سياسة تصدير الثورة. ستتوقف النخبة الحاكمة تماماً عن دعم الجماعات الإرهابية وتعود إلى الداخل الإيراني وتبنيه، وتعمل على ازدهار الاقتصاد بمساعدة الأموال المحررة والمداخيل غير الخاضعة لقيود العقوبات الدولية. يقول هذا السيناريو إن إيران ستصبح دولة صالحة في إقليمها بمساعدة هذا الاتفاق، وما كان سلوكها السلبي خلال السنوات الماضية إلاّ رد فعل منطقياً لاستبعادها من حديقة النور العالمية. السيناريو الثاني هو استمرار إيران في التورط في المشاكل الإقليمية والذهاب بعيداً في ذلك، بل التطرّف والإيغال في هذه الأزمات من أجل تعويض غياب تأثير الأزمة النووية على شعبها. النخبة الحاكمة في إيران التي اغتصبت الحكم في العام 1979، تعرف أن غياب الضغوط الدولية عن الواقع الإيراني وازدهار الاقتصاد وتمتع الشعب بنعيم الثروة المفاجئة سيحمل استحقاقات شعبية من الصعب الخضوع لها والانقياد لنتائجها. تدرك هذه النخبة الحاكمة، المصمم قالبها ليناسب طبقة معينة، أن الشعب الإيراني بلا ضغوط خارجية وحال طوارئ داخلية سيرتفع سقف مطالبه إلى أن يصل إلى مؤسسة الحكم مطالباً بتمدينها وتغيير هيكلها، لتستوعب المشاركة الشعبية في عموم المدن والأرياف الإيرانية ومختلف الأعراق والطبقات المجتمعية. نظام الحكم في إيران حاله كحال الأنظمة المتطرفة والديكتاتورية والأوليغاركية الأخرى، يسعى دائماً إلى إدخال شعبه في الأزمة تلو الأزمة لإشغاله عن التطلع إلى ما هو أكبر من مجال تفكيره اليومي، سواء أكانت هذه الأزمات اقتصادية أم اجتماعية أم سياسية. المهم أن يبقى المواطن دائماً مشغولاً بنصف الدائرة السفلي الاجتماعي والاقتصادي والديني ليبقى النصف العلوي الذي هو مسألة الحكم بعيداً من تطلعاته ومساعيه الإصلاحية. الاتفاق النووي الجديد سيطيح بالملالي في إيران أو سيغرق المنطقة في جولة جديدة من الاضطراب. وفي كلا الحالين سيكون للزمن دوره المتوقع في معالجة الأزمات.
تحالف الغرب مع السعودية ليس منحة
سلمان الدوسري/الشرق الأوسط/20 تموز/15
السير كريستوفر ميير السفير البريطاني السابق لدى الولايات المتحدة وألمانيا، والزميل البارز لمعهد الخدمات الملكية المتحدة، نشر مقالاً في الزميلة صحيفة «الغارديان» اللندنية تحت عنوان «الفوضى في الشرق الأوسط تعني أن وقت التحالف مع إيران قد حان»، ملخصه أنه طالما لم تعد هناك قدرة على إسقاط نظام بشار الأسد بسبب الدعم الروسي الإيراني، وفي أعقاب ظهور تنظيم داعش المفاجئ واستقطابه للمقاتلين الغربيين، فـ«شئنا أم أبينا، نحن في تحالف على أرض الواقع ضد (داعش) وإلى جانب الأسد، وإيران، العدو العتيد لحليفتنا المملكة العربية السعودية»، ثم يتوصل سعادة السفير إلى نتيجة حتمية يطالب بها بلاده والغرب بإيقاف كل الأعمال العسكرية ضد «داعش»، وهذا هو المذهل، عبر «ترك المنطقة تحل مشكلاتها بنفسها»، ثم يختم مقاله بهذه العبارة: «إذا تمكن تنظيم داعش من التوسع في الشرق الأوسط، ألن يؤدي هذا حتمًا إلى استنتاج أن إيران يجب أن تكون حليفنا الاستراتيجي في المنطقة خلال القرن الواحد والعشرين؟». ثلاث نقاط رئيسية تغفلها هذه التحليلات غير الواقعية عن فك التحالف الغربي السعودي وتوجيهه نحو إيران، التي أصبحت عقيدتها السياسية مقبولة فجأة لدى الدول الغربية، أولها أن الغرب جرب التحالف مع السعودية ودول الخليج لستة عقود ويستطيع أي مراقب تأكيد أن هذا التحالف كان عاقلاً ولم يتسبب بأي أزمات إقليمية أو عالمية. وثانيها أن الإرهاب السني، كما يسميه الغرب، ناتج عن تنظيمات متطرفة تحاربها الحكومات الخليجية بلا هوادة وتعتبرها معركتها الأولى، بشهادة الغرب، أما الإرهاب الشيعي فهو حالة معاكسة حيث يدعمه النظام الإيراني نفسه كما في حزب الله أو ميليشيا الحشد الشعبي أو الحرس الثوري وغيرها من التنظيمات المتطرفة. والنقطة الثالثة، وأهمها من وجهة نظري، أن التحالف الغربي الخليجي ليس منحة تقدمها الدول الغربية لنظرائها في الخليج، بقدر ما هو مصلحة استراتيجية عميقة أثبتت أهميتها لكلا الطرفين ولم يستفد منها طرف واحد فقط.
ولعل استراتيجية «ترك المنطقة تحل مشكلاتها بنفسها»، التي يمكن القول إن نغمتها تتزايد في الدوائر الغربية يومًا بعد الآخر، تفترض أن محاربة الإرهاب في منطقة الشرق الأوسط هي عمل خيري تتفضل به الولايات المتحدة وحلفاؤها على دول المنطقة، بالطبع هذا طرح سياسي براغماتي بحت ولا يمت بصلة للطرح الاستخباراتي من الغرب نفسه، باعتبارهم يعون جيدًا أن ألف باء مكافحة الإرهاب تعني أن محاربته في محيطه أفضل وأسهل ألف مرة من محاربته بعد أن يصل لحدودك، مثلاً التنظيمات الإرهابية التي نشأت في سوريا، انتعشت وتمددت وترعرعت بعد رفض الغرب نصائح حلفائهم العقلاء، بضرورة القضاء على هذه التنظيمات قبل أن تستفحل وتنتشر، وهو ما حدث لاحقًا بنفس السيناريو الذي تم التحذير منه، أما المثال العملي الآخر الذي ينسف فكرة «ترك المنطقة تحل مشكلاتها بنفسها»، ظاهرة القرصنة في القرن الأفريقي، عندما لم تكن يومًا مشكلة تخص الدول المحيطة بها، بل كانت مشكلة هددت الملاحة العالمية بأسرها. التحالف الغربي السعودي تحالف تتقاطع فيه المصالح بشكل رئيسي وطبيعي، واستمراره فيه منفعة للمنطقة وللعالم أجمع، كما أن ترميمه ومراجعته وحتى تصحيح مساره يصب في استمرار نجاحه، أما التلويح بفك عراه والانتقال للجهة الأخرى من الخليج ففيه ضرر لكل الأطراف، فكما ستخسر السعودية ودول الخليج العربية تحالفها الاستراتيجي ومصلحتها منه، ستكون الخسارة كبيرة أيضًا على مصالح الغرب في المنطقة بالمراهنة على دولة يصنفها الغرب نفسه محورًا للشر ودولة مارقة، قبل أن يفعل الاتفاق النووي فعلته وتتحول لدولة صديقة ومتوازنة.