مهى عون/في محدودية الغطرسة الأميركية

374

في محدودية الغطرسة الأميركية
مهى عون/السياسة/20 آذار/15

ما زال تصريح وزير الخارجية الأميركي جون كيري يثير موجات من الاستهجان, ناهيك عن استنكار الدول التي تحترم حقوق الإنسان وتؤدي دوراً محورياً في السياسة العالمية, وخصوصا تلك المتصلة بالوضع الإقليمي في الشرق الأوسط, وبالأزمات التي ما زالت عالقة, ولا سيما الأزمة السورية والملف النووي الإيراني.

في البداية, لا بد من التذكير أن منذ انهيار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي, تنامى النفوذ الأميركي عبر العالم من دون أي ضوابط أو عوائق تقابله أو تحد من تمدده, وكانت أميركا تتحكم بعربدة روسيا إلى حد بعيد, على عكس ما نشاهده اليوم من إطلاق العنان لرئيسها في ما يتعلق بأطماعه في مناطق تابعة لأوكرانيا, ومنها جزيرة القرم, وهي مازالت حتى الساعة تملي سياستها الإجمالية على الاتحاد الأوروبي, مع بعض التحفظات التي كانت تظهر بين الفينة والأخرى في المواقف الفرنسية, إلى حدٍّ باتت السياسة الأميركية تتحكم بالمسار السياسي على النطاق العالمي, وخصوصاً في ما يتعلق بمحور الشرق الأوسط, حيث النزعات المتعلقة بالأطماع في ما يختزنه من موارد طبيعية جبارة.

إلا أن هذه القوة العظمى التي لا تجارى باتت بعد إماطة اللثام عن برامج إيران النووية وكأنها راضخة ومسلِّمة لشروط الجمهورية الإسلامية في كل ما تفرضه, مقابل تخليها عن برنامجها النووي, وصولاً إلى اعترافها وقبولها بتسلط الجزارين والقتلة على الشعوب العربية المغلوبة على أمرها, ضاربة عرض الحائط بكل المبادئ والنظم الأخلاقية والإنسانية التي قام عليها الاتحاد الأميركي ومكنته من ادعاء قيادة العالم.

وبقي هذا المنحى الأميركي المنحرف واللاأخلاقي حتى الأمس القريب طي الكتمان, إلى أن أُعلن بشكل علني وفاقع, وغير مقبول, ومرفوض من العقل الأوروبي والإسلامي, إثر التصريح المخجل لوزير الخارجية الأميركي جون كيري المتعلق ببقاء الرئيس السوري, وبالحاجة إلى التحاور معه بشأن مستقبل سورية. حتى روسيا, المناهضة للسياسة الأميركية والتي كانت قابلة بمقايضة لمصلحتها في أوكرانيا, نأت نسبياً عن الولايات المتحدة, حين سلَّمت علناً بوجوب التحاور مع الأسد, بانكفاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وإحجامه حتى عن التعليق عليه, مؤثراً الاختفاء عن الساحة السياسية الإقليمية, قبيل تصريح الوزير الأميركي المخزي والمعيب.

