تذكر اللبنانيون البارحة 13 نيسان (ابريل) 1975. تذكروا الرصاصات الأولى في حربهم الطويلة. حرب كان يفترض ان تكون انتهت مع توقيع اتفاق الطائف في 1989. وشاهدت على الشاشات لبنانيين يطرحون أسئلة صعبة: هل خرجنا فعلاً من الحرب؟ هل استخلصنا العبر اللازمة؟ وهل يمكن بناء السلام بالحجارة نفسها التي شيدت فيها جمهوريات الحرب؟ وكيف نكون خرجنا اذا كان قصر الرئاسة شاغراً؟ ونعيش في ظل حكومة هشة بطبيعتها؟ ألم يحن الوقت بعد لإلغاء النظام الطائفي في لبنان؟
أعرف حرقة اللبنانيين حين يقلبون صفحات دفتر خسائرهم. أوجاع من فقدوا أعزاءهم. ومن اقتلعوا من جذورهم. ومن انتظروا طويلاً معرفة شيء عن مصير مفقوديهم. لكن هل ثمة ما يبرر بعد الكتابة عن تلك الرصاصات الاولى في بيروت؟ وماذا عن 13 نيسان العراقي؟ والسوري؟ واليمني؟ والصومالي؟ والليبي؟ يخالجني شعور ان ذلك التاريخ اللبناني المؤلم خسر موقع الصدارة في لائحة الانهيارات العربية. القتل العراقي اشد. والقتل السوري اكثر هولاً. والتفكك الضارب في المنطقة أعمق بكثير من التفكك اللبناني وقد يؤدي الى ترسيخه وتعزيزه.
لا مبالغة في القول اننا نعيش اياماً أخطر من تلك التي عشنا عشية انطلاق الرصاصات الاولى في لبنان. وان صمامات الامان الدولية ضعيفة جداً وان صمامات الامان الاقليمية مفقودة الى درجة صب الزيت على أي نار تشتعل. وان التجاذبات الخارجية التي كان لبنان مسرحاً لها في 1975 هي أقل ضراوة وبكثير من التجاذبات الحالية التي استدرجت الى معاركها من كانوا قادرين سابقاً على لعب دور الاطفائي.
مثال بسيط وتحديداً عن سورية. شكا اللبنانيون طويلاً من سورية القوية. أي سورية المستقرة في ظل نظام صارم يعتبر الإمساك بأوراق داخل حدود جيرانه، وخصوصاً في لبنان، جزءاً من أمنه وقدرته على التفاوض مع كبار اللاعبين. بلغ الأمر حد ان النظام السوري أدمن إدارة لبنان لتطويعه وإعادة تشكيله وإلحاقه بسياساته. لكن الأكيد اليوم هو ان سورية المفككة أشد خطراً على لبنان من سورية الموحدة. لا يقتصر الامر على وجود أكثر من مليون لاجئ سوري في لبنان بل يتعداه الى الفرز الدموي الحاصل في سورية وارتسام حدود جديدة وخرائط جديدة داخل الخريطة السورية التي تعلمها اللبنانيون في كتب الجغرافيا.
تعاملت سورية مع المريض اللبناني بعد 13 نيسان 1975 بوصفها دولة متماسكة ومحصنة ضد وباء الطائفية اللبناني. عالجت المريض اللبناني على طريقتها. وها هي الحرب المدمرة في سورية تظهر ان تلك الدولة التي فرضت الاستقرار في لبنان، ولو بأثمان مرتفعة، خسرت قدرتها على فرض الاستقرار داخل اراضيها وتمزقت خريطتها. هناك ما هو أكثر. النقاشات الهادئة حول مستقبل سورية في وزارات الخارجية ومراكز الأبحاث تكاد تُجمع ان الحل يجب ان يقوم على «إنصاف السنّة وتطمين العلويين وإرضاء الأكراد». أي الحل اللبناني القائم على تسوية بين المكونات.
دعك عزيزي القارئ من الهجاء الذي يكيله السياسيون العراقيون للمحاصصة الطائفية. السياسات لا تشبه اللياقات. بكّر العراقيون في اعتناق شيء من النموذج اللبناني. غياب الواقعية المتبادلة أطال مرحلة الآلام وتبادل الضربات بين المكونات. غداة الغزو الأميركي للعراق طلب المبعوث الأميركي جاي غارنر ومعه السفير خليل زاد من المعارضة تشكيل حكومة موقتة لادارة البلد. وكان الأميركيون يعتقدون ان جلال طالباني هو المؤهل لقيادتها. لم ينجح الاقتراح «لأن بعض القوى كان يفكر ان رئيس الوزراء يجب ان يكون شيعياً». والكلام لطالباني نفسه. هذا الفشل ساهم في مجيء بول بريمير وما ارتكبه من حماقات.
حادثة أخرى معبّرة. في 2010 سألت الرجل القوي في العراق رئيس الوزراء نوري المالكي عن شعور السنّة بالتهميش فأجاب: «السنّة شركاؤنا وسنعطيهم ما يطمئنهم». وأظهرت الايام انه لم يعطهم ولم يطمئنوا. واليوم يتجدد الجدال نفسه. تحرير تكريت لا يحل المشكلة اذا لم يشعر المكون السنّي انه شريك حقيقي. غياب هذا الشعور يضاعف صعوبة معركة الموصل. كل الافكار المطروحة للحل تشبه تحسين الجرعات من الدواء اللبناني.
فضحت رصاصات 13 نيسان 1975 أحوال المريض اللبناني. خبأت دول المنطقة الحساسيات والكراهيات بين المكونات تحت الشعارات الفضفاضة وحواجب مدير المخابرات. تبين لاحقاً ان أمراض لبنان ليست غريبة. وان لبنان ابن الاقليم ولون مستقبله. حكومات هشة. ومؤسسات متصدعة. وجمهوريات صغيرة. ونزوح مجموعات سكانية. ونزاعات مذهبية وإرهاب. وحدود بلا هيبة. وجيوش صغيرة موازية تتحول قوى اقليمية. أعرف فجيعة من حلموا بالديموقراطية والمؤسسات وحقوق الانسان والاعتراف بالآخر. كانت حرب لبنان رسالة تشير الى الهاوية التي تنتظر الإقليم. أخطأ كثيراً من ابتهج برؤية المريض اللبناني يسعل دماً.