الـيـاس الزغـبـي/الاستقلال الرابع

265

الاستقلال الرابع 

 الـيـاس الزغـبـي/لبنان الآن

يكاد لبنان يكون الدولة الوحيدة التي تبحث دائماً عن استقلالها، وكأنّ الاستقلال صخرة “سيزيف” لا يكاد يوصلها إلى القمّة حتّى تتدحرج في المنحدر! نحن الآن في خضمّ السعي إلى استقلالنا الرابع بعد سبعة عقود. طوينا الاستقلال الأوّل عن الانتداب الفرنسي، فالثاني عن الاحتلال الإسرائيلي، فالثالث عن الاحتلال السوري، وبلغنا مرحلة البحث في الاستقلال الرابع عن الاحتلال الذي يُمكن وصفه بالداخلي أو الإيراني المقنّع. وفي حين أنّ اللبنانيّين توحّدوا حول الاستقلال الأوّل، وحاولوا بناء دولة مستقلّة بعد 1943، وتلاقوا حول الاستقلال الثاني، وحاولوا تثمير تحرير جنوب لبنان بعد الـ 2000، إلاّ أنّهم انقسموا على الاستقلال الثالث، وذهب نصفهم إلى تأييد المحتل السوري بعد الـ 2005، وكأنّ هذا النصف ساءه التحرّر والاستقلال عن الوصاية.

أين تكمن المشكلة الآن؟ لا يخفى أنّ فريق “حزب الله”، 8 آذار بخلفيّته الإيرانيّة – السوريّة، لا تعنيه الذكرى الـ 71 للاستقلال، وليس في أدبيّاته وإعلامه وبرامجه وثقافته الاحتفال بالمناسبة. وقد امتدّت العدوى من “حزب الله” نفسه إلى حلفائه، حتّى المسيحيّين منهم، فغابت عنهم الذكرى، وأصبح 22 تشرين الثاني مجرّد يوم في الروزنامة. كما لا تعنيه ذكرى تحرّر لبنان من الجيش السوري في 26 نيسان 2005، وينظر إلى انتفاضة الاستقلال الثاني المعروفة بـ”ثورة الأرز” بعدائيّة موصوفة. ولا يرى في السلاح المتفلّت في الداخل والمتورّط في سوريا إلاّ سلاح “مقاومة”، ولا يتردّد في وصفه بحامي الاستقلال والسيادة.

مفارقة مدمّرة: سلاح غير شرعي يحمي السيادة والاستقلال الشرعيَّيْن! وقد باتت كلمة “مقاومة” مطّاطة وفضفاضة تتّسع لأكثر من تبرير وتفسير، برغم ابتعادها جدّاً عن معناها الأصلي، مقاومة إسرائيل. أصبحت “مقاومة” الخطر على المقامات والمراقد، وللدفاع عن القرى ذات المذهب الواضح، و”مقاومة” التكفيريّين، و”مقاومة” لحماية نظام غير لبناني، و”مقاومة” المشروع الأميركي الغربي والسياسة الخليجيّة والسعوديّة والتركيّة..

وغداً “مقاومة” لا نعرف ضدّ مَن وأين ومتى. وهذه “المقاومة” ترهن مستقبل لبنان لقرار مرجعيّتها: فلا رئيس جمهوريّة إلاّ من صلبها، ولا انتخابات نيابيّة إذا لم تضمن أكثريّتها، ولا مؤسّسات مليئة إذا لم تقدّم لها الغطاء. إبتزاز سياسي أمني إجتماعي إقتصادي متكامل لتأمين ورقة إضافيّة للمرجعيّة المفاوضة في مسقط وفيينا. لذلك، فإنّ إنجاز الاستقلال الرابع يكمن في تخليص لبنان من ورطتين: ورطة السلاح غير الشرعي الذي يجسّده “حزب الله” بامتياز، وورطة الانزلاق في الحرب السوريّة وتقديم الأوراق لمساومات طهران. وقد بدأ هذا الاستقلال بورقة ظهرت في بدايتها عاديّة تجميليّة، هي “إعلان بعبدا”، ثمّ تعاظمت قيمتها لترقى إلى مستوى المواثيق والنصوص التأسيسيّة. ولا استقلال فعليّاً إلاّ بتطبيق مبدأ تحييد لبنان كما نصّ عليه الإعلان.

لقد باتت معالم الاستقلال الثابت واضحة: إنهاء وصاية السلاح الداخلي غير الشرعي، وإنهاء التورّط في حروب الآخرين. فلا استقلال مع بقاء نصف لبنان ملتزماً مشروعاً غير لبناني. وطالما أنّ هذا النصف غارق خارجيّاً كما هي الحال راهناً، فلا أمل باستقلال واستقرار وسيادة وبناء دولة. وفي حال الالتزام بلبنان المحايد، لا نعود في حاجة للبحث عن استقلال خامس وأكثر، بل نكسر الحلقة المفرغة لسعينا السيزيفي الدهري. لبنان يستحقّ استقلاله الرابع.. الثابت والأخير.