حركات الإسلام السياسي تخرج من التاريخ السيد يسين/الحياة/03 أيار/15
ليس هناك أدنى شك لأي باحثٍ موضوعي في أن حركات الإسلام السياسي، بعد سقوط جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر في 30 حزيران (يونيو)، قد خرجت من التاريخ!
وهذه الحقيقة الساطعة أصرت على تجاهلها الولايات المتحدة الأميركية التي حاولت التشكيك في الانقلاب الشعبي على حكم «الإخوان المسلمين» الديكتاتوري باعتباره انقلاباً عسكرياً، بحكم الدعم الجسور للقوات المسلحة المصرية لهبة الجماهير الشعبية، اعتراضاً على هدم أسس الدولة المدنية وتغيير هوية المجتمع.
ولا غرابة في هذا الموقف السياسي المتعصب، لأن الولايات المتحدة الأميركية منذ عام 2003، وهي تمهد لتمكين ما أطلقت عليه البحوث الاستراتيجية الأميركية «الإسلام الليبرالي» تمهيداً لوراثة حكم الأنظمة السلطوية العربية وفي مقدمها النظام المصري في عهد الرئيس السابق «مبارك». والذي يريد أن يتأكد من هذه الحقيقة عليه أن يراجع بحوث مؤسسة «راند» الأميركية، والتي تمثل العقل الاستراتيجي الأميركي التي قامت بها بقيادة الباحثة «شيرلي بينار» التي دعت جهاراً نهاراً إلى الدعم السياسي والمالي لكوادر إسلامية معتدلة، بل إنها إمعاناً في التخطيط الاستعماري لضمان القضاء على تكامل الدول العربية دعت إلى إعادة صوغ الأفكار الإسلامية، بعد أن صنفت التيارات السائدة في العالم الإسلامي تقليديين وعلمانيين ومتطرفين.
وحين تبلورت نتائج هذه البحوث الاستراتيجية اتخذت الإدارة الأميركية قراراً بدعم جماعة «الإخوان المسلمين» حتى تستلم السلطة في مصر بعد القضاء على نظام «مبارك» التي حاولت جاهدة إسقاطه من خلال دفعه دفعاً للإصلاح الديموقراطي حتى لا يستمر في السلطة هو أو أي فرد من أفراد عائلته.
ولعل هذا القرار هو الذي يفسر العلاقات الوثيقة بين السفيرة الأميركية السابقة في القاهرة مع قادة جماعة «الإخوان المسلمين»، فيما يشبه الاتفاق على دعمهم «ديموقراطياً» حتى يستلموا السلطة بعد أن قدم لهم قادة الجماعة المواثيق التي تتعلق بالحفاظ على أمن إسرائيل، وعدم إلغاء معاهدة كامب ديفيد، وهكذا بعد أن تولى الرئيس المعزول «محمد مرسى» رئاسة الجمهورية أرادت الولايات المتحدة الأميركية، حفاظاً على مصالحها، أن تحصنه وتمنعه من السقوط، ولما سقط بالفعل ادعت أن ما حدث انقلاب على رئيس شرعي.
لماذا قلنا في بداية المقال أن سقوط جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر هو خروج من التاريخ؟ الإجابة هي أن جدل الواقع هو الذي أسقط المشروع «الإخواني». ولكي نفهم هذه الحقيقة علينا أن نمارس التحليل الثقافي الذي يتعلق بمسيرة جماعة «الإخوان المسلمين» منذ نشأتها، في إعاقة حركة الإصلاح الديني في مصر، والتي كانت تهدف إلى تحقيق التأليف الخلاق بين الإسلام والحداثة.
كان هذا هو مشروع الشيخ «محمد عبده» المصلح الديني الكبير الذي حاول أن يقوم بهذه المعادلة الرائدة في كتابه المعروف «الإسلام والعلم»، غير أنه لاقى مقاومة عنيفة من ممثلي الإسلام التقليدي، ومما أضعف من محاولته أنه لم يكوّن مدرسة تضم باحثين ومفكرين يواصلون تعاليمه التقدمية. بل إن تلميذه «رشيد رضا» صاحب مجلة «المنار» كان رجعياً محافظاً وتقليدياً وهو الذي تتلمذ على يده الشيخ «حسن البنا» مؤسس جماعة «الإخوان المسلمين».
وكان أمام «حسن البنا» خياران: أن يواصل حركة الإصلاح الديني التي بدأها الشيخ «محمد عبده» أو يتنكب طريقة ويبتدع مذهباً يخلط فيه خلطاً معيباً بين الدين والسياسة والعنف، يهدف إلى قلب الدول العربية المدنية وتحويلها إلى دول دينية في سياق الحلم المجنون باستعادة الخلافة الإسلامية التي يحكمها خليفة واحد يحكم المسلمين جميعاً في مشارق الأرض ومغاربها.
