حازم الامين/«القاعدة» في سورية… مولود النظام وعدوه الذي يرتجيه

264

«القاعدة» في سورية… مولود النظام وعدوه الذي يرتجيه
حازم الامين/الحياة/19 نيسان/15

للنظام في سورية قدرة شيطانية على إنتاج الجماعات التكفيرية، أو ربما الأصح على توظيفها في برامجه. ومناسبة هذا الكلام معاودة مثقفين وكتاب سوريين مناقشة هذا الأمر، والنظر فيه انطلاقاً من مجريات ميدانية جديدة. ولعل أبرز هذه المجريات الهزيمة التي ألحقتها «جبهة النصرة» بجيش النظام في إدلب، وهنا تقدم السؤال: كيف يُمكن النظام أن يساهم في إنتاج جماعة ألحقت به هزيمة؟ وهل يصح الاعتقاد أن «النصرة» تعمل في خدمة النظام؟ وهذان السؤالان، وإن نمّا عن سذاجة في فهم كلا الجماعتين (النظام والنصرة) إلا أنهما يصلحان كبداية لاستدراج ذاكرة ليست بعيدة محشوة بالوقائع الدالة في سياق العلاقة بين الجماعتين.

لا يمكن التأريخ للعلاقة المعقدة بين النظام السوري والجماعات التكفيرية من دون العودة إلى ظاهرة «فتح الإسلام» في لبنان. ذاك أن «فتح الإسلام» تم تقميشها بالكامل في دمشق، وهي أدت وظيفة بالغة الأهمية للنظام السوري ولحلفائه اللبنانيين حينذاك، من دون أن تتمكن القوى المناوئة لهذا المحور من تبديد روايته الركيكة حول هذه الجماعة. فقد تحولت «فتح الإسلام» أيقونة تكفيرية وُضعت في رقبة خصوم النظام السوري اللبنانيين، وهم كما أقرانهم السوريون ارتبكوا بها وتصدعت صفوفهم نتيجتها.

صناعة «فتح الإسلام» جرت بمقدار كبير من الذكاء، واستعين خلال اختراعها بخبرات هائلة حصّلها النظام السوري خلال عقود من العمل الميداني مع هذه الجماعات اضطهاداً وتوظيفاً وتغطية. وهنا علينا العودة إلى ما قاله مسؤول «حركة فتح الانتفاضة»، الجماعة الموالية للنظام السوري في شمال لبنان، أبو ياسر ديب للصحافي نير روزن، في مقابلة كاشفة على نحو غير مسبوق لمجريات عملية إنتاج «فتح الإسلام»، علماً أن ديب ما زال مسؤولاً عن «فتح الانتفاضة» إلى اليوم، وهي ما زالت في حضن النظام السوري، وما قاله لم يأت في سياق مراجعة وظيفتها إدانة النظام.

والحــــال أنه لــــيس لدى النظام في سوريــــــة أي وهم بأن هذه الجماعات ستبقى في حظيرته بعد تهيئته الظروف لإطلاقها، ذاك أن وظيفتها تتمثل في خروجها من هذه الحظيرة وتحولها عدواً له. هذا ما جرى تمـــاماً مع «فتح الإسلام». الانطلاقة كانت أيضـــاً من سجون النظام، حيث كان شاكر العــــبسي محكوماً بالسجن لمدى الحياة. ثـــــم جـــرى ما جرى، وأهدى النظام في سورية لحلفائه اللبنانيين عدواً جعلوا يلصقونه بخصومهم، وهم نجحوا بذلك إلى حد بعيد.

هذه الخبرة هي كنز النظام وسلاحه الأكثر فاعلـــية في وجه خصومه اليوم. وهؤلاء بدورهم يبـــدون عجزاً يفوق عجز أقرانهم اللبنانيين خلال تخبطهم بـ «فتح الإسلام». ثم إن القول بمسؤولية النظام عن إنتاج هذه الجماعات لا يعني إطلاقاً أن المجتمعات والبيئات المعارضة لا تملك قابلية احتضان لها. هنا يكمن الذكاء الشيطاني للنظام، أي في معرفته واختباره مدى قابلية جماعة مثل «النصرة» و «فتح الإسلام» على العيش والتطـــور فـــي مجتمعاتنا المنهكة والمتنازعة وغير المنسجمة. أطلق «فتح الإسلام» حينذاك وراح «المجاهدون» من أصقاع الأرض يقصدون الإمارة المستجدة في شمال لبنان. وهؤلاء أعداء النظام في سورية وليسوا حلفاءه، لكن قدومهم لا يخدم سواه.