وعلى الصعيد الأوروبي, أثار موقف الإدارة الأميركية عاصفة من الاستنكار, حيث أشارت وزارة الخارجية الفرنسية إلى تصريحات وزير خارجيتها لوران فابيوس في (فبراير) الماضي بأن محادثات إنهاء أزمة سورية يجب أن تضم عناصر من النظام الحالي وأعضاء من المعارضة تمهيداً لتشكيل حكومة وحدة وطنية ورسم مستقبل جديد لسورية من دون بشار الأسد, وعادت فرنسا مجدداً إلى تأكيد أنها لا تزال على موقفها المتشدد من الانفتاح على الرئيس السوري, وكرر فابيوس قوله: “من الواضح أن بشار الأسد لا يمكن أن يكون داخل هذا الإطار”, الأمر الذي عكسته ردود الفعل العنيفة على زيارة البرلمانيين الفرنسيين الأربعة إلى دمشق قبل أسبوعين, إذ نددت بها أعلى السلطات ووصفها رئيس الحكومة مانويل فالس ب¯”الغلطة الأخلاقية”. وليس سراً أن باريس تلتزم موقفاً متشدداً مما يجري بين كيري وظريف, ولا تتردد في التعبير عن “تحفظها” إزاء التسرع الأميركي, وتؤكد الحاجة الى اتفاق “صلب” يوفر كل الضمانات لجهة سلمية البرنامج النووي الإيراني, مع التذكير أنها كانت انتقدت في خريف 2013 بشدة تراجع الرئيس أوباما في اللحظة الأخيرة, عن توجيه ضربة عسكرية للنظام السوري, بعد استخدام السلاح الكيماوي على نطاق واسع في 21 أغسطس من العام المذكور في الغوطتين الشرقية والغربية, وعبَّر كبار المسؤولين الفرنسيين أكثر من مرة عن تذمرهم من “تذبذب” المواقف الأميركية, ومنها على سبيل المثال رفض واشنطن إيجاد مناطق آمنة داخل سورية, أو مناطق حظر طيران لحماية المدنيين, أو المعارضة, بل لم يتردد الوزير فابيوس في القول, إنه “لو لم يتراجع الأميركيون, لما كان الوضع في سورية على ما هو عليه اليوم”.

بدورها جددت بريطانيا, حليفة الولايات المتحدة الأولى, التأكيد على أن الأسد “ليس له مكان” في مستقبل سورية, استكمالاً لإعلان وزير خارجيتها فيليب هاموند الأسبوع الماضي: “إننا مستمرون في ممارسة الضغوط على هذا النظام, عبر العقوبات إلى أن يضع حداً لأعمال العنف ويدخل في مفاوضات جدية مع المعارضة المعتدلة”.

وتركيا أيضاً كان لها نصيب من التنديد بتصريحات كيري, فقال وزير خارجيتها مولود جاويش أوغلو, إن مشكلات سورية الحالية سببها نظام الأسد. ونقلت عنه وكالة “الأناضول” قوله خلال زيارة إلى كمبوديا: “ماذا هناك لكي يتم التفاوض حوله مع الأسد?”,واضاف: “أي مفاوضات ستجرى مع نظام, قتل أكثر من 200 ألف شخص واستخدم أسلحة كيماوية”? متسائلاً عن جدوى التفاوض في ظل نتائج المفاوضات السابقة.

هذه المواقف الأميركية جميعاً إن دلت على شيء, تدل على حدود الغطرسة الأميركية وعلى أن الحجم الذي تدعيه لهيمنتها على صناعة القرار عبر العالم, ليس كاملاً ونافذاً كما تدعي. وقد يكون وقوف فرنسا وبريطانيا وتركيا في وجه الولايات المتحدة اليوم, لأن الدول الثلاث اعتبرت ذلك ضرورياً, لما يشكله الموقف الأميركي من تعارض مع تاريخها العريق في الالتزام بشرعة حقوق الإنسان, كما يتعارض مع تاريخ الدولة التركية المتمسكة بوجهها الإسلامي المعتدل. لقد عانت فرنسا في الآونة الأخيرة, من جملة الضغوط الإرهابية التي مورست عليها, تمهيداً لتدجينها وحملها على الرضوخ للقرارات المتوقع صدورها بخصوص الملف النووي الإيراني, لكنها على ما يبدو غير مستعدة للرضوخ, كما أن تركيا, رغم جملة الأحداث والاضطرابات التي تم افتعالها في الداخل التركي لتطويعها للقبول ببقاء الرئيس السوري, آثرت عدم التخلي عن حقوق الشعب السوري.

وبالمختصر: لقد أظهرت الثورة السورية حقيقة حجم النفوذ الأميركي ودوره في المنطقة, وأن البلطجة السورية المدعومة أميركياً لم ولن تؤثر في العالم الحر والتوجهين الأوروبي والإسلامي في ما يخص الأزمة السورية, ولو افتُعلت أحداث عنف في فرنسا وتركيا من أجل إرضاخهما لإرادة الولايات المتحدة الداعمة لإيران والمطالِبة ببقاء الأسد, وفقط من أجل التوصل إلى توافق يرضي إيران بخصوص ملفها النووي.

* كاتبة لبنانية