والواقع أن التحليل الثقافي هو الذي يمكن أن يكشف أسباب السقوط النهائي لجماعة «الإخوان» المسلمين عام 2013 في مصر، لأنه يلقي الأضواء على أزمة «العقل التقليدي» الذي يميز مشروع جماعة «الإخوان المسلمين».
ولقد رصدنا منذ عام 1994، ما أطلقنا عليه «أزمة المشروع الإسلامي المعاصر» في مقالة ضمها كتابنا «الكونية والأصولية وما بعد الحداثة» (القاهرة: المكتبة الأكاديمية 1996).
وقلنا بالنص «يمر المشروع الإسلامي بأزمة لا شك فيها. ونقصد بهذا المشروع الحركة الإسلامية التي ظهرت في ربوع الوطن العربي منذ أكثر من ستين عاماً. وربما كان الإخوان المسلمون، بحكم انتشارهم في عديد من البلاد العربية، هم الممثلون الرواد لهذه الحركة. والأزمة التي نتحدث عنها لا تتعلق فقط بالسلوك العملي لأنصار هذا المشروع الذي جعلهم يصطدمون بالسلطة في عديدٍ من البلاد العربية صداماً دامياً في بعض الأحيان، بل هي في المقام الأول أزمة تتعلق بالمنطلقات النظرية لهذا المشروع ورؤيته للعالم ونظرته إلى نفسه وباتجاهه إزاء الغير». وأعتقد أنه تكمن في العبارات الأخيرة في هذه الفقرة الأسس الرئيسية لأسباب خروج حركات الإسلام السياسي من التاريخ.
السبب الأول أن جماعة «الإخوان المسلمين» تمثل تجليات العقل التقليدي الذي يعجز عن مواجهة مشكلات الواقع، والذي يخوض معركة شرسة مع الخطاب العصري.
والسمات الأساسية للخطاب التقليدي أنه يتشبث بالماضي، وهذا الماضي المختار المتخيل يختلف وفق هوية منتج الخطاب. وهو خطاب يهرب من مواجهة الواقع ولا يعترف بالتغيرات العالمية، أو على الأقل يحاول التهوين من شأنها أو يدعو بصورة خطابية للنضال ضدها، وبغير أن يعرف القوانين التي تحكمها… وهو عادة ما يتبنى نظرية تآمرية عن التاريخ، وهو أخيراً ينزع، في بعض صوره البارزة، إلى اختلاق عوالم مثالية يحلم دعاته بتطبيقها بغض النظر عن إمكانية التطبيق أو بعدها عن الواقع.
ولعل ما يؤكد صدق هذا التحليل هو المشروع «الإخواني» الذي روج له الدكتور «محمد بديع» المرشد العام لـ «الإخوان المسلمين»، بعد نجاح حزب «الحرية والعدالة» في الانتخابات البرلمانية في مصر، حين قال: «يبدو أن حلم حسن البنا في استرداد الخلافة الإسلامية قارب على التحقق»!
ومعنى ذلك أن «المرشد» وجماعته أدمنوا الإسراف في الخيال والحلم باسترداد عالم الخلافة الإسلامية كأنه كان عالماً مثالياً، مع أنها قامت، بعد عصر الخلفاء الراشدين، على السيف والقهر والعنف. ولعل الخلافة الوهمية التي أعلنها «أبو بكر البغدادي» في سورية والعراق والتي تتضمن تشويهاً كاملاً لصورة الإسلام بتصوير الخلفاء المسلمين على أنهم مستبدون في تاريخ الدولة الإسلامية.
ولم يكن لدينا شك – في تصويرنا أزمة العقل التقليدي – أن أنصاره يمرون بمأزق حقيقي، لأنه عاجز عجزاً تاماً عن الإجابة عن الأسئلة المطروحة عليه أياً كان نمطه واتجاهه. وهذا الخطاب لا بد له – في بعض الصور البارزة له، وأهمها خطاب «الإخوان المسلمين» – أن يدفع أصحابه ثمناً فادحاً لعدم مواجهة الواقع بحكم أنهم منغمسون في تشكيل عالم مثالي من صنع خيالاتهم وأوهامهم، وهم في هذا السبيل لا تعنيهم حركة القواعد المستقرة لحقوق الإنسان ولا حتى خراب البلاد والعباد.
هذا التحليل الذي قمنا به منذ سنوات يجد مصداقاً له في السقوط المدوي لحكم جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر بعد عامٍ واحد من تسلمهم السلطة المطلقة.
من هنا، يمكن القول أن التصريحات التي تصدر من بعض الأطراف السياسية عن إمكانية «التصالح» السياسي مع جماعة «الإخوان المسلمين» لا يدرك أصحابها أننا أمام تناقض جوهري لا يمكن تجاوزه بين العقل التقليدي الأسطوري والعقل العصري الواقعي.
وكل منهما في الواقع يعبر عن «رؤية للعالم» تختلف اختلافاً أساسياً في منطلقاتها وأطرها النظرية وما تفرضه من سلوكٍ عملي.