يكاد الجميع، في الشرق الأوسط وامتداداته، يعلّقون استحقاقاتهم وملفّاتهم ومصير صراعاتهم، على الاتفاق العتيد (القريب البعيد؟) في الملفّ النووي الإيراني، ويتقلّبون على نار المحادثات في سويسرا، بين هبّة ساخنة وأُخرى باردة، في لعبة شدّ حبال غير مأمونة النتائج.
وفي مقدّم المشهد، شكوك حول الموقف الأميركي، تُعمّقها زلاّت لسان جون كيري في تصريحاته، ثمّ سحبها أو نفيها أو توضيحها، ما يُضاعف البلبلة ويزيد ثقل الانتظار.
شكوك نتنياهو تتضاءل، وربّما تضمحلّ، بعد تحقيق غايته في العودة إلى رئاسة الحكومة الاسرائيليّة اللاحقة. أمّا شكوك العرب، ومن بينهم لبنان، فلا شيء يبرّدها أو يبدّدها حتّى الآن، وتحديداً في الثمن الذي وُعدت به إيران لإخضاع ملفّها النووي للمراقبة.
هذا الثمن، كما بات واضحاً، سيكون في تكريس النفوذ الإيراني حيث هو الآن في العالم العربي، من اليمن إلى العراق وسوريّا ولبنان وقطاع غزّة وبعض الموانىء والممرّات الحسّاسة، بما يجعل الخليج في شبه طوق، ويشغل الكتلتين السُنيّتين العظميين، مصر وتركيّا، في شؤونهما الداخليّة وخلافاتهما الخارجيّة.
وبالطبع، ليست الأثمان هذه مضمونة لإيران أو باتت في جيبها. فهي ذات نفوذ واضح الآن في المناطق المذكورة، والمطروح هو محافظتها عليها وليس توسيع إطارها. وحتّى احتفاظها بما حقّقت من مكاسب ليس ثابتاً أو مكرّساً، وذلك بفعل حضور القوى المناوئة لها، وهي قوى عربيّة وإقليميّة ذات شأن، ولا يمكن إهمال دورها وفاعليّتها.
قد تحصل إيران على أجزاء من القوس الذي تريده لإمبراطوريّتها، بدون أن يكون هذا القوس متكاملاً. فلا أحد في العالم، بما فيه روسيّا، يقبل أن تكون إيران طليقة اليد في هذا المدى الإمبراطوري الواسع والحيوي، وأن تُصبح منطقة الشرق الأوسط بكاملها، نفطاً وموانىء وعقدةَ طرق وتقاطعاً استراتيجيّاً بين قارات ثلاث، في عهدة ميتروبول فارسي تحت ستار شيعي.
في الأصل، هناك تواطؤ دولي قديم وصامت لضرب أيّ إمكان لقيام عملاق إسلامي سنّي من أندونيسيا إلى المغرب. وقد وجد هذا التوافق الأممي في إيران خير مثال لقصم ظهر هذا العملاق في وسطه.
وتضاعُف نفوذ إيران في السنوات الأخيرة لم يتمّ في غفلة عن هذه القوى الدوليّة، فطهران مكلّفة، من حيث لا تدري ربّما، “تكليفاً شرعيّاً” دوليّاً بكسر القوس السنّي الكبير، وهذا ما تفعله الآن بجدارة!
والمشروع الدولي ليس في وارد استبدال عملاق بآخر، وعينه ساهرة على المشروع الإيراني، وجاهز لتقليم أظافره عند الضرورة. فإيران الحالمة بإمبراطوريّة ساسانيّة جديدة ليست سوى موظّفة في المشروع الدولي الكبير، ورواتبها يتمّ صرفها بدقّة حسابيّة، إبتداءً من ملفّها النووي وصولاً إلى خطوات قاسم سليماني في العراق وسوريّا، ووعود حسن نصرالله ب “النصر مجدّدا”.
إذاً، نصيب إيران من التغييرات في المنطقة سيكون مبرمجاً ومحصوراً. غير أنّ التغييرات الكبرى غير المبرمجة وغير المحصورة، والأكيد غير المحسوبة لدى إيران، ستكون في داخلها، وعلى مستوى نظامها الاسلامي المقفل.
والثابت هو أنّ العالم لن يُصبح مثل إيران، بل العكس هو الصحيح: إيران هي المحكومة بالانتقال إلى حالة الغرب. لن نرى طهران، بتشدّدها ونظمها وتضييقها على الحريّات وأحاديّتها المذهبيّة وسلطة ملاليها نموذجاً عالميّاً يُحتذى، بل سنشهد القيم العالميّة تدقّ أسوار النظام الإيراني وتفتحه على نماذج الغرب، وفي التاريخ الحديث، قبل “الثورة الإسلاميّة”، ما يربط مع هذه الحال.
وليس صحيحاً أن نموذج الضاحية سيتمدّد على كلّ لبنان، بل لبنان هو الذي سيستعيد الضاحية.
قد يكون الغرور الإيراني قد بلغ مستوى ما قاله مستشار الرئيس روحاني، ولو تمّ تحويله إلى التحقيق المسرحي، لكنّ الثمن الذي ستدفعه طهران من ذاتها ونظامها ونفوذ أئمّتها أكبر وأعمق من مكاسب النفوذ التي تتباهى بها على العرب.
إيران مزهوّة الآن بالوجه الظاهر لما ستقبضه من أثمان ملفّها النووي، وتبدو غافية أو غافلة عن الوجه الآخر لأثمان باهظة ستدفعها.
تخسر نفسها، ولو ربحت بعض “هلالها”. وما يبدو لها ربحاً سيكون الخسارة بعينها.