لهذا الكلام وقائع صلبة تؤكده ولا تقبل الشكوك. كما أن مجريات تكررت عشرات المرات في كل محطة من محطاته. الخطاب الذي يتبلور وفق مقتضياته واحد. ودائماً ينجح النظام في سورية في تقديم نفسه وحلفاءه بصفتهم منقذاً من الاحتمالات التكفيرية.

لا يمكن جهة أن تستفيد من نقل الثورة في سورية إلى حرب أهلية إقليمية أكثر من النظام. هذه المهمة ما كان يُمكن أن تتحقق له من دون وجود عدو مثل «النصرة» ولاحقاً «داعش» وما حولهما من جماعات أصغر مثل «أحرار الشام» و «جيش الإسلام». وإضافة إلى أن الأمراء السوريين لهذه الجماعات هم من المفرج عنهم من السجون السورية، فهم أيضاً ممن التحقوا متأخرين بمنازعة النظام، ومعظمهم دخل سجونه بعدما أدى وظائف «جهادية» خارج سورية، ضمن جماعات سهل النظام طريقها إلى العراق.

أن تكون «النصرة» قد هزمت النظام في إدلـــب فهذا ليس مؤشراً إلى براءتها أو إلى «نقاء» نشأتها. فالنظام هناك كان سيُهزم، وهــــو اختار أن يُهزم من طريق «النصرة» لا مـــــن طريق جماعة كان سيؤسس نصرُها عليـــــه لمستقبل مختلف لسورية. ثم إن نصر «النـــصرة» في إدلب هو طريق الحرب الأهلية التي اختارها النظام، فيما نصر جماعة غيرها ربما كان طريقاً لمستقبل مختلف.

لا بد من مراجعة خبرات النظام في سورية مع الجماعات التكفيرية حتى نفهم ما يجري اليوم في سورية. فقد أمضت مخابراته سنوات طويلة في العلاقة مع هذه الجماعات. لبنان والعراق وسورية كانت ساحات لهذه العلاقة، وفي الوقت الذي تولى النظام توظيفها، كانت هي أيضاً تختبر آليات العلاقة معه. هي تعرف أنه ليس مخلصاً لها إلا أنها تعرف أيضاً مقدار حاجته إليها. لا تُمانع في أداء وظائف له، وتخوض في الوقت نفسه حروباً دموية معه. التعاون بينهما بلغ ذروته في سنوات «الجهاد» في العراق، ثم صارت هدفاً للنظام بعدما عقد صفقته مع الأميركيين بعد 2009.

وفي هذه الأثناء تأسس خطاب «الحرب على التكفير». النظام يُدرك قابلية خصومه غير التكفيريين للسقوط في أفخاخه. فتيار المستقبل في لبنان التبست عليه «فتح الإسلام» فسهُل اتهامه بها، على رغم البدايات «الممانعاتية» الواضحة لهذه الجماعة. فهي تسللت إلى لبنان تحت جنح «حزب الله»، وفي بدايات «فتح الإسلام» رفع أمين عام «حزب الله» إصبعه المعهودة متوجهاً للجيش اللبناني قائلاً: «مخيم نهر البارد خط أحمر». ولاحقاً صار «المستقبل» هو المتهم.

اليوم يجري الأمر نفسه مع «النصرة» و «داعش». وتسقط المعارضة السورية في الفخ نفسه، لكنها تدفع أثماناً أكبر، في حين ينعم النظام بعدوّ يساعده في تحويل سورية إلى موطن حرب لا يبدو أن ثمة أفقاً لنهايتها، وبالتالي لنهايته.

أليس هذا كافياً للقول أن «النصرة» و «داعش» وغيرهما من الجماعات المشابهة لهما هي أبناء النظام.